جنرال أميركي لــ«الشرق الأوسط»: ارتكبنا خطأ تبسيط الأمور في العراق.. والطبيعة العشوائية للحرب صدمتنا

الجنرال بورتون يرى أن التغيير في العراق لن يحصل قبل جيل على الأقل

الجنرال جيفرسون بورتون («الشرق الأوسط»)
TT

اسمه الحرس الوطني. مهماته تبدو واضحة من خلال التسمية التي يحملها: قيادة جهود الإغاثة على الصعيد الوطني في حالات الطوارئ.. ولهذا، فإن آخر ما كان يفكر به الأميركيون عندما كانوا يقررون الانتساب إلى الحرس الوطني، هو أنه سيتم إرسالهم إلى الخارج ليقاتلوا في حروب شرسة.

إلا أن 11 سبتمبر (أيلول) غير كل شيء في الولايات المتحدة. تغيرت معه مهمة الحرس الوطني وباتت أوسع وأشمل. وتحول هذا المقوم الأقدم في الجيش الأميركي إلى عنصر أساسي في المعارك التي تقودها بلاده تحت عنوان «الحرب على الإرهاب». وعلى الرغم من أن الجنود المنتسبين للحرس الوطني لا يعتبرون جنودا بدوام كامل، بل معظمهم يمارس وظيفة أخرى مدنية في معظم الأوقات، فعليهم تلبية نداء الخدمة في الخارج عندما يأتيهم الأمر من الرئيس الأعلى للقوات المسلحة، أي الرئيس الأميركي. إلا أنه بسبب عدم تفرغهم الكامل للجيش، فإن الكثير منهم يجد صعوبة في القفز بين الحياة العادية، من وظيفة مدنية وعائلة يعيلها، إلى حياة جندي يقاتل في الصفوف الأمامية في بلد بعيد وغريب. وكما هو الحال مع الجنود العاديين، فإن نسبة الانتحار بين جنود الحرس الوطني ارتفعت بعد حرب العراق إلى درجة أقلقت قادته بشكل كبير، ودفعتهم إلى تطوير عدد من البرامج لمساعدتهم على التأقلم في حياتهم المدنية من جديد. وكان الجيش قد أعلن عام 2008 أن نسبة الانتحار بين الجنود وصلت إلى مستوى قياسي منذ بدأ تسجيل الحالات في عام 1980. وفي عام 2009، أقدم أكثر من 160 جنديا أميركيا على الانتحار، من بينهم 57 من المنتمين إلى الحرس الوطني والجيش الاحتياطي.

ولكن على الرغم من هذه الصعوبات، فإن قادة الحرس الوطني فخورون بمهامهم التي ازدادت، ويعتبرون أن وجودهم إلى جانب الوحدات القتالية في أرض المعركة قيمة مضافة للجيوش التي تقاتل، وللحرس نفسه. «الشرق الأوسط» التقت الجنرال الأميركي جيفرسون بورتون، مساعد القائد العام للحرس الوطني في ولاية يوتا، غرب البلاد، الذي خدم في العراق في بداية الحرب، في محاولة لفهم الدور الذي تلعبه هذه القوات في العراق، وأسباب الضغوط التي يعاني منها الجنود، انطلاقا من خبرته الذاتية.

بالنسبة لقائد عسكري يحمل مسؤوليات تدريب وتحريك أكثر من 5 آلاف جندي أميركي، فإن الجنرال بورتون، الذي يبلغ من العمر 50 عاما، يبدو رجلا لطيفا. على الرغم من أنه يتمتع بمزايا الرجل العسكري من ناحية الشكل، بقصة شعره ولباسه، فإنه لا يتوانى عن الابتسام، وحتى الضحك إذا مرت أمامه نكتة تستحق ذلك. عندما يتحدث، خصوصا عن ذكرياته السوداء في العراق، يعطي انطباعا بأنه رجل عاطفي. ولكنه يفضل أن يصف نفسه بأنه شغوف.

هو جندي تدرب على القتل، لكنه يقول إنه يكره الحرب. «في سن صغيرة قررت أن أكون جنديا، رغم أنني أكره الحرب وليست في طبيعتي، ولا أحب الكثير من الأمور المرتبطة بالجندي..». ولكنه مع ذلك، انتسب إلى الجيش عندما كان يبلغ الـ21 من العمر. يقول ما دامت لديه الرغبة في أن يحمي الناس، ولهذا قرر الانضمام للجيش. رغم كرهه للحرب، يعتبر أن الواقع يفرضها. «هناك أشخاص سيئون في هذا العالم، وإذا لم يكن لديك جيش قوي، يمكنهم أن يتسببوا بالأذى عشوائيا». يتمنى لو يمكن حل كل الأزمات بالحوار، ولكنه يقول: «أن تكون مسالما لا يؤدي بك إلى أي مكان برأيي، يجب أن تقدم دفاعا قويا لكي تردع من يريدون التسبب بأذى».

الصورة النمطية للجندي الأميركي في الأذهان تزعجه. ويزعجه أن الإعلام يركز فقط على قصص تعكس سيئات الجنود، بينما يتجاهل القصص الإنسانية التي تعكس طبيعتهم الطيبة. يعترف بأن البعض يجادل بنوايا الولايات المتحدة في أوقات كثيرة، ولكن بالنسبة إليه الأمر واضح: «نوايانا صافية.. ولكنها غالبا ما يساء فهمها، خصوصا من قبل الشعوب في الشرق الأوسط». ويضيف: «أفهم وأدرك أنه ينظر أحيانا إلى الأميركيين من قبل العالم على أنهم متنمرون، وكأنهم الوحش في الغرفة، ولكن لو تمكنت من التعرف على الأميركي العادي تعرفين أن الأميركيين لديهم قلوب كبيرة، وفي عقولهم يريدون أن يقوموا بالأمور الجيدة ومتحمسون لنشر الحرية... ولكن لا ينظر الجميع إلى الحرية كما ننظر إليها نحن».

يرفض فكرة أن الجيش الأميركي هو الذي يجلب على نفسه هذا الصيت السيئ، بسبب تصرفاته. وعندما أذكره بفضيحة سجن أبو غريب. يقول: «هذا أمر محزن جدا، لأن 99.9 بالمائة من الجنود يقومون بالأمور الجيدة ويحاولون أن يكونوا لطيفين، وعندما نرى نسبة ضئيلة تتصرف بهذا الشكل الغبي والأرعن... إنه أمر محزن». ولكنه يضيف أن هذه الأمور الشاذة موجودة في كل جماعة وثقافة.

في العراق كان بورتون يقود كتيبة هندسة قتالية تضم 700 جندي. بدأ مهمته في فبراير (شباط) 2003، ولكنه لم يتمكن من دخول العراق مع كتيبته إلا في أبريل (نيسان) بسبب الخلاف مع تركيا حول استعمال أراضيها للدخول إلى العراق. وبقي هناك حتى مايو (أيار) من عام 2004.

مهمة الكتيبة الأساسية كانت البحث عن العبوات الناسفة. ولكن بالإضافة إلى ذلك، كانت مسؤولة عن تشييد البنى التحتية. يعتبر بورتون أن هذه المهمة ساعدته وقواته على التواصل مع العراقيين وبناء علاقة جيدة معهم.

يقول إنه قضى الكثير من وقته في العراق يتحدث إلى الناس في الشوارع، وأن ذلك جعله يدرك أن معظمهم كان يبحث عن مستقبل أفضل. «كلهم، أو معظمهم، لم يكونوا مغمورين بالسعادة لرؤية جنود في بلادهم من بلد آخر، ولكنهم كانوا يشعرون بالأمل بأنهم سيحصلون على بعض الأمن والعدل لأن القليلين فقط كانوا يتمتعون بحياة جيدة وحقوق في ظل حكم صدام، خصوصا الشيعة والأكراد، بينما كانت هناك مجموعة صغيرة تتمتع بالكثير..».

ينظر بورتون إلى خدمته في العراق عموما على أنها كانت «خبرة جيدة»، ولكنه لا يزال يحمل معه الكثير من الذكريات «السوداء» التي تلاحقه. يقول إن الكثير من الجنود العائدين يجدون صعوبة في التأقلم في حياتهم العادية من جديد بعد الويلات التي شهدوها خلال خدمتهم. يروي بورتون أن أكثر ما كان يصدم الجنود الأميركيين في العراق كانت الطبيعة العشوائية للعنف. «في الحروب السابقة، كانت هناك خطوط أمامية، وإذا كنت فيها تعرفين أنه سيكون هناك إطلاق نار وعنف. ولكن في العراق يمكن أن تكون الأمور مسالمة في لحظة، وفي اللحظة التالية يفجر انتحاري سيارة ويقتل نساء وأطفالا عشوائيا كانوا يقومون بما يقومون به في حياتهم اليومية..».

كانت إحدى المهمات المكلفة به كتيبة بورتون نشر الأمن. وبسبب الطبيعة العشوائية للعنف التي تحدث عنها، والتي لم يكن الجنود محضرين بها، فإن مهمتهم كانت صعبة. يقول بورتون: «تعلمنا ونحن هناك. ووجدنا أن أفضل طريقة لنشر الأمن هي الحصول على ثقة ودعم الشعب».

هذا العنف الذي انتشر في العراق كان أحد أسبابه ومحركاته وجود القوات الأميركية هناك. ولكن بورتون يرفض لوم الجنود الأميركيين على العنف هناك. يقول: «أعتقد أنه يمكن مجادلة ذلك. أنا أؤكد أن هناك بعض الأشخاص الذين كانوا يقومون بأعمال العنف لأننا كنا هناك، ولكن أعتقد أن هؤلاء الأشخاص الذين يقتلون أبرياء كانوا سيقومون بذلك في كل الأحوال، إن كنا هناك أم لم نكن، إذا لم تتم الأمور كما يريدونها».

عندما سألته إذا كان يشعر بالذنب، رد يقول: «هذا سؤال صعب.. علي أن أقيم كل يوم ما فعلته كجندي هناك، ما فعلته كقائد جنود.. كانت هناك أوقات عندما تنفجر عبوات ناسفة بالقرب مني، وأطفال صغار يصابون.. كنا نحاول مساعدة الناس.. وعلى الرغم من أنني لست أنا من تسبب بذلك، فإنني أشعر بالأسف لأنني شاهدت ما شاهدت ولم أتمكن من إعادة الأمور إلى صوابها».

ولكنه بعد أن أسهب في رواية ما كان يفعله الجنود لتجنيب المدنيين الإصابات، وتعريض أنفسهم للخطر أحيانا لتفادي ذلك، كرر السؤال الذي طرحته عليه، على نفسه، ليقول: «هل أشعر بالذنب؟ لا، لأنني أعرف أنني بذلت ما بوسعي لأحمي الآخرين، وأفكر في ذلك كل يوم».

يروي بورتون كيف عم الشعور بالأسى بين الجنود عندما بدأت أعمال العنف تزداد بعد أسابيع قليلة على الغزو. يقول: «من الواضح أن هدفنا كان مساعدة الناس في الحصول على حياة أفضل». يعترف بأنه تم ارتكاب خطأ في العراق، ولكن الخطأ كلن بالتأمل بأن الأوضاع ستتحسن بسرعة. «أعتقد أننا ارتكبنا أخطاء مرات عدة باعتقادنا أن التغيير يأتي بسهولة وبسرعة. وهذا غير صحيح. التغيير بطيء وصعب ويأخذ وقتا».

لا يلوم بورتون السياسيين على قرارات سيئة اتخذوها. يقول إنه جندي يتبع الأوامر وليس دوره مناقشتها، شرط أن تكون شرعية. ولكنه يضيف بشيء من الانتقاد: «أعتقد أنه في بعض الأحيان كلنا نميل إلى تبسيط الأمور، حتى الشعب العراقي..». ولكن شرعية الحرب في العراق لا تزال تشكل مادة جدل واسعة في العالم. فهل يعتقد بورتون أن الحرب كانت شرعية؟ يقول إنه في ذلك الوقت، ظن أنها كذلك «كمعظم الأميركيين والأوروبيين». وهل كان ليستجيب للأوامر لو علم حينها أنها ليست مستندة إلى أدلة حقيقية؟ يقول: «لا أعتقد أن الرئيس كان ليأمر بالغزو عندها، لأن أوامره تم بناؤها على المعلومات الاستخباراتية..».

لا يندم على شيء فعله في العراق. يكرر أنه بذل ما بوسعه لمساعدة المدنيين وحمايتهم. وعندما ينظر إلى أوضاع العراق اليوم، لا يشعر أنه أضاع وقته وخسر رفاقا له في المعارك هناك من دون سبب. يقول: «أنا متعلم كفاية لأدرك أن الديمقراطية الموجودة في العراق لن تكون شبيهة بالديمقراطية في الولايات المتحدة.. لا زلت أعتقد أن الحرية هي أمر يريده معظم الناس». ويضيف: «الأمر سيأخذ وقتا. التغيير لن يأتي في سنة أو 10 سنوات، بل سيأخذ جيلا.. ولكن أنا أؤمن بأن الأمور اليوم أفضل مما كانت عليه في السابق.. هل هناك فساد هناك؟ بالطبع. ولكن الفساد موجود في كل مكان ويجب أن نستمر بمحاربته.. ».

عندما أسأله إذا كان يعتقد أنه يجب أن تحصل الأمور السيئة قبل أن نصل للأمور الجيدة، يوافق. ويقول: «أعتقد ذلك، إنه محزن... صدام كان رجلا سيئا... حصلت بعض الأمور السيئة لإزالته، ولكن الأمور الآن بيد العراقيين ما إذا كانوا يريدون شيئا مختلفا». يعترف بورتون بأن الجنود الأميركيين «ليسوا كاملين»، ولكنه يصر على أن «رغبة في قلوبهم» بحماية غير القادرين على الدفاع عن أنفسهم.