وفاة المستشرق الألماني روترز.. الذي قضى عمره يحسن صورة الإسلام في الغرب

كان ضليعا في اللغة العربية.. وواجه مستشرقين سرقوا وزيفوا حقائق عن الإسلام

TT

توفي في ألمانيا أحد علماء الاستشراق الذين تخصصوا في العلوم الإسلامية عن عمر يناهز التاسعة والستين. وقالت جامعة هامبورغ أمس، إن عالم الإسلاميات جيرنوت روترز توفي في بلدة شتاده بجوار هامبورغ شمال البلاد. وكان جيرنوت شغل منصب مدير المعهد الألماني للأبحاث الشرقية في بيروت في الفترة بين عامي 1980 و1984، ثم شغل بعد ذلك وظيفة أستاذ علوم الاستشراق المعاصرة في حلقة الاستشراق النقاشية بجامعة هامبورغ حتى عام 2003. هو عارف كبير بالإسلام، ومتحدث طلق للعربية، ويعد من أكثر المستشرقين الغربيين نزاهة عملية. وقد اتسمت أعماله إجمالا بنوع من الحيادية وإن كان بعضها لا يتفق مع الرؤية الإسلامية، إلا أنها أقل تحيزا ضد الإسلام من غيره من المستشرقين. وكان أكثر ما يؤرق هذا العالم تشويه صورة الإسلام في أوروبا، وسعى كثيرا لتحسينها.

كان الراحل ضليعا بالتاريخ الإسلامي، شديدا ضد الإرهاب والإرهابيين، وناقدا لا يعرف الرحمة تجاه أحد، ولا حتى تجاه أستاذته الراحلة أنا ماري شمل والمستشرق المعروف جيرهارد كونسلمان. وكان مثيرا للإعجاب جدا عندما يتكلم العربية، لأنه من الصعب جدا ملاحظة أي لكنة حينما يتلفظ الحروف العربية الصعبة، مثل الحاء والعين، وكان يورد اسم النبي «محمد» بحاء عربية نظيفة وبقدر كبير من الاحترام والتبجيل.

ولد روترز لعائلة مثقفة في مدينة توباو في 14 مارس (آذار) 1941، وكان أبوه فالتر روترز صحافيا معروفا، وأخوه هو المؤرخ، المتخصص بتاريخ أوروبا الوسيط إيكهاردت روترز. وكتب جيرنوت مع أخيه المذكور أحد أجمل كتبه، عنوانه «فينوس، ماريا، وفاطمة». وهو كتاب عن الرموز النسوية في الديانات، مزيج من الأساطير والحكايات، ومحاولة لتقريب وجهات النظر وتعزيز الاندماج بين ممثلي مختلف الديانات والأقليات المقيمة في ألمانيا.

لم يفقد روحه المرحة حينما كان بين عامي 1980 و1984 رئيسا لمعهد الاستشراق الألماني ببيروت، وحافظ على رباطة جأش منقطعة النظير يوميا، وهو يمارس هواية التجوال في أزقة بيروت الخطرة. بل إنه، وبين أصوات الانفجارات، وهدير الطيران الإسرائيلي فوق العاصمة اللبنانية، ترجم شيئا من مقامات الهمذاني. كما أنه مارس كتابة الشعر لأول مرة وهو في معهد الاستشراق ببيروت، رغم أنه لم ينشر شيئا من شعره.

وجه جيرنوت روترز انتقادات شديدة للكثير من العاملين في حقل الاستشراق، ومن بينهم أحد أهم الصحافيين المهتمين بالشرق، وبالتراث الإسلامي، وهو الإعلامي العامل في التلفزيون الألماني (القناة الأولى)، وخبير الشرق الأوسط جيرهارد كونسلمان. فقد أصدر روترز كتابا يرد فيه على كتاب كونسلمان المعنون بـ«محمد، نبي الله وقائد حربه»، وكشف المستشرق في هذا الكتاب عن مقاطع كاملة من كتب التراث العربي الإسلامي نسبها كونسلمان لنفسه. بل إن روترز تابع كتب كونسلمان الاستشراقية الأخرى، التي يزيد عددها على عشرة كتب، وكتب يقول إن الرجل سارق ومزيف للحقائق، ولم يعبأ المتهم بالرد على التهم.

درس روترز الاستشراق في جامعة بون، تتلمذ على يد البروفيسور جوستاف مينشنج، ونال الدكتوراه في الاستشراق عام 1977 لقاء أطروحته عن «دور الزنج في المجتمع العربي الإسلامي»، خصوصا في مرحلة حكم الأمويين. وبعد عودته من لبنان منح لقب «بروفيسور»ن وصار يدرس الاستشراق في جامعة هامبورغ. وعرف عنه نظرته النقدية للتاريخ الإسلامي، فحسب رأيه أن عالم الاستشراق لا بد أن يتمتع بنظرة نقدية كي يميز التاريخ الذي كتبته الحكومات عن التاريخ الذي يصنعه البشر.

كان طول حياته يدرس الشرق، ويبحث بين صفحات الكتب عن الحقائق، فتحول من مستشرق إلى عاشق للشرق، وكما يقول إنه لا يحب الشرق ليدرسه وإنما ليعيش فيه. ولا يكف عن دراسة موضوع معين؛ لأنه «عندما ألاحظ أني صرت أعرف ما يكفي عن موضوع معين أعرف بأني فقدت اهتمامي به».

فضلا عن ذلك كان روترز سياسيا انتمى بنشاط إلى حركة السلام خلال التحضيرات لحرب تحرير الكويت عام 1991، كما كان أحد الموقعين على «إعلان برلين» الذي يدين الحرب على أفغانستان عام 2001. أصبح نائبا برلمانيا عن حزب الخضر رغم عدم انتمائه لهذا الحزب، وكان له دور كبير في تأسيس وصدور مجلة «زينيث» التي تعني بشؤون الاستشراق، كما أصبح أحد أعمدة معهد الثقافة الشرقية والاستشراق في هامبورغ.

من أعماله الأخرى المهمة «الأمويون والحرب الأهلية الثانية 680-692»، و«حياة النبي» (2004)، و«موسوعة الشرق الأوسط»، و«الصراع الإسرائيلي الفلسطيني من أ إلى ي».

في مارس (آذار) الماضي، وبعد أن أجرى عملية معقدة وخطرة في القلب (كان مدخنا شرها برغم تحذيرات الأطباء) لم يفقد روترز روحه المرحة أبدا، وكان أول ما تفوه به بعد استيقاظه من المخدر «عجيب أن ينجحوا في ترميمي وترقيعي مجددا». وروحه التهكمية المرحة، التي تمزج الجد بالهزل، لا تفارقه حتى في المقابلات الصحافية، ويجد الصحافيون صعوبات جمة في صياغة الأسئلة التي يوجهونها له بسبب دقته وحرصه على الحقيقة. ينقل عنه، حينما كان عضوا في ولاية برلمان راينلاند بفالز، أنه طالب بتهكمية عالية، وبسبب الأخطاء اللغوية التي يرتكبها النواب، باعتماد السويحيلي لغة رسمية في البلاد.

تعرفت على جيرنوت روترز بنظارته السميكة في ندوة عن الشرق والإسلام في كولون قبل أكثر من عشر سنوات، قضينا أمسية جميلة نتحدث عن الإسلام وسرقات المستشرقين الألمان من كتب التراث العربي الإسلامي، وأهديته في النهاية كتابا يضم آراء أهم الكتاب العرب في الإسلام السياسي ومنابع الإرهاب. يذكر أن وفاة روترز كانت في التاسع من الشهر الحالي، إلا أن إعلان الوفاة من قبل الجامعة لم يتم إلا أمس.