الأرقام تدحض الصورة النمطية عن مهاجري أميركا

يغذون اقتصاد المدن الكبرى ويتساوون مع الشرائح الأخرى في الوظائف والأجور

ساندي تساي، مهاجرة من الصين فتحت عملا تجاريا مع زوجها في سانت لويس («نيويورك تايمز»)
TT

بعد انتهائها من مسؤوليات عملها كمسؤولة تنفيذية بإحدى الشركات، تعشق أمبارو كولمان مور، وهي مهاجرة من كولومبيا، قيادة سيارتها طراز «جاغوار» والتسوق داخل متجر «ساكس». وعلقت على هذا بقولها: «إنها حياة طيبة، ونزهة جميلة حقا».

باعتبارها واحدة من النخبة الاقتصادية في هذه المدينة (التي تعد الأكبر في ولاية ميسوري)، لا تشكل كولمان مور استثناء بين المهاجرين الذين يعيشون في سانت لويس. وطبقا لتحليل جديد لبيانات الإحصاء السكاني، فإن أكثر من نصف العمال المهاجرين داخل هذه المنطقة الحضرية يعملون بوظائف «أصحاب الياقات البيضاء» مرتفعة الأجر، كمهنيين وفنيين ومدراء، وليس في وظائف «أصحاب الياقات الزرقاء» أو أصحاب الخدمة متدنية الأجر.

بين المدن الأميركية، لا تشكل سانت لويس استثناء، حسبما تكشف البيانات، ذلك أنه داخل 14 من بين أكبر 25 مدينة في البلاد، بما في ذلك بوسطن ونيويورك وسان فرانسيسكو، تفوق أعداد العمال المهاجرين المشتغلين بوظائف «أصحاب الياقات البيضاء» أعداد نظرائهم ممن يعملون بوظائف منخفضة الأجر كتلك الموجودة في قطاعات البناء والتصنيع والتنظيف.

وتدحض هذه البيانات وجهة نظر شائعة يجري ترديدها كثيرا في خضم الجدال المحتدم على الصعيد الوطني حول قضية الهجرة - ويشير إليها مشرعون ومفكرون وأنصار لجميع الأطراف المختلفة في القضية - وتدور حول أن الارتفاع الشديد في معدلات الهجرة إلى الولايات المتحدة على مدار العقدين الماضيين أغرق البلاد بأعداد ضخمة من العمال الأجانب منخفضي الأجر.

بوجه عام، أظهر التحليل أن الـ25 مليون مهاجر الذين يعيشون في المدن الأميركية الكبرى (ويشكلون قرابة ثلثي إجمالي المهاجرين على مستوى البلاد) موزعون بالتساوي تقريبا عبر مختلف الشرائح المرتبطة بالوظائف والأجور. وأعرب ديفيد ديزيغارد كاليك، مدير شؤون أبحاث الهجرة لدى «معهد السياسة المالية»، وهو معهد غير حزبي مقره نيويورك وتولى إجراء تحليل بيانات الإحصاء السكاني لحساب «نيويورك تايمز»، عن اعتقاده أن «الولايات المتحدة تستقبل تدفق المهاجرين بشكل أكثر تنوعا وأهمية من الناحية الاقتصادية عما يبدو لدى الرأي العام».

وتنبع أهمية النتائج من أن آراء الأميركيين تجاه قضية الهجرة تعتمد في معظمها على طبيعة المهن التي يشتغلها المهاجرون، حسبما توصل بحث جديد. وفي هذا الصعيد، أوضح جينز هينمولر، وهو خبير سياسي لدى «معهد ماتشوستس للتكنولوجيا» واشترك في إجراء مسح للتوجهات إزاء الهجرة مع مايكل جيه. هسكوس، بروفسور في جامعة هارفارد، أن «الأميركيين، سواء كانوا أغنياء أو فقراء، يولون تأييدا أكبر بكثير إلى المهاجرين من العمالة الماهرة. وشمل المسح عينة من 1600 بالغ، وعمد إلى تفحص أسباب مشاعر مناهضة الهجرة داخل الولايات المتحدة. ونشر المسح بدورية «أميركان بوليتيكال ساينس ريفيو» في عدد فبراير (شباط) الماضي.

وتوصلت الدراسة إلى أن الأميركيين يميلون إلى الترحيب بالشرائح الأعلى من المهاجرين، أمثال كولمان مور، لاعتقادهم أنهم يسهمون في النمو الاقتصادي من دون زيادة الأعباء على الخدمات العامة. في المقابل، يعارض أكثر من 60% من الأميركيين السماح بهجرة العمال الأجانب الأدنى مهارة إلى الولايات المتحدة لاعتقادهم أنهم سيشكلون عبئا على الاقتصاد.

وقد شكلت وجهات النظر تلك بدورها الدافع وراء جهود بذلها الكونغرس أخيرا لإعادة صياغة نظام الهجرة. وعلى سبيل المثال، كشف السناتور ليندسي غراهام، الجمهوري من كارولينا الجنوبية، والسناتور تشارلز إي. شومر، الديمقراطي من نيويورك، الشهر الماضي النقاب عن مقترح لإعادة رسم ملامح النظام القانوني لمنح الأولوية للمهاجرين من أصحاب المهارات العالية مرتفعي الأجر، بينما يجري توفير فرص أقل أمام العمال منخفضي الأجور. (جدير بالذكر أن مشروع قانون طرحته إدارة الرئيس السابق جورج بوش عام 2007 كان يميل بحدة أكبر نحو الشرائح الأعلى من المهاجرين، فشل في المرور عبر الكونغرس).

وعلى الرغم من استمرار الصعوبات التي يواجهها المهاجرون أصحاب المهارات المرتفعة للحصول على تأشيرة الهجرة إلى الولايات المتحدة، فإن بيانات الإحصاء تكشف أن النظام المعمول به حاليا جلب للبلاد عمالا أجانب أصحاب مهارات ومستويات دخول متنوعة. علاوة على ذلك، يوحي التحليل أن المهاجرين اضطلعوا بدور محوري في دورة النمو الاقتصادي داخل المدن على مدار العقدين الماضيين.

والملاحظ أن المدن التي ضمت جاليات كبيرة من المهاجرين - وضمت عمالا مرتفعي ومنخفضي الأجور - كانت عادة هي الأكثر ازدهارا من الناحية الاقتصادية. والمثير للدهشة، حسبما كشف المحللون، أن المدن المزدهرة اقتصاديا لم تكن تلك، مثل سانت لويس، التي اجتذبت بصورة رئيسية الأجانب مرتفعي الأجور. في الواقع، جاءت سانت لويس من بين أبطأ المدن الأميركية نموا.

في المقابل، اتضح أنه بين عامي 1990 و2008، تمثلت أسرع المدن الأميركية من حيث النمو الاقتصادي في مدن مثل أتلانتا ودنفر وفينيكس والتي استقبلت تدفقات ضخمة من المهاجرين من أصحاب مزيج من المهن - بينها كثير من الوظائف الخدمية منخفضة الأجر ومهن «أصحاب الياقات الزرقاء».

داخل دنفر، حيث تضاعف الاقتصاد بين عامي 1990 و2008، عمل 63% من المهاجرين في وظائف منخفضة الأجر. وفي هذا السياق، قال ريتش جونز، مدير شؤون السياسة والأبحاث لدى «مركز بيلي للسياسات»، وهو مركز غير حزبي داخل المدينة يركز على تأثير السياسات الاقتصادية والمالية في كولورادو: «أبلت دنفر بلاء حسنا فيما يخص اجتذاب الأفراد من مناطق أخرى بالعالم. لقد قدموا إلينا بمجموعة متنوعة من المهارات، وخلقوا طلبا على السلع والخدمات والإسكان أثمر حركة ديناميكية».

يذكر أن الأرقام الخاصة بالوظائف والعوائد المتعلقة بالمهاجرين تعتمد على تحليل أجراه «معهد السياسات المالية» لبيانات الإحصاء السكاني لـ25 مركزا حضريا ضخما بين عامي 1990 و2008. وتعد البيانات المرتبطة بعام 2008 أكثر الإحصاءات المتوافرة حاليا عمقا فيما يخص مناطق وجود المهاجرين ودخولهم. كما تتضمن البيانات أوضاع العام الأول من الركود الحاد الذي أصاب البلاد. ويتضمن التحليل المهاجرين القانونيين وغير القانونيين والمواطنين المتجنسين.

تعد سانت لويس مكانا مثاليا لمراقبة انعكاس بيانات الإحصاء السكاني على أرض الواقع في الماضي، وربما المستقبل.

على مدار عقود، عانت المدينة من معدل جامد من النمو وتدني معدلات الهجرة إليها. إلا أنه ظهر أخيرا تحول جديد، ذلك أنه حتى في خضم الركود، ازدهرت الحياة داخل بعض قطاعات المدينة، وأصبح المهاجرون الجدد أصحاب مزيج من المهارات المتنوعة يضطلعون بدور واضح.

وعن ذلك، قالت أنا كروسلين، رئيسة «معهد سانت لويس الدولي»، المعني بمساعدة المهاجرين: «إذا نظرنا إلى ما يغذي قلب كثير من المدن الأميركية سنجد أنه المجموعات المهاجرة. ثم يختفي جيل، ويحل محله آخر. لكن لم نشهد هذا الأمر هنا في سانت لويس».

خلال فترة ازدهارها كمركز تجاري في خمسينات القرن الماضي، شكلت سانت لويس واحدة من كبريات المدن بالبلاد. ومنذ ذلك الحين، تجمدت الشركات التجارية وتراجعت أعداد السكان في الجزء الرئيسي من المدينة إلى ما دون النصف واتسمت حركة الهجرة إلى المدينة بالبطء. اليوم، 11 ألف فقط من المقيمين في المنطقة الحضرية من سانت لويس مولودون في دول أجنبية، من بين إجمالي 2.3 مليون نسمة، طبقا لما ذكرته بيانات الإحصاء السكاني.

وعمل كثير من المهاجرين الذين قدموا إلى هنا في مهن كالطب والأبحاث وكمسؤولين تنفيذيين بالشركات. قدمت كولمان مور (60 عاما) إلى سانت لويس في سبعينات القرن الماضي وظلت تترقى في العمل داخل «مالينكرودت»، وهي شركة توريدات طبية، حتى أصبحت رئيسة لقسم شؤون أميركا اللاتينية، الذي تصل ميزانيته إلى 100 مليون دولار. وتقاعدت لدى بيع الشركة عام 2000، وتعمل حاليا مستشارة وأستاذة بإحدى الجامعات في مجال إدارة الأعمال. وقالت كولمان مور الحاصلة على الجنسية الأميركية: «لقد قمت ببناء حياة مهنية رائعة من وراء تفهمي لثقافات أميركا اللاتينية وثقافة الولايات المتحدة وكيفية القيام بنشاط تجاري في كليهما».

* خدمة «نيويورك تايمز»