مستشفيات العراق: نقص الكوادر الطبية والأجهزة الحديثة والأدوية.. وغياب النظافة

أجور العملية الجراحية في المستشفيات الخاصة 4 آلاف دولار مما يضعها خارج متناول غالبية المواطنين

طبيب عراقي يفحص مريضة في أحد مستشفيات بغداد (رويترز)
TT

ماذا بقي في بغداد، من بغداد؟ وماذا تبقى من معالمها الحضارية: أبنيتها، مساجدها وكنائسها، شوارعها، حدائقها، مقاهيها، أسواقها، مكتباتها، جامعاتها القديمة والحديثة، نهرها، أنصابها الفنية، روحها، بهجتها وألقها، أغانيها وموسيقاها، مسارحها، ألوانها، دور السينما فيها، أزقتها العتيقة، بل الأكثر من هذا ناسها.

لا شيء تبقّى من بغداد في بغداد اليوم، فهي ليست بغداد الأمس، وهي ليست بغداد البغداديين، هي ليست بغدادكم أو بغدادنا، أو بغداد كما عرفها أي زائر لها في السابق.. إنها وببساطة بغداد التي هي ليست ببغداد، ليست المدينة التي كان يتبغدد فيها المقيم والزائر منذ أن بنيت.. وحتى خربت.

«الشرق الأوسط» استغرقت لأكثر من شهر في سطح المدينة وعمقها، حولها وفوقها، فوق أرصفتها وعلى حافات نهرها، وبين ناسها وفي أسواقها، بحثا عن روح بغداد الألقة، فلم نجد سوى بقايا مدينة تتخرب كل ساعة ويوم أمام أهلها، وبرصد شهود عيان بعضهم يبكي من أجلها، والبعض الآخر يمعن في خرابها، وبعض ثالث لا يهمه ما يراه من مشاهدها الحزينة. هنا اكتشاف جديد لبغداد..التي لم تعد بغداد.. بغداد التي خرجت من بوابات الحروب والدمار متألقة دوما، إلا في هذه المرة، فقد خرجت ولم تعد حتى اليوم.

على الضفة الشرقية من نهر دجلة، وقريبا من منطقة الباب المعظم، تقوم مدينة الطب، وهي واحدة من أكبر المؤسسات الطبية، ليس في العراق أو في بغداد فحسب، بل على صعيد منطقة الشرق الأوسط، حسبما يؤكد الدكتور نزار أحمد العنبكي، معاون مدير عام دائرة مدينة الطب التي يتسع المستشفى التعليمي فيها لألف سرير.

في ملف الخدمات الطبية لم نذهب إلى الناس، ذلك أننا على يقين بأن الشكوى ستكون هي لسان حالهم، بل توجهنا مباشرة إلى المعنيين الحقيقيين، ونستطيع أن نسميهم الأبطال الحقيقيين في هذا الميدان الذي يتعلق بحياة الناس، وهم الأطباء، الجنود المجهولون في معركة الحياة والموت التي تتجسد كل يوم في العراق عامة وبغداد خاصة. لم نرد سماع الشكاوى، بل أردنا الحصول على المعلومات الحقيقية بمصداقية وشفافية عالية، وبدأنا من أكبر مؤسسة طبية، تدعى مدينة الطب، وهي حقا مدينة للطب.

قامت مدينة الطب على أنقاض أول مستشفى في بغداد كان يحمل اسم «مستشفى المجيدية» الذي أنشأه الوالي العثماني رجب باشا، على ضفة نهر دجلة اليسرى. وعندما احتل البريطانيون بغداد حولوا هذا المستشفى إلى مستشفى عسكري بريطاني.

وكان الدكتور صائب شوكت، المولود في بغداد عام 1898 من أبوين عراقيين حيث ينتمي إلى عائلة عريقة ومعروفة، هو الذي اقترح على مجلس الإعمار، الذي كان برئاسة نوري السعيد، رئيس وزراء العهد الملكي، بناء مستشفى يتسع لعدد أكبر من الطلاب، وبعد عدة جلسات تم تخصيص المبلغ الكافي للبدء في بناء هذا المستشفى الكبير، كما أسهم في تخطيط وتأسيس مدينة الطب، وهو الذي أطلق عليها هذا الاسم عندما كانت مجرد خرائط على الورق. والغريب أن الدكتور شوكت، وهو أول طبيب جراح عراقي، الذي اختير لعمادة كلية الطب لمرات عدة، لم يدع إلى حفل افتتاح مدينة الطب عام 1971، بل كانت أول زيارة له لهذا المستشفى الذي كان وراء قيامه في عام 1974، وكانت الزيارة غير رسمية.

ومدينة الطب تعد إحدى أكبر المؤسسات الصحية في العاصمة العراقية، بغداد، وتقع في جانب الرصافة، بينما تعد دائرة مدينة الطب من أكبر المستشفيات الحديثة ليس في العراق وحسب إنما على صعيد الشرق الأوسط، حيث تضم بين دفتيها 5 مستشفيات كبرى هي: دار التمريض الخاص، ومستشفى الجراحات التخصصية الذي كان يحمل اسم (مستشفى عدنان، نسبة إلى عدنان خير الله وزير الدفاع الراحل، للجراحات التخصصية الذي يتكون من 20 طابقا)، وأمراض الجهاز الهضمي والكبد، وبغداد التعليمي، وحماية الأطفال. وجميعها في مجال الطوارئ تعتمد على طوارئ مستشفى بغداد التعليمي الذي يحتوي على قسم للطوارئ يضم أكبر قاعتين لطوارئ الباطنية والجراحية (عدا حماية الأطفال) فضلا عن الحالات من المستشفيات الأخرى وإسعاف جرحى الانفجارات الذين يحتاجون إلى استنفار الجهود وتوفير العلاج اللازم، لا سيما تعويضهم بما يحتاجونه من الدم، والآن يجري إنشاء مستشفى خاص للحروق.

ويتذكر العراقيون أنه عندما تم افتتاح المستشفى التعليمي في مدينة الطب، كان يتميز ولسنوات بأجهزته الطبية المتقدمة، وبنظافته العالية، وبخدمات التمريض حيث كانت ترفده كلية التمريض التابعة لجامعة بغداد باختصاصيين يحملون شهادة البكالوريوس في التمريض.

ويوضح الدكتور (ف. العمر) وهو طبيب استشاري، جراح، درس في كلية الطب وتدرج في التعلم بالمستشفى التعليمي في مدينة الطب حتى حصل على شهادة «البورد العربي» في الجراحة، أن «البناية القديمة أو أول بناية في مدينة الطب كانت مستشفى بغداد، أو المستشفى التعليمي، وهو يتكون من عشرة طوابق ويتسع لألف سرير، ويضم ما يقارب الـ100 طبيب اختصاصي والعشرات من الأطباء الذين يدرسون البوردين العراقي والعربي، بالإضافة إلى الأطباء المقيمين قبل تخرجهم النهائي في كلية الطب»، منبها إلى أن «هناك مئات الأطباء الذين يعملون في المستشفيات الـ5 لدائرة مدينة الطب، وغالبية الاختصاصيين في مستشفى الجراحات التخصصية الذي يتسع لأكثر من ألفي سرير موزعة على 20 طابقا، حيث تجرى أكثر العمليات الجراحية تعقيدا في هذا المستشفى المتطور للغاية الذي تم افتتاحه عام 1989».

هذا الطبيب المتخصص الذي يقضي ما يقرب من 16 ساعة في عمله بمدينة الطب رفض مغادرة العراق على الرغم من سفر جميع أفراد عائلته، بعد أن تعرض شقيقه للاختطاف وتحريره بعد دفع فدية مقدارها 60 ألف دولار، قال لـ«الشرق الأوسط» إن «هناك أطباء اختصاصيين تم اغتيالهم في عياداتهم سواء الخاصة أو في المستشفيات، وهناك من غادر العراق بعد تعرضه للتهديد ضمن عملية إفراغ العراق من العقول والكفاءات العلمية، إلا أنني رفضت ترك موقع عملي لأنني أؤمن بأنني خلقت لمساعدة الناس، فلو تركت البلد وغيري فعل ذلك فمن سيقدم الخدمات الطبية للناس، ذلك أن مهنة الطب إنسانية قبل كل شيء»، موضحا أنه كانت «لي عيادة خاصة في ساحة النصر، وقد أغلقتها لأكثر من ثلاث سنوات حتى انحسرت موجة القتل الطائفي وتصفية الأطباء والعلماء، والقانون العراقي يسمح للطبيب بأن يعمل في عيادته الخاصة إلى جانب عمله في مستشفيات الحكومة».

وحول ما يقدمه المستشفى التعليمي، أو مستشفى بغداد في مدينة الطب من خدمات، يقول العمر: «لكل طابق من الطوابق الـ10 في المستشفى خدمات اختصاصية، ونحن نجري العمليات الجراحية وبواقع 10 عمليات أسبوعيا، ناهيك عن العمليات التي تجرى في المستشفى التخصصي للجراحات، وقد يتأخر المريض لشهر أو شهرين على قائمة الانتظار وهذا حسب حالته الصحية»، مؤكدا أن جميع هذه الخدمات والأدوية والعلاجات التي تقدم للمرضى مجانية تماما.

وعندما يقارن واقع الخدمات الطبية التي تقدم للمواطنين، يقول العمر: «بالتأكيد أن الخدمات الطبية متفوقة على بقية الخدمات، خصوصا الكهرباء والماء والبلديات، ونحن نطمح إلى تقديم الأفضل كون خدماتنا تتعلق بحياة البشر والحفاظ عليها»، شاكيا من «الخدمات الفندقية في المستشفيات العراقية، من نظافة وأسرة وتمريض»، يقول: «هذه مشكلة أزلية في المستشفيات العراقية، فالخدمات الطبية متفوقة على الفندقية ولا ندري كيف يتم معالجة ذلك».

لكن ما ينطبق على مدينة الطب لا ينطبق على بقية المستشفيات ببغداد، أمثال، اليرموك والكندي والنعمان، وغيرها، حيث المعانات من انحسار وغياب الأجهزة الطبية الحديثة، وأدوية الأمراض المزمنة، خصوصا أمراض السرطان المستشرية في العراق بسبب الإشعاعات والانفجارات.

ويقول الصيدلي أحمد الجباوي، ماجستير صيدلة من جامعة بغداد: «نحن نعاني في مستشفيات الدولة من غياب غالبية الأدوية للأمراض المزمنة ومنها أمراض القلب وقرحة المعدة، وعلى الرغم من أن أسعار الأدوية في العراق رخيصة للغاية، فإن غياب بعضها يكلف المواطن الكثير من المعاناة والأموال لشرائها من الصيدليات الأهلية».

وفي موضوع تكاليف العلاج والعمليات الجراحية، فإن تكلفة زيارة الطبيب الاختصاصي، وكما يوضح الدكتور العمر «تبلغ في المعدل 20 دولارا، وتكاليف العمليات الجراحية تتراوح ما بين ألف إلى أربعة آلاف دولار، وإذا أضفنا أجور وتكاليف المستشفيات الخاصة والتحاليل الطبية والصور الشعاعية فإننا سنتأكد أنه يصعب على الموظف العراقي ذي الدخل المحدود زيارة العيادات الخاصة أو إجراء عمليات في مستشفيات خاصة، ولا يتبق أمامه سوى التوجه إلى المستشفيات الحكومية التي تعاني من زحام مستمر وشح في الأطباء والكوادر التمريضية والخدمية».

المشكلة الأكبر التي يعاني منها قطاع الخدمات الصحية أو الطبية هي افتقار الطبيب إلى الخبرات والمعارف الحديثة في علوم الطب، «إذ لا تبذل وزارة الصحة العراقية أي جهود في ابتعاث الأطباء للدراسة أو المشاركة في المؤتمرات والندوات العلمية في أوروبا أو الولايات المتحدة، فكل يوم هناك الجديد في تقنيات الجراحة وظهور عقاقير جديدة، واكتشافات متطورة»، هذا ما يوضحه الدكتور العمر، مشيرا إلى أن «هناك بعض الأطباء يعتمدون على جهودهم الخاصة بمتابعة ما هو جديد ومتطور في الطب سواء عبر الإنترنيت أو مراسلة الجامعات ومراكز الطب العالمية والتواصل مع الندوات والمؤتمرات العلمية عبر العالم»، وهو يلقي باللوم في ذلك على وزارة الصحة «التي لا تتواصل حتى مع الأطباء العراقيين، بل إن هناك فجوة بينها وبين ما يحدث في علوم الطب في العالم بسبب قيام بعض الأطباء غير الناجحين في حياتهم العلمية على أمور الطب في وزارة الصحة».

إلا أن الدكتورة سندس.خ، الطبيبة في أحد المستشفيات الحكومية بجانب الرصافة من بغداد، تؤكد أن «مشكلتنا الحقيقية في أقسام الطوارئ، وبخاصة في حالات حدوث الانفجارات إذ يتدفق الجرحى بأعداد كبيرة، بينما هناك تضاؤل في أعداد الأطباء والممرضين والأجهزة الطبية والإسعافات السريعة، فمن المعروف أن هناك وسائل إسعاف متطورة في العالم لكننا ما زلنا نستخدم أساليب متخلفة تجاوزها الزمن».