معركة على مسجد في إندونيسيا تعكس الصراع بين المتطرفين والمعتدلين

مدير وحدة مكافحة الإرهاب: القوة لا تكفي وحدها.. بل يجب استئصال الأفكار التي تحول المؤمنين إلى انتحاريين

TT

بعد الظهيرة بقليل، دلف رجل ملتح إلى مركز ملتيبلاس التجاري في العاصمة الإندونيسية جاكرتا يرتدي قميصا أبيض وسروالا أسود. حجز الرجل ساعتين على الإنترنت ودلف إلى الغرفة رقم 9 وبدأ في تصفح الإنترنت.

بعد خمس دقائق لقي الرجل مصرعه على يد الوحدة 88، لمكافحة الإرهاب التابعة للشرطة الإندونيسية التي أنشئت بتمويل وتدريب أميركي.

بمقتل الرجل انتهت عملية المطاردة لفريسة بالغة الأهمية، وهو جوكو بيتونو، متدرب «القاعدة» على صناعة القنابل والمعروف باسم ذو المتين. وقد اعتبرت الولايات المتحدة ذو المتين، مهندس تفجيرات بالي في 2002 وأعمال التفجير الأخرى، وهو ما جعلها تضع 10 ملايين دولار ثمنا لرأس هذا الرجل.

وقد شهدت الشهور الستة الماضية، نشاطا مكثفا لقوات الشرطة الإندونيسية قامت خلالها باغتيال واعتقال عدد من الشخصيات البارزة في التنظيمات المتطرفة التي تعمد إلى إيقاع الفوضى في البلد الذي يضم أكبر عدد من المسلمين في العالم. وبخلاف باكستان التي تعاظمت فيها قوة المسلحين، قامت إندونيسيا بتشديد الخناق على مؤسسات الجماعات المتطرفة مثل الجماعة الإسلامية والجماعات الأكثر عنفا الأخرى المنشقة عنها.

بيد أن قدرة إندونيسيا على حماية السلم الذي تمتعت به على مدار قرون تعتمد بالأساس على قدرتها على محاربة التطرف بما هو أكثر من البندقية والسجن.

يقول إنسياد مباي، مدير وحدة مكافحة الإرهاب الإندونيسية: «إن الحركات المتطرفة لا يمكن مقاومتها بالقوة وحدها، فأهم من ذلك محاولة استئصال الأفكار القتالية التي تحول المؤمنين إلى انتحاريين».

ونظرا لوقوع البلاد تحت الحكم الشمولي على مدى عقود، استفاد الأصوليون من مناخ الحرية الذي وفره لهم وصول الديمقراطية التي تمتعت بها البلاد عام 1998، ولم تول السلطات التي كانت تناضل لتوحيد البلاد وسط الانهيار الاقتصادي والفوضى السياسية مزيدا من الاهتمام إلى ما اعتقدوا في تلك الفترة أنه مجرد تهديد بسيط.

بيد أن تلك النظرة بدأت في التغير في أعقاب تفجيرات بالي في عام 2002 التي أقلقت العامة وحثت الحكومة على الاعتراف بأنها تواجه مشكلة. وأضافت المزيد من علميات التفجير، ومن بينها موجة تفجيرات ثانية في بالي عام 2005، إلى طبيعة المشكلة وحشدت العلماء المعتدلين لمواجهة هذه الأقلية الصغيرة والخطيرة والآخذة في التوسع.

من سيفوز في هذه المعركة؟ ستحسمه المعارك المحلية كما هي الحال في النزاع القائم هنا في بامولانغ على مسجد «المنورة» والواقع جنوب مركز ماتيبلاس حيث اختبأ وقتل ذو المتين.

يقع المسجد في حي كثيف الأشجار، ويديره محمد إقبال، الشيخ الذي شارك في القتال ضد السوفيات في أفغانستان. ويعرف إقبال بأبو جبريل وهو مدرج على لائحة وزارة الخارجية الأميركية للمشتبه بهم في الإرهاب، ومهربي المخدرات والذين تعتبرهم الولايات المتحدة خطرين.

وقال عبد الرحمن السقاف، منافس الشيخ في بامولانغ والذي يقود حملة لطرد إقبال من مسجده الذي يدعو فيه إلى الفكر الجهادي، «بدأت القلاقل منذ وصوله إلى المنطقة».

منذ أن قدم إقبال إلى بامولانغ، بدت الأفكار المتطرفة التي يحملها وكأنها ستزيل الأفكار التقليدية التي تربى عليها الإندونيسيون عن الإسلام. بدت العواقب خطيرة سواء بالنسبة لإندونيسيا والولايات المتحدة التي أبدت انزعاجها من التوجه الذي تسير فيه في دولة يفوق عدد المسلمين بها دول الشرق الأوسط. في ذلك الوقت كانت مجلة «سبيلي» الأسبوعية ذات التوجهات الإسلامية الأكثر انتشارا في إندونيسيا تقدم مزيجا من نظريات المؤامرة الجامحة المعادية للولايات المتحدة والدعوة إلى «الجهاد».

ويبدو أن المد قد انحسر في الوقت الحالي، ففي مدخل الحي الذي يقطن فيه إقبال ويقع فيه المسجد كتب على لافتة كبيرة: «احذروا من الإرهابيين الذين بيننا». قام بتثبيتها معارضو الشيخ العام الماضي بعد اعتقال ابنه الأكبر محمد جبريل، ناشر الكتب الأصولية والمدون المحرض على الأفكار الجهادية، على خلفية صلته بتفجيرات يوليو (تموز) الماضي في فندقين من فنادق جاكرتا. وتجري محاكمة جبريل في جاكرتا مع مواطن سعودي يزعم أنه ساعد جبريل في تمويل الهجوم. لكنهما أنكرا التهم المنسوبة إليهما.

في الوقت ذاته، خفضت مجلة «سبيلي» من لهجتها المعادية للغرب. يقول لطفي تميمي، مدير المجلة والمشارك في ملكيتها: «تلقى المجلة رواجا كبيرا في أوساط المسلمين المعتدلين». وكان لطفي قد أقال رئيس تحرير الصحيفة المتشدد وقام بنشر سلسلة من المقالات التي ترفض النهج السلفي الداعي إلى الأيديولوجية المتطرفة.

ولا تزال إندونيسيا تموج بالعديد من المواقع الإلكترونية والكتب والمجلات التي تدعو إلى الجهاد. فلا تزال كارثة الفلسطينيين في غزة والمسلمين في المناطق الأخرى من العالم تلهب غضب الإندونيسيين، كما هي الحال بالنسبة للبعض الذين ينظرون إلى مقتل ذو المتين والآخرين الذين قتلتهم الوحدة 88. وتقول الشرطة إن مصنِّع قنابل تفجيرات بالي قتل بعد أن سحب مسدسا.

كما أظهر شيخ بامولانغ المثير للجدل بعض التراجع عن مواقفه. ويقف إقبال في الوقت الحالي في موقف المدافع. ففي المقابلة التي أجريت معه عقب صلاة الظهر أخيرا، أنكر دعمه للإرهاب، لكنه أبدى إعجابه بأسامة بن لادن لأنه حارب ضد من يهاجمون الإسلام. كما تباهى أيضا بصلاته بالأصوليين الإسلاميين مثل الحنبلي الذي يشار إلى أنه العقل المدبر لتفجيرات بالي، والموجود في معتقل غوانتانامو الأميركي، وعبد العظيم مستشار بن لادن. وقال إقبال: «إن تفجيرات بالي وجاكرتا لم تكن إرهابا بل كانت أعمالا ضد الإرهاب تهدف إلى وقف العنف الأميركي ضد المسلمين، فلا وجود للإرهاب أو الإرهابيين، بل كل ما هنالك هو الجهاد والمجاهدين».

سخر إقبال، المدعوم من قبل اثنين من أمناء المسجد، أحدهما دبلوماسي والآخر مدير تنفيذي في شركة نفط والذي عمل مع زوج والدة أوباما، من الإسلام المعتدل ووصفه بالصورة الممسوخة للإسلام. وقال: «الإسلام الحقيقي متشدد، في هذا المسجد ندرس الجهاد، وهو ما يجعل المسجد فريدا من نوعه».

لقي الخلاف بين إقبال وخصومة، اهتماما على المستوى الإندونيسي خاصة في أعقاب مقتل ذو المتين في مارس (آذار)، عندما تبين أن صانع القنابل الذي ظن الجميع أنه يختبئ في الفلبين، يعيش بالقرب من مسجد إقبال في بامولانغ، وهو ما أثار الشكوك في أنه كان على صلة بالشيخ.

وأشار داندان أوردجاجا، معارض إقبال الذي يشرف على شرطة الولاية، إنه صدم عندما شاهد صورة ذو المتين على شاشة التلفزيون والتي نشرتها الشرطة في أعقاب مصرع ذو المتين، وقال: «لاحظت أنني شاهدته من قبل في المسجد». وكان أوردجاجا من بين عشرات السكان الذين وقعوا على عريضة يطالبون فيها بإقالة إقبال من إمامة المسجد.

أنكر إقبال الذي جلس القرفصاء في ساحة المسجد أي صلة له بذو المتين وقال إن صانع القنابل لم يصل على الإطلاق في مسجد «المنورة»، بينما قال مسؤول بارز في الشرطة والذي تحدث شريطة عدم ذكر اسمه إن المحققين سعوا إلى إيجاد الصلات المحتملة بين الرجلين لكنهم لم يجدوا أي أدلة تربط بين إقبال وذو المتين.

ترجع بدايات إندونيسيا في مواجهة الأفكار المتطرفة في الداخل والخارج منذ الخمسينات عندما قامت جماعة تدعى «دار الإسلام» بشن حملة عنف لإقامة دولة إسلامية، ردت عليها الدولة بعنف وأعدمت الكثير من الإسلاميين.

وقال مباي، مدير شرطة مكافحة الإرهاب: «إرهابيو اليوم هم نتاج للأشخاص الذين أعدموا. وكان الكثير من الأصوليين الإندونيسيين قد فروا إلى المنفى، ومن بينهم إقبال الذي انتقل إلى ماليزيا في الثمانينات حيث سجن ثلاثة أعوام للدعوة إلى التطرف، كما أمضى بعض الوقت في باكستان وأفغانستان حيث كوّن علاقات قوية مع العديد من زعماء الجماعات الجهادية».

وصول إقبال إلى بامولانغ في 2004 عمل على بث الشكوك والتوترات في المجتمع المختلط بين المسيحيين والمسلمين. طلب إقبال من النساء المسلمات التوقف عن ركوب الدراجات النارية وطالب من حضور مسجده عدم حضور أعياد الكريسماس التي يقيمها المسيحيون الموجودون في أحيائهم وضمن خطبه بالدعوات إلى الجهاد ضد الكافرين.

وقال سويتوبو ونوبوجو، رجل الأعمال المتقاعد الذي عمل كرئيس حي في الولاية التي يقع بها مسجد إقبال: «كان دائما ما يحض على الجهاد ضد الكافرين». دفعت تلك الأفكار التي يحاول إقبال بثها ونوبوجو إلى التحول إلى مسجد آخر للصلاة. وقد أثار انفجار في باحة منزل إقبال في عام 2005 إلى إثارة الشكوك بشأن صناعة قنابل وفتشت الشرطة المنزل لكنها لم تعثر على شيء.

ونظرا لتحول مسجد «المنورة» إلى مغناطيس يجذب المتشددين من المناطق المحيطة التي تبعد عشرات الأميال، عمل السقاف على زيادة جهوده لطرد إقبال. وقاد عشرات من أنصاره في أغسطس (آب) الماضي إلى حصار مسجد إقبال. وبعد وقوع حالة من التوتر تراجع السقاف وأنصاره. وفي حادث منفصل قامت زوجة السقاف بلكم واحدة من أنصار إقبال.

قام إقبال وأنصاره بالرد على السقاف وقالوا على موقعهم الذي يديره ابن إقبال، المعتقل حاليا، إنه عميل ويتلقى راتبه من وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية، لكنه أمر بعيد عن الصحة تماما لأنه كان من بين المنظمين للاحتجاجات الواسعة في عام 2006 ضد زيارة الرئيس جورج بوش إلى إندونيسيا وقال: «أنا أكره الولايات المتحدة، لكن كرهي أكبر للمسلمين الذين يقتلون مسلمين أبرياء».

بالنسبة إلى مباي، يقدم الخلاف حول مسجد «المنورة» حافزا على مواجهة هذه الأفكار الأصولية وتعنت المتشددين الإسلاميين.

وقال: «الشيء الجيد هو أن هناك بعض الشخصيات الإسلامية البارزة تبدي رغبة قوية في معارضة الأفكار الراديكالية. لكن السيئ هو أن هذه الجماعات الراديكالية لا تزال نشطة في محاولة إيصال رسالتها».

* خدمة «واشنطن بوست» - خاص بـ«الشرق الأوسط».