الجابري رفض عضوية الأكاديمية الملكية المغربية.. لأسباب سياسية

رفض جوائز من صدام حسين والقذافي.. ومن بلده أيضا

محمد عابد الجابري («الشرق الأوسط»)
TT

كان من أكثر الأمور التي أثارت جدلا حول المفكر المغربي الأبرز محمد عابد الجابري، رفضه الانضمام إلى الأكاديمية الملكية المغربية التي تضم نخبة من العلماء والمفكرين والكتاب من المغرب وأميركا وأوروبا وأفريقيا وآسيا. وعلى الرغم من أنني طرحت عليه هذا السؤال أكثر من مرة، فإنه كان يكتفي بالابتسامة، ولا يردّ.

وقبل فترة قرر الجابري أن يكشف بنفسه النقاب عن هذا الأمر، بعد أن رفض مرارا أن يجيب عليه في حوارات صحافية. ليس ذلك فحسب بل كذلك عن سبب اعتذاره عن تلقي بعض الجوائز الأدبية الهمة ماديا.

وكان موضوع عدم انضمام الجابري، الذي يعد واحدا من أبرز المفكرين المغاربة، إلى عضوية الأكاديمية المغربية مثار تساؤلات في الأوساط السياسية والثقافية داخل وخارج المغرب لإسهاماته الفكرية المتميزة حيث أصدر عشرات المؤلفات وكتب مئات المقالات، وشارك في عدد لا يحصى من الندوات إضافة إلى نشاطه الفكري والعلمي داخل الجامعة المغربية.

وساد اعتقاد لفترة طويلة أن سبب عدم ضمّ الجابري إلى عضوية الأكاديمية الملكية المغربية هو عدم ارتياح الملك الراحل الحسن الثاني لكتابات الجابري الذي استطاع في كثير من الأحيان إعادة إنتاج عبد الرحمن بن خلدون، ونشر فكره على نطاق واسع، خصوصا أن الحسن الثاني لم يكن معجبا بفكر وكتابات ابن خلدون.

لكن الجابري عندما قرر أن يكشف النقاب عن تفاصيل الموضوع، اختار كتيبا صغيرا في حجم كتاب الجيب كان ينشره بانتظام، تحت عنوان «مواقف». وصدر من سلسلة كتاب «مواقف»، وهو 11 كتاب جيب تتناول - كما قال عنها الجابري - «إضاءات وشهادات» حول مواقفه السياسية والفكرية، وكانت أشبه بمذكراته الفكرية والسياسية، على الرغم من أنه لم يقل ذلك.

وفجر الجابري وقتها مفاجأة مدوية عندما كتب في ذلك الكتيب الذي نشر فيه ملفات من ذاكرته السياسية والثقافية، أنه اعتذر عن عضوية الأكاديمية مرتين، مشيرا إلى أنه في المرة الأولى، التي لم يحدد تاريخها، اتصل به الدكتور عبد اللطيف بربيش مدير الأكاديمية الملكية المغربية هاتفيا وأبلغه أن الملك الحسن الثاني وجّه مستشاره آنذاك عبد الهادي بوطالب للإشراف على تعيينه عضوا بالأكاديمية، وكان رد الجابري أنه إذا كان التعيين «أمرا من الملك فإن أمره مطاع» أما إذا جاز له التعبير عن رأيه فإنه يعتذر.

وكان رد بربيش بأن ليس من اختصاصه الجواب على هذا السؤال، فطلب منه الجابري أن يبلغ رأيه إلى عبد الهادي بوطالب. وقال إن بوطالب الذي وصفه بأنه «صديق وأخ كبير» اتصل به ليشرح له دواعي تعيينه عضوا في الأكاديمية الملكية المغربية، وقدم له ما سماه بوطالب «أسباب النزول»، وحاول إقناعه وثنيه عن موقفه بروح أخوية لكن الجابري فضل - كما يقول - «البقاء في موقعي في المعارضة وككاتب بهذه الصفة». وأشار إلى أن بوطالب طلب منه التفكير في الأمر والاتصال به لاحقا لكن الجابري لم يغير موقفه.

وجرت المحاولة الثانية لضمه إلى عضوية الأكاديمية قبل ثماني سنوات لكن الجابري اعتذر هذه المرة بأن حالته الصحية لا تسمح له بالتنقل بين الدار البيضاء حيث يقيم والرباط حيث تُعقد عادة جلسات الأكاديمية الملكية المغربية. لكن ذلك كان مجرد عذر غير حقيقي كما قال الجابري.

ويروى الجابري الأسباب الحقيقية التي جعلته يعتذر عن عضوية الأكاديمية في المرتين فيقول إن عبد الرحيم بوعبيد الأمين العام لحزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية الذي توفي في فبراير (شباط) عام 1992 كان التقى الملك الحسن الثاني قبل الإعلان رسميا عن تأسيس الأكاديمية الملكية المغربية في الثمانينات وأخبره بأنه يعتزم إنشاء الأكاديمية لتضم شخصيات مغربية وأجنبية وأنه سيعين عبد الرحيم بوعبيد في عضويتها ويكلفه البحث عن شخصيات أخرى لضمها إلى الأكاديمية، لكن عقب إعلان قيام الأكاديمية لم يظهر اسم عبد الرحيم بوعبيد أو أي مثقف أو مفكر ينتمي إلى الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، وكان الجابري نفسه عضوا في مكتبه السياسي، على الرغم من وجود شخصيات تنتمي إلى أحزاب أخرى، ونسب الجابري إلى بوعبيد قوله إن بعض المقربين من الملك الحسن الثاني آنذاك نصحوه بعدم ضم أعضاء الاتحاد الاشتراكي وتركهم جانبا. ويرى الجابري أن ملابسات ذلك الموقف هي التي جعلته يعتذر مرتين عن عضوية الأكاديمية، إذ إنه لم يكن ليقبل أن يصبح عضوا في الأكاديمية الملكية المغربية، وهي لا تضم عبد الرحيم بوعبيد، أو أي مفكر أو كاتب من حزب يوجد هو في قيادته.

وفي موضوع آخر تطرق الجابري في الكتيب نفسه إلى مسألة اعتذاره أكثر من مرة عن نيل جائزة المغرب، وهي جائزة سنوية تُمنح عادة لأحد الكتاب المغاربة البارزين، وقال إن المرة الأولى التي رُشح فيه للجائزة كانت من طرف محمد بن عيسى وزير الخارجية السابق عندما كان يشغل خلال الثمانينات منصب وزير الثقافة.

ويقول الجابري في هذا الصدد: «ألحّ علي بن عيسى مشكورا في قبولي للجائزة خصوصا أنه أدرج اسمي في القائمة التي قدمت للملك الحسن الثاني وأفهمني أن في الأمر (رفض الجائزة) إحراجا ما، فكان جوابي: أنا متأكد أن جلالته سيتفهم اعتذاري». وأشار الجابري إلى أنه رُشح بعد ذلك عدة مرات لجائزة المغرب لكنه كان يعتذر في كل مرة دون أن يوضح أسباب هدا الاعتذار المتكرر.

ولم تكن جائزة المغرب وحدها التي اعتذر عنها الجابري بل اعتذر كذلك عن عدة جوائز منها جائزة الرئيس العراقي صدام حسين (مقدارها 100 ألف دولار). وقال الجابري إنها عُرضت عليه مرتين في أواخر الثمانينات لكنه اعتذر في كل مرة رغم إلحاح العراقيين، وكان مرد اعتذاره أن الجائزة لا تضمّ تخصصه أي الفلسفة.

كما اعتذر الجابري عن نيل جائزة الشارقة التي تمنحها اليونسكو وتبلغ قيمتها 25 ألف دولار وبرر ذلك بأنها الجائزة نفسها التي مُنحت له باسم «جائزة بغداد للثقافة العربية» ونالها عام 1988 وكانت قيمتها آنذاك خمسة آلاف دولار. كما اعتذر الجابري في عام 2002 عن «جائزة العقيد معمر القذافي لحقوق الإنسان» وقيمتها 32 ألف دولار.

وقال إنه قرر ذلك «انسجاما مع موقفي من الجوائز التي اعتذرت عنها سابقا» على حد تعبيره.

وكان محمد عابد الجابري الذي سبق له أن كتب جانبا من مذكراته وضمّنها كتاب «حفريات في الذاكرة» ونشر عام 1997 في الدار البيضاء وبيروت، قد اعتزل العمل السياسي المباشر في أبريل (نيسان) عام 1981 حين قدم استقالته من عضوية المكتب السياسي للاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية وتحدث بإسهاب عن أسباب تلك الاستقالة ونشاطه ومواقفه داخل الحزب في سلسلة «مواقف» وحمل مسؤولية الأسباب التي دفعته إلى الاستقالة تصريحا وتلميحا إلى محمد اليازغي الذي سيتولى لاحقا منصب الأمين العام لحزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، وذلك قبل أن يجبر على الاستقالة.

واعتُبرت كتابات الجابري آنذاك حول الأوضاع داخل الحزب بمثابة أعنف توبيخات علنية حول ممارسات داخلية للحزب الذي كان يُعتبر أكبر حزب معارض في البلاد قبل أن يخوض غمار تجربة «التناوب التوافقي» بقيادة عبد الرحمن اليوسفي، ثم يصبح مشاركا في الحكومتين الائتلافيتين اللتين تلتا حكومة اليوسفي.