الأتراك يلمسون تراجع نفوذ الجيش في حياتهم اليومية

كشف خطط الانقلاب تزامن مع مساعي تغيير الدستور وتقليل إبراز صور أتاتورك

TT

منذ تأسيس الجمهورية التركية، قبل 87 عاما، يعتبر الجيش حامي الديمقراطية العلمانية، ويتدخل كلما رأى ذلك ضروريا من أجل إبعاد الدين عن الساحة السياسية في هذه الدولة ذات الغالبية المسلمة. ولكن، في الوقت الحالي، وبسبب مزاعم بالفساد وفضائح أخرى، ضعفت سلطة الجيش الذي لم يكن ليجرأ أحد على الوقوف ضده، وسط شعب يزداد حزما وثقة يوما بعد آخر. ويضم المنتقدون مجموعة متنوعة من أنصار الديمقراطية، ونساء مسلمات ترتدين الحجاب، وصحافيين، وآخرين يرون أن سيطرة الجيش على السلطة أفادت بدرجة كبيرة النخبة العلمانية والأثرياء.

وتنهار المحظورات القديمة وسط اعتراضات جديدة تتعلق بالنظام السياسي العسكري الذي أسسه مصطفى كمال أتاتورك. وتتذكر سيرين بجهة، 25 عاما، وهي طالبة دراسات عليا في إسطنبول، الخروج في الشوارع داخل أنقرة في إطار احتجاجات على نفوذ الجيش داخل الساحة السياسية الداخلية عام 2007. وتقول إنه عندما لم تتعرض للاعتقال «عرفت في هذه اللحظة أن تركيا قد تغيرت».

ويقوم الأتراك حاليا بمناقشة الجيش وانتقاده بحرية، والحدث الأكثر أهمية يتمثل في إلقاء القبض على ضباط كبار، كانوا في السابق يتمتعون بحصانة من المقاضاة، بعد اتهامهم بالتآمر للإطاحة بحزب رئيس الوزراء، رجب طيب أردوغان، من سدة الحكم. وقد اتهم الضباط بالمشاركة في تنظيم سري يعرف باسم «إيرجينيكون» والتآمر للإطاحة بأردوغان بعد انتخابه في عام 2002. وقد أربكت عمليات الاعتقال الجيش الذي تعتمد عليه واشنطن.

وتريد الولايات المتحدة من تركيا المضي قدما في الإصلاحات الديمقراطية، لكنها تريد أيضا أن يبقى الجيش التركي قويا وحليفا يعتمد عليه داخل المنطقة. وقد أشار الرئيس الأميركي، باراك أوباما، إلى أهمية تركيا، التي لها حدود مع إيران والعراق وسورية، قبل عام عندما جعلها مقصده الدولي الأول بعد توليه منصب الرئيس.

وبعد زيارة قبر أتاتورك، قال أوباما أمام البرلمان التركي: «إن أعظم إرث تركه المؤسس يتمثل في الديمقراطية العلمانية القوية داخل تركيا»، وهذا الإرث هو محور الصراع على السلطة حاليا داخل الدولة التركية.

يدعو أردوغان إلى إصلاحات كبرى يقوم من خلالها تعديل الدستور العسكري الذي يبلغ عمره 28 عاما داخل البلاد وإجراء إصلاحات على تشريعات تتناول مقاضاة الضباط العسكريين. وخلال استطلاع رأي أجري مؤخرا، قال 58 في المائة من المشاركين في الاستطلاع إن تركيا في حاجة إلى دستور مدني، بينما قال 20 في المائة إنها ليست في حاجة إلى ذلك. وقبل 3 أشهر، مُرر قانون يحد من دور الجيش ويقصره على الحماية من التهديدات الخارجية بدلا من التهديدات الداخلية المفترضة.

ولا يتولى إدارة الجيش التركي قادة مدنيون، على عكس الحال داخل الولايات المتحدة، حيث إن الرئيس هو القائد العالم للقوات المسلحة. وتقول ياسمين كونغار، 43 عاما، رئيسة تحرير صحيفة «طرف»: «لا يعتبر رئيس أركان الجيش التركي نفسه تابعا لوزير الدفاع، ولا يعتبر نفسه تابعا لرئيس الوزراء أيضا». ويذكر أن صحيفة «طرف» عمرها عامان، وقد نشرت معظم القصص الإخبارية التي تناولت تنظيم «إيرجينيكون». وأضافت كونغار: «داخل تركيا، لم تكن الحكومات المنتخبة تحوز السلطة في الحقيقة، وهذا ما يتغير حاليا. كان هناك فكر سائد ينص على أن عليهم الامتثال للجيش، فهو مؤسس الجمهورية وحارس النظام والوصي على النظام العلماني. ولكن ذلك يتغير حاليا، إلا أنها عملية صعبة للغاية».

وبسبب دورها المحوري الخطر في الكشف عن مؤامرة «إيرجينيكون»، تسافر كونغار ومعها حراس شخصيون. وهي حريصة على أن لا تذهب للعمل عبر مضيق البوسفور الذي يقسّم إسطنبول ويفصل أوروبا عن آسيا، خوفا من تعرضها للاغتيال.

ويكتنف قضية «إيرجينيكون» كثير من التعقيدات، وبها مؤامرات كثيرة مفترضة، مثل تخطيط الجيش لتفجير مساجد من أجل إحداث فوضى داخل البلاد. ويقول بعض الأتراك إن هذه القصص خيالية أكثر منها حقيقية. ولكن كثيرين يقولون إنها تبدو صحيحة داخل هذه الدولة التي يتمتع جيشها بتاريخ في القيام بانقلابات من أجل الإطاحة بحكومات لا يحبها. وبالنسبة إلى الكثيرين، فإن النقطة الأكثر أهمية في قضية تنظيم «إيرجينيكون» أنها تم مناقشتها، وأن الجيش لم يكن قادرا على تفنيدها. ويقول دبلوماسي غربي داخل أنقرة، تحدث شريطة عدم ذكر اسمه: «الأمر المهم بخصوص قضية (إيرجينيكون) ليس وقوعها، فهناك جزء من الحقيقة في هذه المزاعم. الأمر المهم المرتبط بذلك هو أنهم تمكنوا من الكشف عن هذه الأشياء حتى الآن من دون أزمة».

وبعيدا عن المقدار الأكبر من الانتقادات الموجهة صراحة للجيش، يشهد المجتمع تغيرا بصورة أكثر وضوحا. وعلى الرغم من أن صورة أتاتورك لا تزال في كل مكان تقريبا، فإن تركيا عندما أصدرت عملة جديدة العام الماضي، وُضعت صورة مؤسس الجمهورية التركية على جانب واحد فقط من العملة بدلا من وضع صورته على الجانبين كليهما. ولم يعد الجيش يحرس مبنى البرلمان، وهو ما يمثل تغيرا رمزيا.

ومع ذلك، يحظى الجيش بعدد كبير من المناصرين الذين يعتقدون أنه يقف ضد تقويض الدين للهوية العلمانية للبلاد. ويشك الكثيرون هنا، على سبيل المثال، في أن أردوغان يريد أن يحول تركيا إلى دولة إسلامية. ويذكر المنتقدون محاولة أردوغان السماح للنساء بارتداء الحجاب داخل الجامعات الحكومية، وهذه قضية سياسية مهمة هنا، وسعيه إلى تجريم الزنى. وقد فشل أردوغان في الأمرين كليهما. كما تم دق ناقوس الخطر عندما دعا إلى فرض ضرائب على التبغ والكحول، وكلاهما محرم في الإسلام.

وربما تتمثل المشكلة السياسية الأكبر لأردوغان في أنه فشل في إقناع الكثيرين من النخبة التقليدية بأنه لا يريد التعدي على الحريات العلمانية. ومن بين المنتقدين البارزين له الجنرال المتقاعد هالدون سولمازتورك، الذي يقول إنه لا يثق بأن أردوغان سيتخذ قرارات تحمي العلمانية التركية.

ومع ذلك، يشك كثير من الأتراك في أن نظرة أتاتورك تناسب تركيا الحديثة المتنوعة، التي تمثل قوة إقليمية واقتصادية واعدة تتطلع إلى الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي. وتتوقع كينار، طالبة الدراسات العليا داخل أنقرة، استمرار الاحتجاجات ضد الدور البارز الذي يلعبه الجيش في المجتمع، وتقول: «الإفراط في استخدام أتاتورك خلق جيلا مثلنا».

* خدمة «واشنطن بوست» - خاص بـ«الشرق الأوسط»