التحقيقات حول تحطم طائرة الرئيس البولندي تركز على قرار الهبوط

الكارثة الجوية البولندية يمكن أن تغير العلاقات بين الشرق والغرب في أوروبا

إعلانات التعازي في الرئيس البولندي ليخ كازينسكي ملأت الصحف في العاصمة وارسو، أمس، تعبيرا عن مشاعر الحزن لدى البولنديين على فقد رئيسهم الذي لقي حتفه في تحطم طائرة مع زوجته ماريا و94 آخرين بينهم عدد من المسؤولين بالحكومة والقادة العسكريين «إ.ب.أ»
TT

على ما يبدو، ينصب اهتمام فريق المحققين الذي يعكف على تفحص حادثة تحطم طائرة الرئيس البولندي على السبب وراء عدم التزام الطيار بالتعليمات الصادرة إليه من ضباط المراقبة الجوية بالتوقف عن محاولة الهبوط في ظل أحوال جوية سيئة في غرب روسيا.

وقال تقرير لـ«نيويورك تايمز»: ربما يثير هذا التحقيق تساؤلا يتسم بقدر أكبر من الحساسية: ما إذا كان الطيار قد شعر بضغوط عليه للهبوط لضمان عدم تأخر الوفد البولندي عن احتفالية رسمية كان مقرر عقدها السبت في غابة كاتين، حيث تعرض أكثر من 200.000 ضابط ومواطن من بولندا للقتل على يد قوات سوفياتية أثناء الحرب العالمية الثانية. وقد عثر المسؤولون عن التحقيق على تسجيل صوتي خاص بالطائرة، لكن حتى الأحد لم يكشفوا عن نصوص المحادثات التي دارت داخل كابينة القيادة أو برج المراقبة الجوية. ومع ذلك، تحولت الأنظار إلى الحالة الذهنية للطيار، نظرا لحادثة سابقة تضمنت الرئيس البولندي ليخ كازينسكي، الذي لقي مصرعه في حادث تحطم الطائرة، بجانب الكثير من كبار مسؤولي حكومته وقادته العسكريين. في أغسطس (آب) 2008، أثناء الحرب الوجيزة التي اندلعت بين روسيا وجورجيا، اندلع شجار بين كازينسكي وطيار كان يقود طائرته نحو العاصمة الجورجية، تبليسي، طبقا لتقارير ظهرت آنذاك. كان كازينسكي قد طالب الطيار بالهبوط رغم مواجهته ظروف خطيرة، لكن الطيار رفض وحول مسار الطائرة إلى أذربيجان المجاورة. ونقلت صحيفة «دزينيك» البولندية حينها أن الرئيس هدد بمعاقبة الطيار عما فعله. وقال كازينسكي: «إذا قرر شخص ما العمل بمجال الطيران، فعليه ألا يكون جبانا. بعد العودة إلى الوطن، سنتعامل مع هذا الأمر». ولم يتعرض الطيار لعقاب، وإنما حصل على ميدالية عرفانا بجهوده. ومع ذلك، اعترف وزير الدفاع لاحقا بأن الطيار عانى من اكتئاب في أعقاب هذا الحادث. من جانبه، أشار ليخ فاونيسا، الرئيس البولندي السابق، في تصريحات لصحيفة «غازيتا ويبركزا» خلال عطلة نهاية الأسبوع، إلى أنه في مثل هذه المواقف، يسعى قائد الطائرة إلى استطلاع وجهات نظر قيادات الحكومة على متن الطائرة.

وقال: «حال وجود أي شكوك، عادة ما يجري التحدث إلى القيادات الحكومية للتعرف على قرارها، وعلى هذا الأساس فقط تتحدد طبيعة الخطوات التالية. في بعض الأحيان، يتخذ قائد الطائرة القرار بنفسه، حتى وإن جاء معارضا للتوصيات التي تلقاها. لا نعرف بعد ماذا حدث، لذا دعونا نترك تفسير هذا الأمر إلى الخبراء». المعروف أن مسؤولين من روسيا وبولندا يشاركون في التحقيقات الجارية حول حادثة التحطم، التي أسفرت عن مصرع 96 شخصا. وقالوا إن الدلائل الأولية تشير إلى عدم وقوع أي عطل بالطائرة، رغم أن عمرها يبلغ 20 عاما وتنتمي إلى طراز «توبوليف» سوفياتي الصنع. ويعكف على دراسة الحادثة عدد من المدعين والباثولوجيين والأطباء الشرعيين والمحققين المتخصصين في حوادث تحطم الطائرات، داخل كل من موسكو وموقع الحادث في مدينة سمولنسك.

على امتداد عطلة نهاية الأسبوع، بدت الحكومة الروسية منحرفة عن نهجها التقليدي، حيث أبدت أسفها الشديد للحادث وعزمها إجراء تحقيق واسع النطاق بشأنه، الأمر الذي لاقى استقبالا طيبا في بولندا. المعروف أن عدم ارتياح ساد العلاقات بين البلدين لأمد طويل، رغم أنها تحسنت في الفترة الأخيرة.

كان فلاديمير بوتين، رئيس الوزراء الروسي، قد توجه إلى سمولنسك، أول من أمس، لحضور احتفالية بتأبين كازينسكي وإعادة جثمانه إلى بولندا. وحمل جنود روس ارتدوا في أذرعهم شارات حمراء وسوداء النعش الذي ضم الجثمان، بينما عزفت فرقة موسيقية عسكرية النشيدين الوطنيين البولندي والروسي. ووضع بوتين والسفير البولندي أكاليل من الورود الحمراء بجانب النعش المغطى بالعلم البولندي الذي يحمل اللونين الأحمر والأبيض. وحمل حرس الشرف العسكري البولندي النعش إلى داخل طائرة عسكرية لإعادته إلى الوطن. في سمولنسك، عقد بوتين اجتماعا مع عدد من كبار المسؤولين الروس المعنيين بالسلامة العامة وفرض القانون جرت إذاعته في وسائل الإعلام الروسية الوطنية. خلال الاجتماع، أخبر ألكسندر آي. باستريكين، رئيس لجنة التحقيق التابعة لمكتب المدعي العام الروسي، بوتين أن التحقيقات الأولية توحي بأن الحادث ناجم عن خطأ اقترفه الطيار. وقال: «أخطر الطيار بوجود ظروف مناخية سيئة، ومع ذلك اتخذ قراره بالهبوط». وأعلن مسؤولون روس، السبت، أن ضباط المراقبة الجوية أخطروا مسؤولي الطائرة عدة مرات بعدم الهبوط في ظل ضباب كثيف، وحذروهم من أن الهبوط إلى ارتفاع شديد الانخفاض وأوصوا بأن يتجهوا إلى مطار آخر.

الأحد، نشرت خدمة الأخبار الروسية، «لايفنيوز رو»، مقابلة أجريت مع مسؤول أشير إليه باعتباره ضابط مراقبة جوية بالمطار. وقال المسؤول إن الطيار في أعقاب محاولته الهبوط عدة مرات، ألمح لرغبته في المحاولة مجددا. وأشار إلى أن الطيار «قال إنه إذا لم يستطع الهبوط، فسيتجه إلى مطار بديل». وأضاف ضابط المراقبة الجوية أنه عند هذه اللحظة، طلب مسؤولو المراقبة الجوية من الطيار تحديد ارتفاعات الطائرة، لكنه توقف عن الاتصال ببرج المراقبة.

من جانبه، أعرب مارك في. روزنكر، الرئيس السابق لـ«الهيئة الوطنية لسلامة النقل» في الولايات المتحدة وميجور جنرال متقاعد من القوات الجوية، عن اعتقاده بأن إقدام الطائرة على محاولة الهبوط عدة مرات توحي «بأن هؤلاء الأشخاص رغبوا في إنجاز المهمة فعلا بأي ثمن». جدير بالذكر أن روزنكر كان رئيس المكتب العسكري بالبيت الأبيض في عهد الرئيس جورج دبليو. بوش، وبالتالي كان مسؤولا عن تنقلات الرئيس. وصرح، أول من أمس، بأن الطيار البولندي كان باستطاعته اتباع تحذيرات ضباط المراقبة الجوية، لكنه اختار عدم القيام بذلك. وفسر ذلك بأن الطيار رأى «أنه سيتعين عليه تبرير الأمر لمسؤول ما إذا ما هبط في مكان آخر، الأمر الذي ربما ينطوي على صعوبة».

وقال خبراء إن الكارثة الجوية التي أودت بحياة الرئيس البولندي ليخ كاتشينسكي يمكن أن تغير الوضع بين روسيا وبولندا وتؤدي إلى تأثير أكبر على العلاقات بين الشرق والغرب في أوروبا. وسارعت الحكومة الروسية بعد الحادثة إلى توجيه رسالة تعزية إلى بولندا. فالقادة الروس يدركون أن الحادثة التي وقعت في نفس المنطقة التي شهدت قبل سبعين عاما مقتل أكثر من عشرين ألف ضابط بولندي بيد الجيش الروسي، يمكن أن تقوض جهودهم لإعادة العلاقات مع وارسو.

وقال فيودور لوكيانوف رئيس التحرير في نشرة «راشا إن وورلد افيرز» إن القادة الروس «برهنوا على سرعة لا سابق لها في مساعدة بولندا بدءا بالتحقيق وانتهاء بعملية التعرف على الجثث». وبولندا، العضو في الاتحاد الأوروبي، هي أقوى الدول التي كانت تدور في فلك الاتحاد السوفياتي قبل انهياره. وهذه الدول الشرقية، بما فيها بلدان البلطيق الثلاثة التي كانت جمهوريات سوفياتية منتمية إلى حلف وارسو، تتمتع اليوم بتأثير متزايد على السياسة الخارجية للاتحاد الأوروبي. ومع أن روسيا تقيم علاقات ممتازة مع ألمانيا، المؤثرة جدا في أوروبا الشرقية، فإن العلاقات الروسية - البولندية تشكل لب الحراك بين الشرق والغرب في عملية القرار السياسي في الاتحاد الأوروبي. فإذا تحسنت العلاقات الثنائية، ينعكس ذلك على العلاقات بين موسكو والاتحاد الأوروبي على الرغم من الخلافات الكثيرة في الاتحاد الأوروبي حول طريقة التصرف مع روسيا. وفي الساعات التي تلت الكارثة، أعلنت وزارة الخارجية الروسية أن تأشيرات دخول ستمنح بسرعة للبولنديين الراغبين في التوجه إلى روسيا للمشاركة في التحقيق والتعرف على الجثث. وأكدت السلطات الروسية الأحد من جديد أن الخبراء البولنديين يشاركون مشاركة كاملة في التحقيق. وقال ارسيني روجينسكي من المنظمة الروسية غير الحكومية «ميموريال» المتخصصة في الأبحاث عن تاريخ السوفيات إن «كره الروس في ضمير بولندا لا يمكن إلا أن يتعزز». وأضاف لـ«إذاعة أوروبا الحرة»: «لا يهم ما يقوله قادة البلاد، بل ما يؤمن به الشعب».