لا أحد في لبنان يريد الاعتذار عن دوره في الحرب الأهلية

شفتري ضابط مخابرات سابق في ميليشيا مسيحية وحده قدم اعتذارا صادقا

TT

بعد مرور 35 عاما على بدء الحرب الأهلية في لبنان والتي استمرت طويلا، لا يزال هذا البلد المنقسم يعيش حالة فقدان جماعي للذاكرة، إذ لم نشهد اعتذارا صادقا من جانب أي طرف بارز شارك في تلك المأساة عن الدور الذي لعبه في أعمال وحشية كثيرة وقعت خلال نزاع دموي استمر 15 عاما.

لم يقم بذلك أحد غير أسعد شفتري. فقبل 10 أعوام، نشر ضابط الاستخبارات السابق في ميليشيا مسيحية، اعتذارا مخلصا، غير مشروط، عن جرائم الحرب التي ارتكبها. وكرر هذه الرسالة أكثر من مرة بعد ذلك، ولا سيما في ذكرى نشوب الحرب في أبريل (نيسان). وقد وصلته تهديدات بالقتل، وحصل على ثناء من جانب البعض. ومع ذلك، لم يتبع مثله أحد.

ويوم الثلاثاء الماضي، وبينما كانت تنظيمات مدنية وسياسيون يحيون ذكرى مذبحة بيروت التي أشعلت نيران الحرب في 13 أبريل (نيسان) 1975، وقف شفتري، الذي يبلغ من العمر 55 عاما، وقد بدت مسحة حزن مخلصة على وجهه، أمام منصة يخاطب مجموعة من الطلاب داخل الجامعة الأميركية ببيروت. تحدث عن كيف كبر وقد تشرب فكرة الكره الطائفي عندما كان صبيا، وذكر كيف أصبح شخصية بارزة داخل ميليشيا مسيحية، وكيف كان ينظم عمليات تعذيب واختطاف وقتل ضد أعدائه. وقال: «في نهاية الأسبوع، كنت أذهب إلى الكنسية، بعد القتل والتعذيب، للاعتراف. ولكن، كان ذلك من غير ذي جدوى، حيث لم أكن أنظر إلى قتل الفلسطينيين على أنها خطيئة».

من الصعب على الأجانب أن يفهموا إلى أي مدى يعد هذا الحديث فريدا من نوعه داخل لبنان، إذ تقوم الدول الأخرى بتشكيل لجان تقصي حقائق أو تدفع المقاتلين السابقين إلى الإقرار بأخطائهم بصورة أو بأخرى. ولكن، ليس هكذا تسير الأمور داخل لبنان. ويبدو أن الحرب الأهلية داخل لبنان لم تنته، على ضوء وجود عداوات باردة تشتعل من حين لآخر وتتحول إلى أعمال عنف مفتوحة، كما حدث قبل عامين عندما وقعت مصادمات بين حزب الله وحلفائه ومنافسيهم داخل بيروت. قليل من اللبنانيين من أقر بأخطاء ارتكبها، حتى فيما يتعلق بأعمال القتل داخل نفس الطائفة.

ولا يزال اسم شفتري، يستثير حالة من الرعب بين بعض المسلمين من كبار السن هنا. فقد كان مساعدا بارزا لإيلي حبيقة، قائد ميليشيا مسيحية نفذت مذبحة الفلسطينيين داخل مخيمات صابرا وشاتيلا عام 1982. ووفق ما يقوله شفتري، فإنه أمر بقتل سجناء وتعذيبهم خلال أعوام الحرب، وفي بعض الأحيان، قام بإطلاق الرصاص على بعض الأفراد بنفسه. يقول إنه في ذلك الوقت، كان يعتقد أنه يدافع عن لبنان.

نشأ شفتري في أسرة تقليدية من الطبقة الوسطى في شرق بيروت، وكان والده مدير فرع أحد المصارف. وفي ذلك الوقت، كانت القومية العربية تشهد حالة نمو، وتفاقمت التوترات بين المسيحيين والسنة بدرجة كبيرة.

وقال شفتري في كلمة له، إنه يرى أن الحرب لم تبدأ في عام 1975، فقد بدأت عندما كان يبلغ من العمر خمسة أعوام. كان يسمع حينها طُرَفا ضد المسلمين في فناء المدرسة. وعندما انضم إلى «القوات اللبنانية»، كان طالبا في السنة الرابعة في الهندسة بجامعة القديس يوسف في بيروت. انضم إلى هذه الميليشيا المسيحية، وسرعان ما ترقى داخل صفوفها. في الوقت الحالي، يعمل شفتري مهندسا، ويتمتع بصوت لطيف وعينين كبيرتين بهما مسحة حزن. يقول إن تحوله بدأ مع نهاية الحرب، عندما قابل أعضاء في مؤسسة دولية كانت تحمل اسم «إعادة التسليح الأخلاقي»، وكانت تدعو إلى نشر السلام من خلال تغيير الأفراد. وتتشابه المؤسسة، التي غيرت اسمها بعد ذلك إلى «مبادرات التغيير»، في أصولها مع مؤسسة «مدمنو الكحول المجهولون»، التي تعمل على محاربة إدمان الكحول، ويبدو شفتري وكأنه مدمن تعافى.

وقال شفتري وهو يجلس في غرفة المعيشة داخل منزله في ضاحية على تلال تطل على بيروت: «تطور الأمر داخل نفسي على مدار الأعوام، وبصورة تدريجية أصبحت أشعر أنني ارتكبت أشياء سيئة على المستوى الشخصي والوطني». ترعرع شفتري كمسيحي متدين، وكما هو الحال مع أفراد الميليشيا الآخرين، كان يدافع عن أنشطته خلال فترة الحرب باستخدام لغة دينية، وبدعم من الكهنة. وفي اعتذاره، تبرأ من جميع ممارساته السابقة، وكان ذلك بمثابة صدمة للكثيرين من زملائه السابقين.

قال في اعتذاره الذي جاء في 500 كلمة ونشرته وكالة أنباء والعديد من الصحف: «أعتذر لأنه عندما كنت أدافع عما حسبته المسيحية داخل لبنان، لم أكن أتصرف وفق ما تمليه المسيحية الصادقة، والتي تدعو إلى محبة الآخرين». ويتضح من الاعتذار أنه يرى أنه لن يخفف شيء من جسامة الأخطاء التي ارتكبها. ويقول شفتري إن المسلمين قابلوا اعتذاره بحفاوة واستحسان. ولكن على الجانب المسيحي، كانت ردود الفعل مختلطة. ويتذكر: «قال البعض: أنت خائن، وليس لديك الحق في قول ذلك. وقال آخرون: لماذا لم تنتظر كي يتخذ مسلم الخطوة الأولى؟. وبكى آخرون عندما رأوني في الشارع. وقالوا: كنا في الحرب، ولكن لم نستطع التعبير عن أنفسنا» ومع ذلك، لم يدفع الاعتذار غيره، إلى القيام بخطوة مماثلة. ويرتبط ذلك بصورة جزئية بالساحة السياسية المعقدة داخل لبنان. فلم يكن من مصلحة أي فرد أن ينكأ جراحات قديمة، وكذا الحال بالنسبة لسورية، التي احتلت لبنان عسكريا حتى 2005. وفي عام 2008، أصدر قائد الميليشيا المسيحية السابقة سمير جعجع ما يشبه اعتذارا، وقال إنه طلب العفو من الرب. ولكنه قال على الفور إن جميع الأخطاء التي ارتكبها كانت في إطار «واجب وطني» ولم يكن ممكنا تجنبها. وانتقد البعض شفتري لأنه لم يعتذر تحديدا عن عمليات القتل أو غير ذلك من أنواع الضرر التي كان مسؤولا عنها. وعندما سُئل عن ذلك، قال إنه كان قد قرر أن يخاطب الضحايا سرا. وقال إنه بالنسبة للحالات التي عرف هوية أفرادها، اتصل بهم أو بأقاربهم طلبا للعفو. ولكنه رفض أن يذكر كيف كان رد فعلهم إزاءه.

يعمل شفتري اليوم بهدوء منذ أعوام مع عدد من المؤسسات المدنية من أجل نشر الوعي حول الحرب. ويشارك في جهود من أجل «المختفين»، وهم الناس الذين لم يعثر عليهم حتى الآن. وبصورة تدريجية، أصبح مَن كانوا يشكون في دوافعه السياسية يثقون في إخلاصه. يقول لقمان سليم، المدير المشارك في مركز بحثي ووثائقي داخل بيروت أجرى مقابلة مع شفتري في إطار فيلم عن المواقف داخل لبنان إزاء الحرب: «إنه حزين نوعا ما، فقد قام بهذه الخطوة، ولكنه لم يجد مَن يقتفي أثره في ذلك».

ويقول سليم وآخرون إنه خلال الأعوام الأخيرة كان ثمة تقدم، فقد بدأت شخصيات سياسية تتحدث علنا عن قضية المختفين خلال الحرب، وبما في ذلك الرئيس اللبناني ميشال سليمان، حيث ذكر ذلك خلال خطاب توليه مهام منصبه في يونيو (حزيران) 2008. وفي العام الماضي، رفعت مجموعة العائلات دعوى قضائية ضد الحكومة للحصول على المزيد من المعلومات عن المقابر الجماعية. ويوم الثلاثاء الماضي، نظم مجموعة من البرلمانيين مباراة كرة قدم في ذكرى بدء الحرب عام 1975. ونقلت المباراة مباشرة على شاشات التلفاز، وروج لها تحت شعار «كلنا فريق واحد». ربما لا تعد هذه خطوة كبيرة، ولكنها تتجاوز الصمت الذي استمر طوال أعوام بعد نهاية الحرب.

* خدمة «نيويورك تايمز»