رئيس وزراء اليونان.. أنقذ بلاده وشعبيته بالصراحة

باباندريو بدأ تطبيق إجراءات التقشف على نفسه.. ودخل السياسة مرغما

TT

وصل رئيس الوزراء اليوناني جورج باباندريو، الذي انتخب حديثا ويواجه عجزا هائلا في الميزانية، إلى بروكسل في أول لقاء له بقيادات أوروبية، في ديسمبر (كانون الأول) الماضي، ومعه بطاقات قليلة يمكنه المناورة بها على طاولة التفاوض. كان بإمكانه محاولة كسب بعض الوقت، لكنه بدلا من ذلك، صرح بكل شيء وأوضح أن عجز الميزانية اليونانية لا يبلغ ضعف ما سبق إعلانه فحسب، وإنما أضاف أن الأوضاع المالية لبلاده تعصف بها حالة من الفوضى، حيث يعم الفساد والتهرب الضريبي.

وفي معرض حديثه عن هذا اللقاء، قال باباندريو أثناء جلوسه في غرفة مكتبه بمنزله: «قلت لهم، أنصتوا لي ودعونا نتوقف عن اللف والدوران. أمامنا مشكلة، وسأخبركم بوجهة نظري وما أحاول عمله». وعلى الرغم من أن الاحتمالات كانت تشير إلى عكس ذلك، فقد نجحت استراتيجيته. ففي غضون شهور، نجح في ضمان الحصول على الإعانة المالية التي كان يحتاج إليها مع استمرار احتفاظه بعلاقات طيبة مع القادة الأوروبيين الآخرين، الأمر الذي اعتبره كثير من المراقبين عملا بطوليا.

وقال جوزيف إي. ستيغليتز، العالم الاقتصادي الحائز على جائزة نوبل الذي يقدم المشورة باستمرار إلى باباندريو: «هناك الكثير من التوتر بين العناصر الموجودة داخل الاتحاد الأوروبي حاليا. لو كان هناك شخص آخر غير باباندريو، لتفجرت تلك الخلافات».

وأتت استراتيجية باباندريو القائمة على قول الحقيقية كما هي، بنتائج إيجابية لصالحه على الصعيد الداخلي أيضا. وعلى الرغم من فرضه سلسلة من إجراءات التقشف وإخباره اليونانيين أن جزءا كبيرا من اللوم يقع على عاتقهم فيما يخص المشكلات التي يواجهونها، لا يزال يحظى بشعبية لدى الناخبين الذين تشككوا منذ سنوات قليلة فقط فيما إذا كان قويا بما يكفي لاضطلاعه بهذا المنصب. وجدير بالذكر أن القادة اليونانيين عادة ما اتسموا بحدة بالغة وتصلب في الرأي، مع ميلهم إلى الخطاب الوطني.

وعلى الرغم من أن باباندريو وريث لمجموعة سياسية اشتراكية معروفة، فإنه حطم هذا القالب النمطي. فأحيانا، يتحدث بهدوء بالغ - سواء باللغة الإنجليزية التي يتحدثها بلهجة أبناء كاليفورنيا أو اللغات الثلاث الأخرى التي يتحدث بها - إلى درجة أنه يتعذر على الآخرين سماعه.

بمجرد تقلده منصبه الجديد، تخلى عن السيارة الفارهة من طراز «بي إم دبليو» التي كان يتنقل بها سلفه واختار سيارة مستخدمة من طراز «تويوتا بريوس» من بين السيارات المملوكة للدولة لتصبح سيارته الرسمية. وبعد ذلك، أصدر توجيهاته إلى وزرائه بالتقليل من نفقاتهم أيضا، إلى درجة أن بعضهم اضطروا إلى التشارك في سيارات. وعن هذا، قال باباندريو: «أعتقد أنهم أدركوا أن هذا الأمر مهم». لكنه في الواقع لم يترك لهم مجالا للاختيار.

وقد ساعدت مثل هذه التنازلات في إقناع ألمانيا، أكثر الدول الأوروبية الكبرى ترددا حيال تقديم مساعدة مالية لليونان، بدعم توفير حزمة إنقاذ مالي لليونان، التي تعد أكثر دول منطقة اليورو تبذيرا.

في خضم الأزمة في الربيع، أشرك باباندريو صندوق النقد الدولي في المفاوضات، مما اعتبره البعض تحديا ضمنيا لقدرة أوروبا على تناول شؤونها المالية، لكن هذه الخطوة عملت بمثابة صيحة تنبيه بأن اليونان بحاجة إلى مساعدة جميع دول المنطقة. ولا يبدو أن هناك من هو أكثر حرصا على الإصلاح من باباندريو نفسه.

ينتمي باباندريو إلى عائلة سياسية في اليونان تحظى بمكانة شبيهة بتلك التي يحظى بها آل كيندي في الولايات المتحدة. فقد ولد باباندريو في الولايات المتحدة وتلقى تعليمه هناك. خلال الانتخابات، شن باباندريو حملة شبيهة بتلك التي قادها الرئيس الأميركي باراك أوباما وعد خلالها بالتغيير والشفافية. والآن، يواجه باباندريو مهام تفكيك نظام الرفاه اليوناني الواسع الذي ساعد والده، أندرياس، في بنائه عندما كان رئيسا للوزراء في ثمانينات القرن الماضي.

وعلى الرغم من أنه لا يحمل المواهب التي تؤهله أن يكون خطيبا، يعد باباندريو من الوجوه المألوفة في المؤتمرات الأكاديمية ومناقشات السياسة الخارجية. ويتجلى شعوره بالثقة لدى تناوله قضية كيفية تأثير العولمة على صنع القرار. وعن ذلك الأمر، قال: «هناك مفارقة تكمن في أن الناس باتوا أكثر وعيا بكثير من المشكلات المشتركة، لكن في الوقت ذاته هناك إدراك أنه ما من أحد بإمكانه فعل الكثير بمفرده».

من ناحيته، وصفه ريتشارد باركر، الخبير الاقتصادي لدى «كلية كيندي للحكومة» التابعة لهارفارد، الذي ربطته معرفة بالأسرة منذ أن عمل مع والد باباندريو، بأنه «يميل إلى الابتعاد عن الأضواء، وهو شخص ديمقراطي. يفتقر إلى التفاخر أو التكلف. ومع ذلك، لا يجد صعوبة في التعامل مع عالم دافوس حيث يألف الآخرون عالم الهياكل الهرمية».

في الواقع، يستضيف باباندريو، دافوس مصغرة خاصة به على جزيرة يونانية مختلفة كل عام. وكانت النتيجة تمتعه بشبكة واسعة من الخبراء، بينهم باركر وستيغليتز، يتشاور معهم بانتظام، غالبا عبر رسائل البريد الإلكتروني التي يبعث بها مساء. ويمزح مساعدوه بشأن هذه الاستشارات بقولهم إنها تخص دائرة «أصدقاء جورج».

وعمد باباندريو إلى نقل اجتماعات مجلس الوزراء علانية عبر شاشات التلفزيون وندد علانية بالمتهربين من الضرائب وشرع في تحقيقات بشأن مسؤولين غير بارزين في وزارة المالية يملكون منازل تتجاوز قيمتها 1.3 مليون دولار، على الرغم من تقاضيهم رواتب متواضعة.

وفي الوقت ذاته، مارس باباندريو ضغوطا لتمرير قانون يرمي إلى إعادة صياغة الهيكل الحكومي في البلاد، يقلص عدد الولايات إلى 13 من 76، وعدد المقاطعات إلى 370 بدلا من 1034. ومع ذلك، لا يبدي باباندريو سعادة لإثبات مجريات الأمور صحة رأيه.

وعن الأحداث الأخيرة، قال باباندريو: «كان الأمر مؤلما، بل وظالما في بعض الأحيان، لأن هناك قطاعات من المجتمع لا تتحمل مسؤولية عن هذه الأزمة، لكنها ستتحمل العواقب».

حتى الآن لم يتضح بعد ما إذا كان باباندريو سيتمكن من الإبقاء على بلاده بعيدة عن هاوية الإفلاس. واعترف باباندريو بأن إجراءات التقشف يمكن أن تدفع اليونان إلى حالة من الكساد. ولا تزال في جعبته بعض الإجراءات المفتقرة إلى الشعبية بصورة حادة، مثل إصلاح نظام المعاشات، لم يمررها بعد عبر البرلمان.

في هذه الأثناء، تواصلت الإضرابات والمظاهرات، في الأسابيع الأخيرة، وتتصاعد الانتقادات لأداء وزراء باباندريو. يذكر أن باباندريو نشأ خلال فترة توترات سياسية في اليونان وعاين سجن ونفي جده ووالده، وقضى جزءا كبيرا من الفترة الأولى من حياته في الخارج، في كاليفورنيا. وينتمي إلى أم، مارغاريتا، أميركية، وتولى والده تدريس الاقتصاد في بيركلي، بالولايات المتحدة. وتخرج باباندريو في أمهرست كوليدج ويتحدث الفرنسية والسويدية، إلى جانب اليونانية والإنجليزية.

دخل باباندريو مرغما، الحقل السياسي عام 1967، في البداية تحول إلى سبعة أعوام من الحكم الديكتاتوري العسكري، عندما اقتحم جنود منزله في اليونان بحثا عن والده، وبعدما عجزوا عن العثور عليه، صوبوا فوهة بندقية إلى رأس باباندريو.

حتى عندما تولى والده رئاسة الوزراء عام 1981، لم يبد في بادئ الأمر اهتماما بالترشح لعضوية البرلمان. إلا أن أحد أشقائه طرح عليه حجة مقنعة، حيث قال: «أنصت إلي، إنها أربع سنوات فحسب. إن الأمر أشبه بنيل درجة علمية أخرى. ويمكنك الرحيل إذا لم يرق لك الأمر». وفي وقت لاحق، عمل باباندريو في مجلس وزراء والده، حيث تقلد حقيبة التعليم، لكن العلاقة بين الأب والابن توترت أحيانا.

عندما ضرب زلزال تركيا عام 1999، سارع جورج باباندريو لتقديم يد العون، على الرغم مما شاب العلاقة بين الجارتين من توتر خلال تلك الفترة. واضطلع بدور الوساطة في إذابة الجليد بين الجانبين، ووصف أصدقاؤه هذه الفترة بأنها كانت حاسمة. وعن ذلك، قال باركر: «أعتقد أنه أصبح واضحا في ذهنه آنذاك أنه ليس نجل رئيس الوزراء فحسب، وإنما بمقدوره الاضطلاع بهذا الأمر بمفرده».

وقد تهكم منتقدوه عليه في بعض الأحيان لتعثره في الحديث باليونانية، وهو أمر يضايقه بوضوح. إلا أن مساعديه أكدوا أنه يحمل تفهما عميقا لوطنه، وبراعة بالغة في التعامل مع القضايا السياسية.

* خدمة «نيويورك تايمز»