حصول الإرهابيين على مواد متفجرة من ألغام الحروب يثير المخاوف الأمنية

الملايين منها من دون خرائط وتجارتها تنمو في السوق السوداء بالعالم الثالث

مندوب «الشرق الأوسط» يتفقد ألغاما مضادة للدبابات في قرية القصر قرب مدينة مرسى مطروح شمال غربي مصر («الشرق الأوسط»)
TT

يخشى كثير من المسؤولين الأمنيين في دول العالم الثالث من ازدياد اعتماد من يسمونهم بالإرهابيين على ألغام الحروب التي تمت زراعتها في ملايين الكيلومترات من الصحارى ولم تنفجر، كمصدر للحصول على المواد المتفجرة. وإضافة إلى الخطر من إعادة استخدام هذا السلاح الفتاك، أصبحت الألغام تعرقل خطط التنمية في كثير من البلدان النامية التي يزداد فيها عدد السكان. يقول مسؤولون أمنيون في شمال غربي اليمن إن تجارة بدأت تنشط هناك لفك الألغام التي زرعها المتمردون الحوثيون خلال حربهم الأخيرة مع الحكومة، وإعادة بيع ما بداخلها من بارود يمكن استخدامه في أعمال إرهابية. وبالقرب من الحدود الإسرائيلية وفي العراق ومناطق أخرى تشهد صراعات سياسية وعسكرية متقطعة، تفيد المصادر الأمنية أن تجارة مماثلة آخذة في التنامي، حيث تنتشر في الوديان والصحارى ملايين الألغام الكبيرة المضادة للدبابات والألغام الصغيرة المضادة للأفراد، يرجع بعضها لحروب قديمة من القرن الماضي وبعضها لحروب حديثة بدأت مع مطلع الألفية الجديدة.

وفي الأسبوع الماضي ضرب فتحي بو مراجي الفأس فارتطمت بأسطوانة معدنية صدئة. هذا لغم مضاد للدبابات عمره ستون سنة عثر عليه حين كان يحفر لتوسيع بيته في مدينة مرسى مطروح السياحية شمال غربي مصر. وأدين عدد كبير من أبناء هذه المدينة بسبب حيازتهم متفجرات، كانت في الأساس ألغاما أعيد تصنيعها. ومع استمرار خطر تنظيم القاعدة والجماعات المسلحة الأخرى المنتشرة في كثير من بلاد فقيرة في آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية، أصبحت السلطات تخشى أن تصل هذه المواد الفتاكة إلى أيدي الإرهابيين، بشكل منظم وأكثر اتساعا، لأنها أرخص سعرا وأشد فتكا. ويقول السجين السابق في سجن «الغربانيات» في صحراء مصر الغربية، ويدعى فضل الله، في العقد الثالث من العمر ويعمل صياد سمك: «قبل الإفراج الشرطي عني تم تقديمي للجنة أمنية، وسألتني اللجنة: من أين حصلت على المتفجرات التي كنت تصيد بها السمك، فأخبرتهم أن الصحراء بها ملايين الألغام، وأن بعض المحترفين حين يعثرون عليها يعيدون فكها وبيع مواد (تي إن تي) التي داخلها، لمحترفين آخرين، يقومون بصناعة الديناميت وغيره من متفجرات». وسُجن فضل ثلاث سنوات حين ضبطته الشرطة وهو يصيد السمك بهذا السلاح، ولم يثبت أن له صلة بأي جماعات إرهابية. لكن 8 آخرين تم رفض الإفراج الشرطي عنهم في قضية مشابهة لوجود شكوك حول بيعهم مفرقعات لتجار يهربونها لقطاع غزة أو جماعات متشددة أو «إرهابية» أخرى. ومنذ مطلع الألفية، وصولا إلى الشهر الماضي، أدانت السلطات القضائية المصرية العشرات ممن تسميهم إرهابيين شاركوا أو خططوا للمشاركة في ضرب أهداف ضد أجانب في سيناء والبحر الأحمر وقناة السويس وغيرها من المواقع الحساسة في البلاد. وتقول المصادر الأمنية إن عددا من هؤلاء استعانوا بمتفجرات مأخوذة من ألغام ترجع لفترة الحروب المصرية – الإسرائيلية، وكذا الحرب العالمية الثانية. ويبلغ مواطنون عما يعثرون عليه من ألغام بطريق المصادفة وهم يزرعون أو يبنون مساكن جديدة، لكن بعض المعوزين أصبحوا يبيعونها بحالتها، بعد أن أصبحت لها أسواق سرية في بعض مناطق النزاعات. ويعيش بو مراجي خلف سوق ليبيا الجديد، شرقي مرسى مطروح في ضاحية السواني ذات الكثافة السكانية والمشروعات السياحية المتنامية باضطراد خاصة في شارع علم الروم.. يقول: «وجدت دانات مدافع وألغاما مضادة للدبابات.. اتصلت بالمسؤولين، جاءوا وأزالوا الألغام التي عثرت عليها، لكن بعد أن مضوا وجدت ألغاما أخرى تحتها»، معربا عن خشيته من أن تنفجر هذه الألغام في أسرته، أو أن تصل إلى أيد غير أمينة. ويتسبب انفجار الألغام في تفتيت أجساد الناس وحيواناتهم وفي نسف سياراتهم في الهواء قبل أن تلقيها على الأرض قطعا من الحديد المعجون بالدم واللحم، ولهذا يشعرون بالرعب حين يعثر أحدهم على الألغام ويبحث عن أسرع طريقة للتخلص منها، وهي إبلاغ السلطات المختصة، لكن المشكلة تكمن في ضعف إمكانات غالبية الحكومات. وبعض الإدارات المحلية تترك الألغام مكومة على الأرض من دون حراسة لعدة أيام، انتظارا لتوفير الخبرات البشرية والمعدات لرفعها.. وتتشابه مشكلة مراجي مع مشكلات سكان آخرين منتشرين على أطراف مئات المدن وعشرات الآلاف من القرى والنجوع في بلاد بأفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية، ممن أصبحوا يعانون من استمرار هذا الخطر النائم تحت الأرض، وانتقل من أماكنه وأصبح أكثر فتكا بفعل عوامل التعرية المختلفة.

رجل أعمال عربي يدير منتجعا سياحيا في قرية القصر غربي مدينة مرسى مطروح في مصر أيضا.. كان يريد توسيع مشروعه، لكن العمال عثروا على حقلين صغيرين للألغام المضادة للدبابات. ولعدة أيام لم تتمكن السلطات من رفع هذه الألغام أو وضع حراسة عليها. وزارت «الشرق الأوسط» الموقع. وأرجع مسؤول أمني في المدينة سبب ترك الألغام في العراء إلى نقص الكوادر المدربة على التعامل معها، مقرا في الوقت نفسه بخطر وصول هذه الألغام إلى عناصر تسيء استخدام ما بها من مواد متفجرة.. وقال: «سنعين حارسا عليها لحين وصول المعدات اللازمة لرفعها من الموقع». وفي الصحراء الشرقية لمصر تنشط تجارة متفجرات منزوعة من الألغام، ويتم تهريب بعضها إلى قطاع غزة، لاستخدامها في صناعة أسلحة هناك. ويقول مصدر مقرب لأحد تجار البارود المأخوذ من الألغام القديمة في سيناء: «نعم يمكن إعادة استخدامه في تنفيذ عملية إرهابية أو تفجيره لصيد السمك من البحر أو لحفر بئر في الصخر».

ويتكون اللغم من غلاف خارجي يصنع من المعدن ومادة (tnt) شديدة الانفجار، والطابة (زناد التفجير). وينفجر اللغم المضاد للأفراد إذا ما وطأه الشخص متوسط الحجم، لكن قابلية هذا اللغم للانفجار أصبحت ممكنة لأقل ثقل بسبب تآكل غطائه الخارجي بفعل الزمن، ويرجع عمر غالبية الألغام لأكثر من نصف قرن، وبعضها يصل لنحو 70 أو 80 سنة مضت. ويتطلب اللغم المضاد للدروع، مثل الدبابات والسيارات، وزنا يزيد على 150 كلغم، لكن الصدأ جعل هذه الألغام سهلة الانفجار عند مرور رجل متوسط البدانة فوقها، كما يشرح لـ«الشرق الأوسط» إبراهيم الزوام، رئيس جمعية «حدائق السلام» في مصر التي تعمل على التوعية بمخاطر الألغام ومساعدة ضحاياها. ويقول الحاج حوسين، وهو رجل مسن يعيش في نجع عيت بلوزة قرب حقول ألغام جنوب مدينة العلمين الشهيرة (نحو 400 كيلومتر شمال غربي القاهرة) إن جيوش المتحاربين في الحرب العالمية الثانية هنا زرعوا الألغام في الصحراء بكل سهولة، لكن بات من الصعب إزالتها بعد نحو ستين عاما من انتهاء تلك الحرب، وكلما مرت السنون أصبح أمر إزالتها صعبا.. «حين يأتي سيل قوي من الوادي، يجرف الصخور، فما بالك بالألغام، سواء كانت مضادة للأفراد أو حتى تلك الكبيرة المضادة للدبابات. البعض يجد تجارة رابحة من استمرار وجود الألغام في كل مكان». ويقول مؤتمر إقليمي عقد حول قضية الألغام، في العاصمة المصرية مطلع هذا الشهر، إن 65 دولة في العالم، منها 12 دولة عربية، تعاني من مخاطر الألغام، وفيها أكثر من 100 مليون لغم، منها نحو 21.8 مليون لغم في مصر. والمشكلة الرئيسية تتمثل في عدم وجود خرائط لحقول الألغام يمكن من خلالها العمل على إزالتها. وفي حين تعاني مناطق في المغرب العربي والشام وإيران وكمبوديا وفيتنام وأنجولا من آثار ألغام يرجع تاريخها لحروب ونزاعات تعود للقرن الماضي، هناك دول أخرى أصبحت تعاني من مشكلة مُركَّبة ومن اتساع في رقعة الأراضي المزروعة بالألغام، بسبب الحروب الجديدة التي نشبت فيها، مثل أفغانستان والعراق ولبنان والسودان والصومال واليمن.. وهذه الأخيرة أوقفت حربا قبل شهرين مع المتمردين الحوثيين شمال غربي البلاد، وإلى جانب تسببها في تأخر عودة نحو 350 ألف مهجر لمناطقهم الأصلية، يخشى المسؤولون الأمنيون من وصول المواد المتفجرة في الألغام إلى أيدي المتشددين المناوئين للسلطات، خاصة تنظيم القاعدة الذي ينشط في جنوب شرقي البلاد.