جسر ثقافي بين الشرق والغرب أصيب في تفجير السفارة المصرية ببغداد

مثقفو العراق يبكون عند أطلال منزل جبرا إبراهيم جبرا الذي تجاهله التقرير الرسمي

كتب ومقتنيات فنية مبعثرة وسط أنقاض منزل جبرا إبراهيم جبرا في بغداد («نيويورك تايمز»)
TT

تضمن التقرير رقم 25، المؤرخ بـ4 أبريل (نيسان) الذي كتبه العقيد قيس حسين، مسحا لآثار تفجير وقع داخل مدينة أصبحت التفجيرات داخلها أمرا عاديا. قال التقرير عن حادث سيارة مفخخة انفجرت الشهر الماضي بالقرب من السفارة المصرية وقتل فيه 17 شخصا: «الأضرار المادية كبيرة. ويتضمن ذلك نيرانا شبت في 10 سيارات وحريقا نشب بمنزل في مواجهة السفارة مع أضرار متوسطة لحقت بـ10 منازل في الجوار».

لكن تقرير العقيد حسين لم يذكر المئات من الكتب، بدءا من مسرحيات تشيكوف وصولا إلى روايات للكاتب الفلسطيني غسان كنفاني، كانت معبأة داخل حقائب وصناديق تحت أحد السلالم. ولم يشر التقرير إلى رسومات زيتية للفنان شاكر حسن، وهو من أعظم الفنانين العراقيين، أو أعمال نحتية لمحمد محمد غني حكمت. ولم تكن ثمة إشارة إلى صخرة أحضرت من مسقط رأس منفي من بيت لحم ساعدت على جعل المنزل جسرا بين الغرب والشرق.

ولم يذكر تقرير العقيد حسين أن المنزل يعود لجبرا إبراهيم جبرا، وهو روائي عربي معروف وشاعر ورسام وناقد ومترجم، قام ببناء البيت بمحاذاة صف من أشجار النخيل والتوت في شارع الأميرات قبل نصف قرن، وعاش هناك حتى وافته المنية عام 1994.

ليست هذه قصة تعبر عن شعور بالحزن بعد الدمار الذي لحق بالمنزل، فكما قال الناقد فاضل ثامر: «لقد رأى الناس هنا الكثير والكثير».

ولكن، في همسات الأصدقاء والزملاء الذين يتذكرون جبرا منصتا إلى باخ أثناء الكتابة والدخان يتصاعد من غليونه وينتشر داخل الغرفة، يمثل المنزل خسارة لشيء عظيم. وبالنسبة إلى بعضهم، فإن الدمار الذي لحق بالمنزل يمثل حادثا مأساويا، ونهاية لعصور داخل العراق والعالم العربي، وانحسارا مثل أعلى جسده جبرا، خلال الحرب والنضال.

من النادر أن يوجد منزل وشخص مترابطان بهذه السلاسة.

ولد جبرا عام 1919 في عائلة مسيحية، واستقر في بغداد بعد حرب 1948. وكان قد حصل بالفعل على درجة علمية من جامعة كامبريدج، وكان على وشك الالتحاق بالدراسة في جامعة هارفارد. وخلال أعوامه التي تلت هنا (العراق) لحق بالنحات جواد سليم وجيل بارز من الفنانين الآخرين جعلوا من العراق دولة رائدة في الثقافة العربية.

كان جبرا من بين الشخصيات الأكثر بروزا، فهو كاتب جددت أعماله الرواية العربية ومتخصص لغوي قام بترجمة الكثير والكثير، بدءا من أشعار شكسبير وصولا إلى رواية فوكنر «الصخب والعنف». ويقول روجر آلن، أستاذ الأدب واللغة العربية بجامعة بنسلفانيا، وكان صديقا لجبرا وساعده في ترجمة اثنتين من أكثر رواياته شهرة: «كان نموذجا حيا على عملية الترجمة عن طريق أخذ ثقافة شخص ونقلها حرفيا إلى ثقافة أخرى، متجاوزا هوة ثقافية».

ويعكس منزله البسيط المكون من طابقين الذي تحده أشجار برتقال تموج بعبق فلسطين، مذاقه الخاص. ويتذكر حكمت أن جبرا كان لديه أحد أعماله النحتية الخشبية فوق موقد النار، بالإضافة إلى عملين آخرين في المدخل وغرفة تناول الطعام. ويتذكر ماجد السامرائي، وهو ناقد وصديق، رسومات زيتية خاصة بفنانين عراقيين مثل راكان دبدوب وسعاد العطار ونوري الراوي. ويقول السامرائي: «كيف لي أن أصف ذلك؟! لقد كان المنزل صالة للفن العراقي».

وفي الأغلب، كانت الموسيقى تسيطر على المكان، حيث يعتبرها جبرا الفن النقي الوحيد. وكتب جبرا إلى آلن: «تجعلني الموسيقى أشعر بالسعادة، ولا سيما تلك التي تعود إلى القرن الثامن عشر أو قبل ذلك. وعندما تأتي إلينا سوف ترى أن لدي جزءا منها (من القرن الخامس عشر إلى القرن الثامن عشر). وحرفيا، تعد هذه الموسيقى الخبز الذي أتناوله يوميا، فهي تحافظ على عقلي وعلى كتاباتي».

ودائما ما كانت أبواب المنزل مفتوحة، هي الأخرى. ويقول أصدقاء إنه أقنع عبد الرحمن المنيف أن يكتب روايته المهمة «مدن الملح» هناك. ويتذكر عيسى بلاطة، أستاذ أدب عربي متقاعد كان يعمل في جامعة ماكغيل بكندا وصديق جبرا، صالونا للشعراء والفنانين والمفكرين به (المنزل) «رقي ثقافي ينبع من عقله وهو مفتوح أمام الآخرين على الدوام».

وعندما مات جبرا في عام 1994، انتقلت قريبة له تدعى رقية إبراهيم إلى المنزل. ويتذكر السامرائي أنه قال لها: «كنوز جبرا بين يديك». ولا تزال دماء رقية تلطخ الحائط بالقرب من مكان بقيت فيه جثتها يوما بعد أن حول الانفجار جسدها إلى أشلاء، قبل أن يتمكن عمال الدفاع المدني من إخراجها. وتوجد راية سوداء معلقة حاليا في الخارج، وعليها عبارة عزاء لها ولابنها، جعفر، الذي قتل هو الآخر. وكتب على الراية: «أتينا من عند الرب، وإليه نعود».

ويعتقد السامرائي أن القسط الأكبر من مجموعة خطابات تضم 10000 خطاب قد احترقت، وتغلق مجموعة من الألبومات المسجلة لشوبان وفيفالدي وباخ الطريق إلى الباب، وعلت الأتربة على جهاز تسجيل. وتوجد صورة بالأبيض والأسود لفصل دراسي داخل جامعة بغداد، وتظهر فيها طالبات يرتدين فساتين قصيرة. وتوجد في بئر السلم نسخة من ملحق الأدب لصحيفة «التايمز» اللندنية «أوف لندن» يعود إلى 16 أبريل 1993.

ولا يبقى سوى عدد قليل من اللوحات الزيتية، ومن بينها صورة لجبرا مرتديا سترة زرقاء ووشاحا أحمر وفي يده غليون. ويقول السامرائي وجيرانه إنه بعد الهجوم قام لصوص بسرقة الأشياء الثمينة التي كانت داخل المنزل، ومن بينها حلي رقية. وأضاف: «ربما لم يكن أحدهم يعلم».

وتركوا الكتب باللغة العربية والإنجليزية سواء كانت كتبا مشهورة (رواية هنري جيمس «صورة لسيدة» وكتاب جورج أنطونيوس «الصحوة العربية»)، أو كتبا غير مشهورة. وتوجد نسخة من مجموعة أعمال الكاتب الأميركي توماس بولفينتش.

ويقول مهدي محمد، وهو قريب فقد حفيدته في الهجوم: «لم يعد يتذكره أي شخص هنا، فجميع من عرفهم قد رحلوا». وكذا لا يتذكرونه في شارع المتنبي، وهو مأوى للمثقفين هنا اعتاد جبرا الذهاب إليه، وقد جرى إعادة بناء المكتبات داخل هذا الشارع بعد هجوم آخر. لا توجد سوى رواية واحدة له داخل أحد المكتبات «ملك الشمس».

ويقول محمد رضا، الذي عرض رواية لجبرا: «إن لم تخني الذاكرة، فهو كان يعيش في منطقة المنصور. وأعتقد أنه تزوج من عراقية. أعتقد ذلك، لست متأكدا». وبعد أن هز رأسه ارتدى نظارته، وتحرك وسط الأرفف حتى عثر على موسوعة للمفكرين العراقيين عمرها 15 عاما. ضرب براحته على غلاف الموسوعة مرتين لينفض التراب الذي تراكم عليها. وتصفح مسردا أبجديا، حتى وصل إلى اسم جبرا، فابتسم وأشار بأصبعه إلى الصفحة. وكان مكتوبا في المسرد: «شاعر وناقد وروائي ورسام».

وبعد ذلك اقتبست الموسوعة فقرة عن طموحات جبرا نقلتها كلماته: «أردت أن أستخلص من المرارة المتواصلة قطرتي من الحلاوة.. كنت آمل أن أزرع شجرة تحيا على أمل أن تنتصر الإنسانية وأن يسود حب الناس». يوجد بيت من الشعر القديم يتذكره كل مثقف عربي وهو: «قفا نبكي من ذكرى حبيب ومنزل...». لم يبق سوى الأطلال، وبالنسبة إلى الشاعر أصبحت هذه الأطلال رمزا للبكاء على أماكن الذكرى.

ويقول زملاء إن جبرا جسد نموذج منزله، فهو معارض استمد إصراره من ترحيل شعبه، ومسيحي كان يحتفي بهويته كعربي وفنان علماني ألهم الربط بين المجتمعات التي ولد وتعلم فيها، ومفكر وجد قوة في الانفتاح على العالم مؤمنا بثقافته الخاصة. ويقول آلن: «كان جبرا يمثل فترة خاصة لتلاقي ثقافات مختلفة».

ولكن، بعد وفاته حدثت المزيد من الحروب، وتعرضت أماكن للاحتلال. تراجع تصوره العلماني للهوية أمام صعود قوى دينية وطائفية. وفي صراع غير متناسق، يواجه الغرب العدواني الشرق المضطرب. ويقول آلن: «نحن في عصر تسيء فيه الثقافات فهم بعضها في العادي وعن قصد». وأضاف أنه «ربما لا يمكن» أن يظهر أحد مثل جبرا، وهذا ما يردده آخرون.

وبالنسبة إلى صديقه بلاطة، كانت المأساة في التبعات. «لم يقف الأمر عند الدمار، بل طواه النسيان». ولكنه، لا يوافق على فكرة أن المنزل يمثل أطلال حقبة ماضية. ويقول إنها فكرة «متشائمة للغاية»، ولم يكن جبرا متشائما في يوم من الأيام.

ويوافق على ذلك السامرائي. وللحظة فكر في الصورة المناسبة. وتساءل: هل يمكن عمل متحف بصورة ما من الأطلال؟ ربما يكون الاعتراف الشيء الأكثر أهمية عن طريق الحفاظ على نموذجه وتغذية الشجرة التي ذكرها جبرا في أحد الأيام. وأضاف السامرائي في النهاية: «تبقى الذكريات عنصرا مهما بالنسبة إلينا، وربما أبدو رومانسيا بدرجة كبيرة عندما أتحدث بهذه الصورة ولكنها الحقيقة. ربما ضاعت داخل هذا المنزل ثقافة نصف قرن، ولكنه لا يزال يعيش معنا، ولا تزال روحه معنا».

* خدمة «نيويورك تايمز»