تحقيق حول مجزرة وقعت في سجن بهايتي غداة الزلزال

تضارب في روايتي السلطة والشهود.. ومؤشرات عن تواطؤ في التعتيم على القضية

شهد سجن ليس كايس بُعيد زلزال يناير محاولة فرار انتهت بشغب وقتل جماعي (نيويورك تايمز)
TT

عندما ضرب زلزال عنيف هايتي في 12 يناير (كانون الثاني) الماضي، بدأ نزلاء السجن المتداعي في هذه المدينة الجنوبية بالصراخ طلبا للنجدة. لكنهم كانوا أسوأ حظا من غيرهم في أماكن أخرى في البلاد حيث تمكن النزلاء من الهرب دون أن يعيقهم أحد. بينما في هذا السجن لم يكن هناك مخرج. وبدلا من أن يجيبهم أحد ازدادت الأوضاع سوءا بالنسبة للنزلاء الذين كانت 3 أرباعهم ينتظرون المحاكمة على خلفية اتهامات بسيطة مثل التسكع.

بعد الزلزال عامل الحراس السجناء بغلظة شديدة ووضعوهم في زنزانات مزدحمة وأطرافهم معقودة. وبعد انتهاء توابع الزلزال، توترت الأعصاب وتناوب السجناء النوم على الأرض واستخدموا الدلاء كمراحيض وبدأوا يخططون لعملية الهروب.

تم تنفيذ خطة الهروب في 19 يناير عبر مهاجمة أحد الحراس بيد أن ذلك كان خطأ فادحا، فقد كان السجن محاطا بقوات الأمن الهايتية وقوات الأمم المتحدة. لم يتمكن السجناء من الهرب وعلى مدار ساعات انتابتهم حالة من الهياج فأخذوا يحطمون الأبواب ويحرقون السجلات حتى ملأ الغاز المسيل للدموع المكان. بعد ذلك قامت قوات الشرطة الهايتية باقتحام السجن، مما أسفر عن مقتل وإصابة عشرات السجناء الذين تناثرت أجسادهم في ساحة السجن أو الزنزانات. وصار السجن ساحة مليئة بالدماء.

يقول مسؤولو الشرطة الهايتية هنا إنهم لم يستخدموا القوة المفرطة لكنهم وجدوا الكثير من الجثث لدى دخولهم السجن. وعزوا عمليات القتل إلى سجين خطر قام بقتل الكثير من زملائه قبل أن يتمكن من عبور الأسوار والاختفاء بين المواطنين. غير أن التحقيق الذي أجرته «نيويورك تايمز» يلقي بمزيد من الشكوك على الرواية الرسمية للأحداث، وخلص إلى أن القوات الحكومية أطلقت النار على السجناء العزل ثم سعت إلى التعتيم على الحادث، حيث دفنت الكثير من الجثث دون شواهد قبور للدلالة على أصحابها.

وقال كينسل جودي، وهو نزيل أطلق سراحه مؤخرا: «لم يكن هناك قتلى عندما اقتحمت الشرطة السجن، حيث صاحوا في السجناء: أيها السجناء، انبطحوا، انبطحوا، وعندما بدأ السجناء في الانبطاح بدأوا بإطلاق الرصاص». وأشار جودي إلى أن عمليات إطلاق الرصاص كانت أشبه بعملية تصفية حسابات، «فقد أطلق الرصاص على أفراد بعينهم بغية قتلهم».

وعلى الرغم من مرور أشهر على الواقعة، فإن أعداد القتلى لا تزال غير معلومة، لكن أغلب الروايات تضعها بين 12 إلى 19 قتيلا ونحو 40 مصابا. ويقول مسؤول الطب الشرعي المحلي، جورجيز رايموند، إنه سجل 11 جثة سجين في بداية الأحداث لكن الكثير من الجثث وصلت لاحقا بعد أن توفي أصحابها نتيجة جروح أصيبوا بها في عملية إطلاق الرصاص، من المستشفى المجاور.

لم يسمح مسؤولو السجن لـ«نيويورك تايمز»، بالدخول إلى السجن الذي تحيطه الأسوار والواقع خلف مركز الشرطة مباشرة في وسط المدينة. لكن الصحافيين أجروا مقابلات مع 6 من شهود العيان على الأحداث إضافة إلى 5 آخرين ممن زاروا السجن في أعقاب إطلاق الرصاص أو اليوم التالي. لم يشاهد أي منهم أحد النزلاء وهو يطلق الرصاص أو أي دليل على عمليات انتقام دموية بين السجناء. وقال الشهود إن قوات الشرطة أطلقت النار على سجناء عزل كان بعضهم في ساحة السجن والبعض الآخر في زنزاناتهم. ورفضت السلطات فيما بعد، إعلام أقارب السجناء بوفاة ذويهم وقامت بدفن الجثث دون إجراء تشريح، كما عمدت إلى إحراق ملابس السجناء الذين نجوا، وأحذيتهم الملطخة بالدماء.

ويقول ميرتيل يونيل، الناشط في مجال حقوق الإنسان: «بالنسبة لنا، نحن نعتبر ذلك مذبحة».

وفي مكتبه الكائن إلى جوار السجن، نفى أولريتش بيوبرون، مسؤول قوات مكافحة الشغب، تلك الاتهامات وقال إن سجينا اسمه تي موسون قتل زملاءه الذي رفضوا مشاركته في خطة الهروب. وأضاف: «قتل تي موسون 12 سجينا، أما نحن فلم نطلق الرصاص من بنادقنا».

تقف تأكيدات بيوبرون على طرف نقيض مع ما توصلت إليه «نيويورك تايمز»، بعد مراجعة التقارير السرية الخاصة بالشرطة الهايتية والأمم المتحدة وأجرت مقابلات مع مسؤولين سابقين وحراس أمن وطهاة السجن وضباط شرطة وقضاة وأقارب السجناء القتلى.

من بين تلك التقارير، إشارة ضباط الشرطة التابعين لقوة الأمم المتحدة في ذلك اليوم في تقرير عن حادث داخلي إلى أن الشرطة الهايتية استخدمت الأسلحة النارية. يعضد ذلك قول الطهاة، وهن 3 نساء حوصرن خلال أعمال الشغب داخل السجن، إن المعتقلين لم يطلقوا النار. بيد أن المؤكد أن تي موسون، فر. ولم تتعامل السلطات الهايتية مع السجن على اعتباره مسرحا لما صوروه بأنه مذبحة ارتكبها موسون، الذي تنتظره محاكمة لسرقته طبقا لاستقبال بث فضائي.

تقول الحكومة الهايتية إنها أجرت 3 تحقيقات مستقلة بشأن الحادث، لكن شهودا قالوا إنهم لم يتحدثوا إلى محققين. ولم تستخرج جثة واحدة من القبر ولم تجمع أي من أدلة الطب الشرعي.

يقول أقارب المعتقلين إنهم لا يشعرون بأنهم معوزون فقط، بل إن الحكومة تخلت عنهم أيضا. فخلال مقابلة مع ماري ميتشل لورنسين، أرملة أبنير ليسيوس، الذي اعتقل على خلفية الاشتباه بسرقة هاتف جوال، وقتل في خلال أحداث الشغب في عمر الـ45 عاما، وهي تجفف دموعها: «السلطات هي التي قتلت زوجي».

لم يصدر عن مسؤولي الولايات المتحدة أو الأمم المتحدة أي نوع من التصريحات بشأن عمليات القتل في ليس كايس قائلين إنهم حثوا السلطات الهايتية على التعامل مع القضية بأنفسهم، غير أن إثارة القضية إعلاميا على نحو متكرر مع المسؤولين الأميركيين دفعت السفارة الأميركية إلى إرسال مبعوث لحقوق الإنسان إلى ليس كايس.

على الجانب الآخر، أمر إدموند مولت، رئيس بعثة الأمم المتحدة في هايتي مفوض شرطة الأمم المتحدة هنا ببدء تحقيق مستقل. وخلال الأسبوع الماضي عبر، ديفيد ويمهيرست، المتحدث باسم الأمم المتحدة في هايتي، عن أسفه إزاء قصور التحقيقات الهايتية بالقول إنها غير مكتملة وغير دقيقة. وتشير التصريحات الرسمية إلى وجود تواطؤ فيما حدث في ليس كايس.

ويعد الأسلوب الذي تقوم به هايتي لمعالجة عمليات القتل في ليس كايس، بمثابة اختبار لمدى التزام هايتي بتعهداتها في مجال حقوق الإنسان في الوقت الذي يسعى فيه العالم إلى معاونتها من أجل إعادة بناء نظام العدالة الذي دمره الزلزال.

وقد طلبت وزارة الخارجية الأميركية ووكالة التنمية الخارجية الأميركية مبلغ 141.3 مليون دولار من أجل هذا الغرض.

كان المجتمع الدولي قد استثمر على مدار 15 عاما في الشرطة الهايتية والمحاكم والسجون لتعزيز حالة الديمقراطية الهشة التي تعانيها البلاد. وقد بدأت تلك الجهود في أواخر عام 1994 عندما أعلن عن حل الجيش الهايتي الذي كان مصدرا للتوترات السياسية. لكن الاستثمارات الدولية حتى الآن لم تركز إلا على الشرطة والتدريب القضائي في ثقافة تعج بالفساد والمحسوبية وهو ما لم يسفر إلا عن بعض النتائج المتواضعة.

وقد اعترفت الحكومة الهايتية في تقييم لضرورات ما بعد الكارثة أن سجون هايتي الـ17، قبل الزلزال كانت بعيدة كل البعد عن المعايير الدولية، فالزنزانات كانت مكتظة بالنزلاء، وعدد الحراس قليل ولا يملكون أسلحة كافية. والمشكلة الأكبر والأهم أن السجناء يقبعون في السجن مدة طويلة جدا قبل تقديمهم للمحاكمة، التي غالبا ما تكون جرائم بسيطة كالتأخر عن سداد الدين التجاري والسحر. ويقول تقرير مجموعة الأزمات الدولية الصادر في 2007 إن سجون هايتي أشبه ببراميل بارود تنتظر شرارة.

* خدمة «نيويورك تايمز»