ليالي أربيل.. لا ملاهي ولا مراقص بل «شاطر ومشطور وبينهما كامخ»

عاصمة إقليم كردستان أصبحت اليوم صورة مصغرة لبغداد أيام زمان.. لا تنام إلى الفجر

خباز يضع «لحما بالعجين» في الفرن بأحد مطاعم شارع الإسكان في أربيل («الشرق الأوسط»)
TT

حتى سنوات قليلة كانت أربيل تنام مبكرا، فقبل أن يرفع أذان المغرب بدقائق يتسابق أصحاب المحال التجارية ودكاكين السوق للإقفال، ما عدا بعض الدكاكين الصغيرة المنتشرة في أحيائها الشعبية التي تتأخر ساعة أو ساعتين عن إقفال السوق، وما إن يحل الليل حتى تغرق المدينة في سكون رهيب، يشبه إلى حد بعيد بعض المدن والعواصم «الميتة» التي بدورها تغرق في الهدوء بعد يوم عمل شاق لمواطنيها، وطبعا ما عدا العواصم الكبيرة «الحية» التي يحلو فيها سهر الليالي.

اعتاد سكان إقليم كردستان منذ عقود طويلة على ملازمة بيوتهم في الليل، وكانت سلواهم فيما سبق جهاز التلفزيون بقناة حكومية واحدة، في ظل غياب شامل لمرافق الترفيه وقضاء السهرات مثل الملاهي والمراقص والديسكوهات بحكم العادات الاجتماعية للمجتمع الكردي المحافظ، ولكن في ظل تحسن الوضع الاقتصادي والمعيشي، ونشوء جيل جديد متحرر إلى حد بعيد من تلك العادات والالتزامات الاجتماعية، تغير وجه المدينة التي باتت تسهر إلى ساعات ما بعد منتصف الليل. شارع إسكان هو أهم شوارع مدينة أربيل الضاجة بالحركة والصاخبة دائما في الليالي، وهو يستحق لقب شارع المطاعم على غرار شارع الملاهي في بعض المدن العربية والأجنبية. وفي هذا الشارع 59 محلا تجاريا بينها 39 مطعما ومحلا لبيع المأكولات، خصوصا الشاورمة التي تسمى محليا «الكص»، ومطاعم «اللحم بالعجين» التي غزت أربيل مؤخرا، وكذلك مطاعم البيتزا الجديدة التي استوردها بعض العائدين من البلاد الأوروبية إلى أربيل. فالمار عبر هذا الشارع الذي لا يتجاوز طوله مائتي متر، يجد بين مطعم وآخر، مطعما آخر، ومعظم هذه المطاعم متخصصة بالوجبات السريعة، خصوصا الساندويتشات التي أراد المجمع العلمي العراقي في سنوات السبعينات أو الثمانينات تعريبها فسموها «الشاطر والمشطور وبينهما كامخ».

وطبعا هناك مئات المطاعم الأخرى الراقية التي تفتح أبوابها لساعات متأخرة من الليل، ولكن الضجيج الأكبر يتركز في شارع إسكان، وإلى حد ما في بلدة عينكاوة ذات الأغلبية المسيحية التي تزدحم بالمهجرين العرب من بغداد والموصل وبقية مناطق العراق. ريكان عمر شاب في العشرينات اعتاد الخروج كل ليلة إلى هذا الشارع لقضاء سهرته مع أصحابه، ويرتاد يوميا كازينو برشلونة الشبابي، ويقول «لا أستطيع البقاء في البيت، واعتدت أن أخرج كل ليلة مع أصدقائي ونلعب الدومينو لساعات متأخرة، فلا مكان آخر لنا نقضي فيه سهراتنا».

مروان محمد يعمل خبازا، ولكنه يقضي سهراته مع أصدقائه إلى ساعات متأخرة تصل إلى منتصف الليل، وقال إنه يجب عليه أن يذهب إلى الفرن ليبدأ العمل من ساعات الفجر الأولى، فسألناه «إذن متى تنام؟ أجاب: عندما أنهي سهرتي أذهب إلى البيت أستبدل ثيابي وأعود إلى الفرن وأشتغل إلى ساعات الصباح، ثم أرجع للبيت وأنام إلى ساعات العصر، وفي المساء تجدني هنا!».

يقول حسام حسن وهو صاحب مطعم يعد أكلة «اللحم بالعجين» إنه نزح من الموصل بسبب اعتداءات الإرهابيين، مضيفا «وصلت أربيل قبل سنة، وبدلا من أن أجلس في مخيم أو أستأجر بيتا، نقلت موجودات مطعمي في الموصل إلى هنا لأحصل على لقمة عيشي، والحمد لله نجد هنا رعاية كاملة من إخواننا الأكراد، ولا نشعر بأي غربة».

وعن الإقبال على هذه الأكلة الجديدة على مواطني كردستان يقول حسن «بالطبع هي أكلة جديدة عليهم، صحيح أنها أكلة معروفة ولكن في كل أربيل كان هناك مطعم واحد حسبما سمعت من زملائي أصحاب المطاعم هنا، ولكن ها أنت ترى في هذا الشارع يوجد أكثر من 10 مطاعم تقدم هذه الأكلة». ويدير آريان إبراهيم مطعما للبيتزا ويقول «تعلمت إعداد هذه الأكلة في النرويج، وعندما تحسنت أحوال أربيل عدت إليها، وفتحت هذا المطعم، ورغم أن هذه الأكلة جاهزة، أي إننا نشتريها جاهزة من معامل متخصصة بإعدادها وكل ما علينا هو وضعها داخل الفرن، فإنها بحاجة إلى خبرة، ولهذا فإن المشترين يزدحمون على هذه الأكلة التي كانت معدومة قبل سنتين على سبيل المثال، اللهم إلا في المطاعم الفاخرة أو فنادق الدرجة الأولى، ولكن اليوم متيسرة للجميع». وفي الشارع الستيني الرئيسي الذي يحيط بالمدينة تنتشر مطاعم الأسماك وتحمل أسماء بغدادية منها مطعم أبو نواس والمحار وغيرها من أسماء مطاعم بغداد، وتقدم السمك المسكوف على يد أسطوات معروفين في شارع أبو نواس ببغداد.

المهم أن أربيل أصبحت اليوم صورة مصغرة لبغداد أيام زمان عندما كانت مدينة لا تنام إلى الفجر، وقد اعتاد شارع إسكان في أربيل على سماع اللهجات البغدادية والموصلية بين مرتاديها حتى ليشعر المرء أنه يمشي بشارع أبو نواس أو الباب الشرقي أو شارع الدواسة بالموصل، وتلك هي الصورة الأصيلة للعراق بلد الجميع.