زحمة اللوحات الإعلانية في القاهرة نتيجة غير مقصودة للنمو الاقتصادي

غيرت وجه المدينة المعروفة بمآذنها وقبابها وعمارتها التاريخية

رجل يمر قبالة جدار من اللوحات الإعلانية في أحد شوارع القاهرة (نيويورك تايمز)
TT

عدد كبير للغاية من اللوحات الإعلانية موجود في القاهرة. ولا يعرف أحد، على وجه التحديد، متى أصبح الكثير كثيرا للغاية. ربما حدث ذلك عندما بدأت صفوف اللوحات الإعلانية تستحوذ على المساحة الأكبر من الأرصفة، الأمر الذي ضاعف من صعوبة الحركة المرورية داخل هذه المدينة، وربما كان ذلك عندما ثُبت بكل عمود إضاءة تقريبا إعلان أو إعلانان، وربما عندما وُضعت لوحات إعلانية ضخمة على مبان مرتفعة على امتداد نهر النيل، (وربما عندما رُسمت إعلانات على أشرعة مراكب بنهر النيل).

ويقول طارق والي، وهو مهندس معماري ومتخصص في التراث شارك في صياغة دليل حكومي يضع قيودا على الإعلانات في الشوارع: «يمكن لأي شخص أن يضع أي شيء في أي مكان، ويجب علينا تقييد ذلك للحفاظ على صورة المدينة». ولا يقتصر الأمر على كوْن هذه اللوحات الإعلانية شيئا مزعجا، بل لأنها غيّرت إلى درجة كبيرة من شكل مدينة كانت تُعرف من قبل بمآذن المساجد وقبابها وبالعمارة التاريخية. وتوجد في القاهرة حاليا أماكن بارزة جديدة مثل مبنى «كوكاكولا» في ميدان التحرير. (نتقابل عند مبنى كوكاكولا!) ويظهر ذلك بعض المشاكل التي تواجهها البلاد، ومنها تنامي الفجوة الطبقية بين الأغنياء والفقراء، حيث يستطيع الأغنياء القيام بأي شيء باستخدام أموالهم بغض النظر عما إذا كان ذلك سيؤثر على الفقراء.

ويُعد وباء اللوحات الإعلانية، الذي انتشر على نطاق واسع خلال العامين الماضيين، نتيجة غير مقصودة لنمو اقتصادي كلي شهدته مصر خلال الأعوام الأخيرة. واتسع نطاق المشكلة مع تدفق المال وزيادة الطموح في بلد يُنظر فيه للقواعد على أنها عقبات يجب التحايل عليها، وترتبط الحقوق بالنفوذ والعلاقات والمال.

ويقول بلال فضل، وهو كاتب سيناريو ومعلق اجتماعي: «يحدث ذلك بطريقة فوضوية عشوائية لأن كل شيء معروض للبيع، ولذا: أين المشكلة في تعليق لوحة إعلانية في كل مكان؟» ويقول نبيه منصور، الذي يقيم في منطقة المعادي: «يوجد في كل خمسة أمتار لوحة إعلانية». ومنذ وقت ليس بالبعيد، قام شبان بأحد شوارع المعادي بتجهيز مكان لوضع قائم لوحة إعلانية معدنية، وتركوا الحجارة مبعثرة أسفل اللوحة الإعلانية الجديدة المضاءة. وربما تمثل هذه قضية تافهة داخل مدنية يواجه سكانها صعوبات خطيرة مثل الفقر والمشاكل الصحية. ولكن غالبا ما تكون مظاهر الخلل، مثل الضوضاء الشديدة وأكوام القمامة والازدحام المروري والإعلانات الفوضوية، من العناصر التي تجعل الحياة اليومية فيها صعبة. ويقول البعض إن انتشار اللوحات الإعلانية بمختلف أنحاء المدينة عزز من شعور بالعزلة. ويشيرون إلى أنهم يرون المال ولكنهم يعرفون أنه ليس لهم، وهذه نتيجة غير متعمدة أفرزها نمو اقتصادي عجز حتى الآن عن تغيير الوضع بالنسبة للفقراء. ويقول خلف محمود (43 عاما)، وهو حلاق يعيش في المعادي الجديدة، وهي منطقة شوارعها ممهدة بشكل أفضل: «يرجع ذلك إلى منظومة الحكومة الفاسدة هنا».

وعلى الطرق التي تقود إلى خارج المدينة الكثير من اللافتات التي تستهدف الأغنياء، الذين ينتقلون بصورة متزايدة إلى مجمعات سكنية تحيط بها أسوار منعزلة عن الفوضى وسط المدينة. ولكن داخل أي منطقة بالمدينة، تسيطر اللوحات الإعلانية على المكان. ويمكن البدء من حي المهندسين، وهو حي للطبقة الوسطى فيه مبان مرتفعة وشوارع واسعة ومتاجر ومقاه، وسنجد عند الدخول من كوبري «15 مايو» لوحة إعلانية تستقبل السائقين تروج لمجمع سكني جديد: «الجيزة الجديدة، حيث تبدأ الحياة». والرسالة بسيطة مفادها أنه إذا كنت تريد حياة أفضل، فعليك ترك المدينة. وتتحرك السيارات بصعوبة شديدة في شارع أحمد عرابي، حيث تعلو أبواق السيارات. وفي ذلك اليوم سارت نادية عبد الهادي (38 عاما) عبر طريق السيارات لأن الرصيف كان مقفلا بلوحات إعلانية يصل ارتفاعها إلى ستة أقدام مثبتة كل 25 قدما. ولم تكن غاضبة بقدر ما كانت محبطة. وتقول نادية: «إنهم لا يهتمون بإمكانية المشي من عدمه. وبالنسبة للحكومة، مادامت هذه تدر أموالا، فلا مشكلة». وتدرك الحكومة بلا شك أن هناك حاجة للقيام بشيء ما. وقبل أعوام قليلة أصدر الرئيس حسني مبارك قرارا يهدف لاستعادة بعض أشكال النظام في المدينة من خلال إنشاء الجهاز القومي للتنسيق الحضاري. ولكن لا توجد متابعة حتى مع أفضل النوايا. ويقول مسؤولون إن المحافظين يشرفون على بيع المساحات المخصصة للإعلانات. وفي القاهرة الكبرى، أصدر مسؤولون حكوميون تراخيص تسمح لشركات الإعلان بتثبيت لوحات إعلانية في كل مكان.

وفي عام 2009، تبنى البرلمان قانونا موحدا للمباني تضمن نصا يدعو جهاز التنسيق الحضاري إلى إصدار دليل إرشادي خاص باللوحات الإعلانية يكون ملزما قانونيا. وتم الانتهاء من إعداد الدليل قبل أشهر قليلة، وأصبح الكثير الإعلانات الموجودة غير قانونية من الناحية الفنية، بحسب ما ورد فيه. ولكن، التدخين في الأماكن العامة غير قانوني أيضا.

ويقول عباس محمد الزعفراني، أستاذ بكلية التخطيط العمراني بجامعة القاهرة ومستشار جهاز التنسيق الحضاري: «بدأت الحكومة تطبيقه، ولكنه لا يُطبق بجرأة». ومن الأسباب التي تقف وراء البطء في تنفيذ ذلك الأموال التي تحصل عليها الإدارات الحكومية والتي تستفيد منها شركات الإعلانات المنتشرة. وتفيد إحدى التقديرات بأن 400 شركة تقوم حاليا ببيع إعلانات في الشوارع، وتمتلك الحكومة الشركات الثلاث الأكبر.

ولا يبدو أن أحدا يكترث للإعلانات، ومن الصعب تصور أنها وسيلة فعالة في عرض المنتجات والخدمات. وتقول هالة مصطفى إنها في كل يوم تقف في نفس الزاوية جنوب وسط المدينة حيث تحيط بها لوحات إعلانية، ومنها واحدة فوق رأسها تمتد فوق ست حارات. وعندما سُألت عما يُروج له في اللوحة الإعلانية، قالت: «لست أدري» وبعد ذلك نظرت لأعلى وشاهدت إعلاناً عن سيارة مرسيدس سيدان. وتساءلت: «إلى ماذا سأنظر؟» وفي جزء آخر من المدينة، قال فارس فرهد إنه لا يوجد ما يدفعه للنظر إلى اللوحات الإعلانية لأنه لا يستطيع شراء أي شيء تروج له اللوحات من حوله.

* خدمة «نيويورك تايمز» خاص بـ«الشرق الأوسط»