تركيا: من حليف مرن.. إلى شوكة في ظهر أميركا

واشنطن تنظر إلى أنقرة باعتبارها تعبث بأرجاء المنطقة على نحو متزايد

TT

على مر عقود، كانت تركيا واحدة من أكثر حلفاء الولايات المتحدة مرونة، ودولة ذات حدود استراتيجية تقع على طرف الشرق الأوسط وتتبع السياسة الأميركية على نحو موثوق به. إلا أن تركيا أكدت في الفترة الأخيرة على توجه جديد في المنطقة، ومن المحتمل أن تثير تصريحاتها وأفعالها في إطار سعيها لتعزيز مصالحها غضب واشنطن.

تفجر التغيير الذي طرأ على السياسة التركية على الصعيد العلني الأسبوع الماضي، بعد غارة فتاكة شنتها قوات كوماندوز إسرائيلية ضد أسطول صغير من سفن تركية، مما تسبب في قطع العلاقات تقريبا بينها وبين إسرائيل، التي شكلت حليفا لتركيا منذ أمد بعيد. منذ شهر واحد فقط، أثارت تركيا غضب الولايات المتحد عندما أعلنت مع البرازيل عقدهما اتفاقا مع إيران للتخفيف من حدة حالة التأزم القائمة حول البرنامج النووي للأخيرة. كما رحبت تركيا، الثلاثاء، بحرارة بمحمود أحمدي نجاد، الرئيس الإيراني، وفلاديمير بوتين، رئيس الوزراء الروسي، في إطار قمة أمنية إقليمية في إسطنبول.

السياسة الخارجية التركية الجديدة جعلت من رئيس الوزراء رجب طيب أردوغان بطلا في العالم العربي، وتشكل تحديا علنيا لأسلوب تناول الولايات المتحدة لأكثر قضيتين إقليميتين إلحاحا: البرنامج النووي الإيراني، وعملية السلام الإسرائيلية - الفلسطينية.

وباتت واشنطن تنظر إلى تركيا على نحو متزايد باعتبارها «تعبث بأرجاء المنطقة وتقدم على أفعال تتعارض مع ما ترغبه القوى العظمى في المنطقة»، حسبما أوضح ستيفين كوك، الخبير لدى «مجلس العلاقات الخارجية». وأضاف أن التساؤل الذي يجري طرحه الآن: «كيف يمكننا الإبقاء على الأتراك داخل حارة الطريق المخصصة لهم؟».

بيد أنه من المنظور التركي تشكل السياسة الخارجية الجديدة مجرد محاولة إقرار مكانتهم في الفناء الخلفي الخاص بتركيا، والمتمثل في منطقة متوترة تعج بالفوضى منذ سنوات، الأمر الذي يشكل في جزء منه نتاجا للسياسات الأميركية. إضافة إلى ذلك، تشعر تركيا بخيبة أمل حيال رغبتها القائمة منذ أمد بعيد في الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي.

في هذا الصدد أعرب سولي أوزيل، بروفسور العلاقات الدولية في جامعة بيلغي بإسطنبول، عن اعتقاده بأن «الأميركيين، بغض النظر عما يقولونه، يبقون عاجزين عن الاعتياد على ظهور نظام عالمي جديد ترغب في إطاره قوى إقليمية في أن يكون لها قول في القضايا السياسية الإقليمية والعالمية. هذه منطقة جوارنا، ولا نرغب في اندلاع مشكلات. إن الأميركيين يخلقون فوضى، ويتركون لنا مسؤولية التعامل معها».

قد يبدو الصعود التركي كقوة إقليمية مفاجئا، لكنه في واقع الأمر آخذ في التطور منذ سنوات، تحديدا منذ نهاية الحرب الباردة عندما كان العالم منقسما ببساطة إلى أبيض وأسود، وكانت تركيا، وهي ديمقراطية مسلمة تأسست عام 1923، شريكا صغيرا في المعسكر الأميركي.

بعد عشرين عاما، أعيد رسم الخريطة، حيث أصبحت تركيا الآن نظاما ديمقراطيا نشطا قائما على التنافس، واقتصادها السادس من حيث الحجم على المستوى الأوروبي. وعلى خلاف الحال مع الأردن ومصر اللتين تعتمدان بشدة على المساعدات الأميركية، تتميز تركيا باستقلال مالي عن الولايات المتحدة. وتكمن المفارقة في أن الديمقراطية داخل تركيا أفرزت بعض المشكلات لواشنطن، فعلى سبيل المثال، صوّت أعضاء من حزب أردوغان عام 2003 بعدم السماح للأميركيين بمهاجمة العراق من داخل الأراضي التركية.

من ناحية أخرى أوضح أحمد داود أوغلو، وزير الخارجية التركي، خلال مقابلة أجريت معه، أن الاقتصاد يشكل لب السياسة الجديدة، مشيرا إلى أن الحزب الذي ينتمي إليه ويقوده أردوغان مؤلف من تجار يبدون التزاما أكبر بتعزيز مصالحهم التجارية عن تعزيز التضامن الإسلامي.

وقال في مقابلة أجريت معه من داخل منزله في أنقرة خلال عطلة نهاية الأسبوع الماضي: «الاعتماد الاقتصادي المتبادل يعد السبيل الأمثل لتحقيق السلام. في نهاية عقد التسعينات من القرن الماضي كانت تحيطنا توترات حادة، وتكبدت تركيا ثمنا باهظا جراء ذلك. الآن نرغب في إقرار نظام سلمي من حولنا».

إلا أن هذه الرؤية تسببت في حدوث صدع مع واشنطن، خصوصا في ما يتعلق بالتعامل مع إيران التي تشكل مصدر الطاقة البديل الوحيد بالنسبة إلى تركيا بعد روسيا. في المقابل، تحدث مسؤول أميركي بارز عن الأتراك قائلا: «إنهم طموحون، وهذا يمنحهم دورا كبيرا على الساحة العالمية. لكن هناك مخاطرة بأن لا يتفهم الأميركيون ما تفعله تركيا، مما ستترتب عليه تداعيات على علاقتهما».

إلا أن المواجهة التي اندلعت بين أردوغان وإسرائيل، التي اتهمها بممارسة «إرهاب دولة» في الغارة التي شنتها ضد أسطول السفن التركية، هي التي أثارت القلق الأكبر لدى الأميركيين، حيث يعتبر الكثير منهم التصريحات النارية الصادرة عن أردوغان مؤشرا على أنه لم يتخلَّ فحسب عن السعي للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، وإنما تحول إلى التحالف مع خصوم الغرب الإسلاميين.

بيد أنه على امتداد سنوات، عمد أردوغان على تشجيع توثيق العلاقات مع إسرائيل، بل وتوجه لزيارتها على متن طائرة محملة برجال الأعمال عام 2005. في الوقت الذي تردت العلاقات بشدة بين الجانبين في السنوات الأخيرة - مع توبيخ أردوغان شيمعون بيريس، الرئيس الإسرائيلي، بسبب التكتيكات التي انتهجتها المؤسسة العسكرية الإسرائيلية في حملتها ضد قطاع غزة - وتقول قيادات يهودية في إسطنبول إن الأمر يتعلق بدرجة أكبر بكراهية أردوغان لحكومة بنيامين نتنياهو عن وجهة نظره بوجه عام تجاه إسرائيل.

من جهته، قال إشاك ألاتون، رجل أعمال يهودي بارز في إسطنبول: «إن القلق لا يسيطر على جميع جنبات المجتمع اليهودي داخل تركيا»، معربا عن رأيه بأن الحديث القاسي هو أسلوب أردوغان بوجه عام ولا يعدو كونه محاولة لكسب نقاط استعدادا للانتخابات المقبلة.

وإلى جانب كونه عمليّا، يعد أردوغان مسلما ورعا، وهي فئة عانت في فترة سابقة من التهميش داخل المجتمع التركي العلماني، ويعد التعاطف مع الفلسطينيين جزءا لا يتجزأ من فكر أبناء هذه الفئة. والملاحظ أنه سريع الغضب ويبدي انفعالا شديدا يتجلى في الأزمات. على سبيل المثال، شعر أردوغان بالتعرض لإهانة شخصية عندما شرع رئيس الوزراء الإسرائيلي آنذاك، إيهود باراك، في قصف غزة من دون سابق إنذار، في وقت كان أردوغان يضطلع بدور الوساطة في محادثات بين إسرائيل وسورية.

وأعرب شفيق غبرة، بروفسور العلوم السياسية بجامعة الكويت، عن اعتقاده بأن تركيا حاولت ملء الفراغ الناجم عن عملية السلام الفاشلة، وأنها عمدت إلى محاولة «إنقاذ الفلسطينيين من السقوط مجددا في هوة اليأس وإنقاذ إسرائيل من نفسها». قد يكون ذلك صحيحا، لكن نبرة أردوغان الصارمة تقضي على مكانة تركيا على طاولة التفاوض كوسيط مع إسرائيل، حسبما ذكر محللون، بجانب أنه يقيد إدارة أوباما ويجبرها على الاختيار بين حلفائها، وهو اختيار الأتراك على ثقة بخسرانه. ووراء الانقسام بين الولايات المتحدة وتركيا، يكمن تساؤل أكبر حول كيفية تناول الأزمات في الشرق الأوسط، حسبما يرى ستيفين كينزر، مؤلف كتاب «التعديل: إيران وتركيا ومستقبل أميركا»، والمراسل السابق لصحيفة «نيويورك تايمز»، حيث تدعو تركيا إلى المحادثات بينما تسعى الولايات المتحدة إلى فرض عقوبات. واستطرد بأن «الأتراك يخبرون الولايات المتحدة: (الحرب الباردة انتهت، وعليكم اتباع نهج يقوم على قدر أكبر من التعاون، وبإمكاننا المساعدة في ذلك». لكن الولايات المتحدة ليست مستعدة لقبول هذا العرض».

من جانبهم، يعمد مسؤولون أتراك وأميركيون إلى التقليل من أهمية خلافاتهما، موضحين أنهما يتشاركان في هدف تحقيق السلام في الشرق الأوسط. إلا أنه على ما يبدو فإن التعارض القائم بين وجهات نظر الجانبين حيال قضايا بعينها - تحديدا حركة حماس والمخاوف الأمنية الإسرائيلية - يخلق عقبات يتعذر التغلب عليها، وينظر البعض إلى الموقف التركي باعتباره ينطوي على تجاهل للواقع.

* خدمة «نيويورك تايمز»