«سي آي إيه» تستخدم صواريخ أصغر لتجنب سقوط ضحايا مدنيين في باكستان

«سكوربيون» عيار 21 بوصة تبلغ زنته 35 رطلا.. وصمم خصيصا ليطلق من طائرة «بريديتور»

TT

تعمد وكالة الاستخبارات المركزية إلى استخدام صواريخ جديدة أصغر وتقنيات مراقبة للتحكم بأقصى درجة ممكنة في أعمال القتل المستهدفة التي تشنها ضد متمردين مشتبه فيهم داخل المناطق القبلية الباكستانية، طبقا لما ذكره مسؤولون حاليون وسابقون داخل الولايات المتحدة وباكستان.

وأثمرت التحسينات التقنية في هذا المجال عن تنفيذ عمليات أكثر دقة أثارت غضبا عاما أقل نسبيا، حسبما ذكر المسؤولون. كانت الحكومة الباكستانية أبدت تساهلا حيال الضربات الجوية، التي أسفرت عن مقتل مئات المتمردين المشتبه فيهم منذ مطلع عام 2009، لكن التأييد كان دوما هشا وسرعان ما كان يتلاشى، حسبما قال مسؤولون أميركيون وباكستانيون.

من جانبها، رفضت وكالة الاستخبارات المركزية مناقشة عملياتها السرية داخل باكستان، ورفض متحدث رسمي باسم الوكالة التعليق على أنماط الأسلحة التي تستخدمها الوكالة. إلا أن اثنين من المسؤولين المعنيين بمكافحة الإرهاب قالوا خلال مقابلات أجريت معهما إن التقنيات والتكتيكات المتطورة أبقت على أعداد الضحايا المدنيين بالغة الضآلة.

وتحدث المسؤولان، علاوة على المسؤولين الأميركيين والباكستانيين الآخرين الذين أجريت معهم مقابلات من أجل هذا المقال، شريطة عدم الإفصاح عن هويتهم، نظرا لما تتسم به الحملة المعتمدة على طائرات من دون طيار بالسرية وكونها مثيرة للجدل.

الشهر الماضي، اخترق صاروخ صغير أطلقته قوات تابعة لوكالة الاستخبارات المركزية، ربما لا يزيد حجمه عن الحقيبة التي تضم آلة الكمان ويصل وزنه لنحو 35 رطلا فقط، الطابق الثاني من منزل في ميرام شاه، وهي مدينة تقع في الإقليم القبلي في وزيرستان الجنوبية. وانفجر الصاروخ، مخلفا وراء مسؤولا بارزا بتنظيم القاعدة وقرابة تسعة إرهابيين آخرين مشتبه فيهم قتلى.

وأسفر الهجوم عن انهيار المنزل المصنوع من الطمي، وكذلك سقف منزل مجاور، لكن من دون تعرض أي فرد آخر داخل القرية البالغ عدد سكانها 5.000 نسمة لأي أذى، طبقا لما أكده مسؤولون أميركيون اطلعوا على تقارير حول العملية بعد تنفيذها. وسبق للوكالة استهداف مسلحين داخل مناطق ريفية، اعتمادا على صواريخ «هيلفاير» تصل زنتها إلى 100 رطل كان يجري إطلاقها من طائرات «بريديتور» من دون طيار تتحكم بها الوكالة عن بعد. إلا أن مسؤولين أشاروا إلى أن استخدام أسلحة أخف وطائرات تجسس صغيرة زاد من سهولة عمليات الاستهداف داخل المناطق الحضرية. وطبقا لتقرير داخلي يخص وكالة الاستخبارات المركزية تناولته «واشنطن بوست»، فإن المعلومات المتوافرة تشير إلى وقوع ما يزيد قليلا عن 20 ضحية مدنية جراء الهجمات الصاروخية منذ يناير (كانون الثاني) 2009، وذلك على مدار 15 شهرا شهدت تنفيذ أكثر من 70 هجوما باستخدام طائرات من دون طيار وتسببت بمقتل 400 إرهابي ومتمرد مشتبه فيهم. وقال مسؤولون بالوكالة إن الأرقام الصادرة عن الوكالة تعتمد على نشاطات مراقبة عن قرب للمواقع المستهدفة قبل وبعد الهجمات الصاروخية.

إلا أن التقديرات غير الرسمية للضحايا الواردة في وسائل الإعلام المحلية تشير إلى أرقام أعلى بكثير. من جهتها، تقدر «مؤسسة أميركا الجديدة» أعداد الضحايا المدنيين بـ181 فردا، وتشير إلى سقوط أعداد أكبر بكثير من الإرهابيين والمتمردين المزعومين (أكثر من 690 فردا).

المعروف أن الهجمات باستخدام طائرات من دون طيار أثارت جدالا كبيرا في باكستان، حيث ينظر الكثيرون إلى هذه الهجمات باعتبارها انتهاكا للسيادة الوطنية. في الماضي، أثارت هذه الهجمات تظاهرات وتنديدات غاضبة من جانب المقالات الافتتاحية بصحف وفي ثنايا خطابات لسياسيين معارضين.

إلا أن موجة الجدال حول هذه الهجمات انحسرت على نحو كبير على مدار العام الماضي، ويعترف المسؤولون الباكستانيون أن تحسن مستوى الدقة في الاستهداف أحد الأسباب وراء ذلك. وأعرب مسؤولون أمنيون باكستانيون عن اعتقادهم بأن زيادة دقة تقنيات الاستهداف، وارتفاع أعداد الجواسيس داخل المناطق القبلية، وتنامي مستوى التعاون بين الاستخبارات الأميركية والباكستانية أسهمت جميعا في تمخض الهجمات عن أعداد أقل من القتلى المدنيين. ورغم ذلك، ما تزال تجري الإشارة إلى الهجمات باستخدام طائرات من دون طيار على لسان الباكستانيين باعتبارها سببا رئيسيا وراء سخطهم تجاه السياسة الأميركية في المنطقة. وقد استدعت باكستان مرارا الطائرات من دون طيار المسلحة الخاصة بها لتنفيذ الهجمات - وهي خطوة يمكنها أن تخدم الحكومة في التصدي لوجهة النظر التي تتهمها بالتنازل عن سلطتها لصالح واشنطن. على الجانب الآخر، وافقت واشنطن على إمداد إسلام آباد بطائرات استطلاع من دون طيار، لكنها رفضت تزويدها بأسلحة. من جهته، قال بيتر بيرغين، زميل «مؤسسة أميركا الجديدة»، إن حسابات الوكالة الخاصة بتأثيرات الهجمات من المتعذر التصديق عليها أو دحضها من دون التمتع بقدرة أكبر على الدخول إلى المناطق القبلية بالنسبة لجهات خارجية أو إخضاع الشرائط المصورة الخاصة بالوكالة إلى تفحص مستقل.

من ناحية أخرى، أوضح مسؤولون أن وكالة الاستخبارات المركزية تعمد على نحو متزايد إلى تجنب سقوط ضحايا مدنيين، الأمر النابع جزئيا من رغبتها في تجنب أي رد فعل سياسي قوي من جانب إسلام آباد وواشنطن والمنظمات الدولية لحقوق الإنسان. ويشير مسؤولون حاليون وسابقون إلى الغياب النسبي لشكاوى من قبل قيادات محلية أو إقليمية باعتباره دليلا على نجاح جهودهم.

في هذا السياق، تساءل مسؤول أميركي يضطلع بمراقبة برنامج الوكالة عن قرب: «أين صور المذابح؟ أين المظاهرات؟ بعد سقوط ضحايا مدنيين في أفغانستان، تظهر دوما تقارير صحافية، فلماذا لا نشهد ذلك في باكستان؟».

أما بيتر وارين سينغر، مدير «مبادرة الدفاع في القرن الحادي والعشرين» التابعة لـ«معهد بروكنغز»، فأشار إلى أنه في الوقت الذي يستخدم الأميركيون تعبيرات مثل «ذات كفاءة» و«من دون تكاليف» في وصفهم للحملة، فإن بعض الباكستانيين ينظرون إليها باعتبارها حربا تفتقر إلى الشرف.

وأضاف سينغر، الذي ألف كتابا بعنوان «برقية من أجل الحرب: الثورة في الروبوتات والصراع في القرن الـ21»: «إن الحديث الدائر حول الضحايا المدنيين أسيئت تسميته، وليس هو المحرك وراء وجهات النظر القائمة». وأشار إلى أنه داخل المناطق القبلية، يمكن النظر إلى التقنية نفسها باعتبارها شريرة لكونها غريبة للغاية عن المنطقة.

وتمخض الخوف من سقوط ضحايا غير مقصودين عما وصفه مسؤولون بعملية نشطة للتأكد من هوية الإرهابيين المشتبه فيهم - وهي عملية تتضمن ما أشار إليه مسؤول أميركي باعتباره «مراقبة بصرية مسبقة» من جانب عملاء أو طائرات استطلاع من دون طيار. لكن الأسلحة والأدوات الجديدة لا تقل أهمية، حسبما أكد المسؤولون.

وقال مسؤول رفض الإفصاح عن هويته لما يحيط ببرنامج وكالة الاستخبارات المركزية من سرية بالغة: «إننا نتحدث عن مستوى دقة غير مسبوق في تاريخ الحروب».

اليوم، تتوافر لدى الوكالة الكثير من الصواريخ الصغيرة، بينها «سلاح صغير ذكي» (سمارت سمول ويبن) عيار 21 بوصة، من إنتاج شركة «لوكهيد مارتن». تبلغ زنة السلاح 35 رطلا ويتميز بقطر يكافئ تقريبا قطر فنجان القهوة، ويطلق عليه حاليا «سكوربيون»، وصمم خصيصا لإطلاقه من طائرة «بريديتور». ويسبب هذا الصاروخ قدرا أقل بكثير من الدمار عن «هيلفاير»، ويمكن استخدامه مع أربعة أنظمة مختلفة للتوجيه تسمح له بالسقوط على أهداف شديدة الضآلة مثل فرد واحد، وذلك في خضم ظلام تام، حسب ما أكده مسؤولون أميركيون مطلعون على الصاروخ الجديد. من جانبه، رفض متحدث رسمي باسم «لوكهيد مارتن» القول ما إذا كانت وكالة الاستخبارات المركزية تستغل حاليا «سكوربيون»، الذي تشير إصدارات الشركة التسويقية إلى أنه مخصص لـ«الهجمات الدقيقة التي تستلزم رأسا حربيا صغيرا وفتاكا ضد أهداف في مناطق تتطلب مستوى ضئيلا من الأضرار غير المقصودة». كما تستغل الوكالة مجموعة متنوعة من الرؤوس الحربية فيما يخص «هيلفاير»، حسبما ذكر مسؤول استخباراتي رفيع المستوى سابق. ومن بينها، رأس حربي حراري يمكنه تفجير مزيد من المواد المتفجرة بهدف خلق موجة ضغط تقتل البشر من دون الإضرار بالهياكل القائمة إلى حد ما. وتمتد الموجة إلى خلف الزوايا ويمكنها اختراق المستودعات والكهوف، حسب ما أوضحه خبراء أسلحة. وتتضمن الترسانة الموسعة لوكالة الاستخبارات المركزية أيضا طائرات استطلاع من دون طيار لا تحمل أسلحة، حسبما قال اثنان من المسؤولين الاستخباراتيين السابقين. ويمكن أن تصل هذه الطائرات من دون طيار شديدة الضآلة إلى حجم قطعة فطيرة بيتزا وقادرة على مراقبة أهداف محتملة من مدى قريب لساعات أو أيام في النوبة الواحدة. وفي الليل، يمكن أن تتحول هذه الطائرات إلى أجسام يكاد يكون من المستحيل رصدها، طبقا لما ذكره مسؤول سابق استخدم مثل هذه الطائرات من قبل. وقال: «يمكنها الوقوف إلى خارج نافذتك دون أن تصدر ولو همسا».

* شارك في هذا التقرير المراسل غريف ويت، والكاتبة كارين ديونغ من إسلام آباد، والباحثة جولي تات من واشنطن.

* خدمة «واشنطن بوست» خاص بـ«الشرق الأوسط»