بغداد.. بلا بغداد (10): أطفال بغداد المشردون لا يلتفت إليهم أحد

مسؤولة حكومية سابقة: ليس هناك إحصائيات.. ولا مشاريع لحمايتهم

فتاة عراقية مشردة في بغداد تستنشق الصمغ من كيس (أ.ف.ب)
TT

ماذا بقي في بغداد، من بغداد؟ وماذا تبقى من معالمها الحضارية؛ أبنيتها، مساجدها وكنائسها، شوارعها، حدائقها، مقاهيها، أسواقها، مكتباتها، جامعاتها القديمة والحديثة، نهرها، نصبها الفنية، روحها، بهجتها وألقها، أغانيها وموسيقاها، مسارحها، ألوانها، دور السينما فيها، أزقتها العتيقة، بل الأكثر من هذا.. ناسها؟

لا شيء تبقى من بغداد في بغداد اليوم، فهي ليست بغداد الأمس، وهي ليست بغداد البغداديين، هي ليست بغدادكم أو بغدادنا، أو بغداد كما عرفها أي زائر لها في السابق.. إنها وببساطة بغداد التي هي ليست ببغداد، ليست المدينة التي كان يتبغدد فيها المقيم والزائر منذ أن بنيت.. وحتى خربت.

«الشرق الأوسط» استغرقت، ولأكثر من شهر، في سطح المدينة وعمقها، حولها وفوقها، فوق أرصفتها وعلى حافتي نهرها، وبين ناسها وفي أسواقها، بحثا عن روح بغداد الألقة، فلم نجد سوى بقايا مدينة تخرب كل ساعة ويوم أمام أهلها، وبرصد شهود عيان؛ بعضهم يبكي من أجلها، والبعض الآخر يمعن في خرابها، وبعض ثالث لا يهمه ما يراه من مشاهدها الحزينة.

هنا اكتشاف جديد لبغداد.. التي لم تعد بغداد. بغداد التي خرجت من بوابات الحروب والدمار متألقة دوما، إلا في هذه المرة، فقد خرجت ولم تعد حتى اليوم.

بغداد، أيضا بلا أطفال، وبلا طفولة، نبحث عن مشهد لتفاعل الأطفال مع مدينتهم فلا نجد سوى جموع من الأطفال والفتية المشردين في الشوارع، حيث يبيعون العلكة أو قطع الحلوى، أو في الغالب يستجدون سائقي السيارات والمارة. ما من سيارة تقف عند إشارة مرور ضوئية، أو تقاطع تتأخر فيه انسيابية سير السيارات إلا ويتجمع عدد من الأطفال، وفي أحيان كثيرة معهم بعض النسوة، من الأمهات، ليدفعوا عبر نافذة السيارة بأي مادة للبيع مقابل الحصول على مبلغ معين من المال، هم يعرفون أن المشتري هو ليس في حاجة إلى العلكة أو البسكويت، أو أي شيء آخر يبيعونه، إنها طريقة استجداء مهذبة أو مبطنة، وهناك من يغلق نافذة سيارته متسترا من حشد الأطفال داخل السيارة المكيفة، بينما يتلظون هم تحت أشعة شمس حارقة متنفسين ذرات الغبار الناعم الذي يغلف وجوههم ويمنحها مع شدة حرارة الشمس لونا شاحبا مزرقا.

نقف قرب نقطة تفتيش تابعة للشرطة الوطنية في شارع 14 رمضان، يهرع إلينا طفل حاملا علبة الحلوى، نسأل، لماذا هو هنا في الشارع، وأين عائلته، وماذا حل بدراسته؟ يساومنا بابتسامة يابسة بفعل حرارة الجو، نشتري منه علكته من دون أن نأخذها منه، ويقول «اسمي علي، نعيش في خرابة قرب مزبلة في منطقة التاجي، شمال بغداد، كان والدي يعمل في معامل الطابوق اليدوية لكنه سقط وانكسرت يده اليمنى، وهو مريض، لهذا نعمل نحن الأولاد والبنات من أجل أن نعيل الأسرة، وكلنا تركنا المدارس، المدارس لم تعد نافعة وتحتاج إلى مصاريف ووقت»، تقترب منه امرأة تجاوزت الأربعينات وترك التعب علاماته بوضوح فوق وجهها، يبادر علي «هذه أمي، تخاف علينا ولا تتركنا وحدنا، فنحن كلنا نتوزع في هذه المنطقة، نأتي إلى هنا صباحا ونعود في المساء».

وسواء كانت قصة الطفل علي حقيقية، وهي في الغالب كذلك، أو مزيفة، فإن النتيجة واحدة، هي أنه وإخوته وأمه يعيشون في الشارع وفي ظل ظروف صحية وحياتية بائسة للغاية، نتساءل، كم من المسؤولين الحكوميين والقادة السياسيين يجتازون هذا الشارع، ويلتقون بحشود الأطفال المشردين في الطرقات، ويديرون أوجههم نحو الجهة الأخرى، أو يسدلون ستائر سياراتهم كي لا يراهم أحد ولا يرون الأطفال. أم علي التي شكت من حال زوجها، وأنهم بلا أي رواتب تقاعدية أو مساعدات حكومية، نسألها فيما إذا كانت قابلت أي مسؤول يمر من هذا الشارع وشرحت له وضعها وقصة زوجها وأطفالها المشردين، قالت إن «المسؤولين لا يتوقفون لا في نقطة التفتيش ولا في الشوارع، سياراتهم تسير مثل الصواريخ وحولهم سيارات حماياتهم».

كانت بغداد مؤثثة بالأطفال وألوان ملابسهم ويمنحون المدينة ضحكاتهم ولعبهم ومرحهم، لكنهم اليوم عنوان من عناوين مأساة بغداد وصورة من صور حزنها. مسؤولة سابقة في وزارة العمل والشؤون الاجتماعية، تؤكد أنه «لا توجد في سجلات الحكومة أي إحصائيات عن عدد الأطفال العراقيين، ولا أي إحصائية عن الفئات العمرية الأخرى»، مشيرة إلى أنها «حاولت عندما كنت في وزارة العمل والشؤون الاجتماعية جمع إحصائيات عن الأطفال الذين في المدارس وكذلك المشردون في الشوارع، تصوروا أن هناك من كبار المسؤولين من اعتبر هذا الموضوع ضربا من الخيال، لهذا نحن لا نعرف كم عدد أطفال العراق، وكم طفل في كل مدينة لنتوجه إليهم ونضع مشاريعنا على ضوء الأعداد المتوفرة لدينا».

وتكشف هذه المسؤولة التي فضلت عدم نشر اسمها، قائلة لـ«الشرق الأوسط» إن «نسبة الأطفال الذين يتركون مدارسهم ويتجهون إلى الشوارع أو العمل في ورش السيارات أو معامل النجارة أو أي معامل أخرى في تصاعد، وقد نبهنا إلى ضرورة تطبيق القوانين الصادرة بمنع عمالة الأطفال، والحد من تسربهم من المدارس، إلا أننا لم نجد أي آذان مصغية»، مشيرة إلى أن «فرقا كنا شكلناها في الوزارة لرصد الأطفال المشردين في الشوارع والحدائق العامة، مثل حديقة ساحة الحرية ومتنزه الزوراء وغيرها، سجلت حقائق محزنة عن ممارسات هؤلاء الأطفال وكيف يتم استغلالهم من قبل الكبار، من بينها ترويج المخدرات ونقلها، واستخدامها، وتعرض الأطفال من البنات إلى الاغتصاب والتحرش الجنسي، مما ولد لدينا مجموعة من صغيرات السن اللاتي امتهن الدعارة، وغير هذا فإن هؤلاء الأطفال الباحثين عن لقمة الخبز لهم ولعوائلهم هم أهداف جاهزة للانضمام إلى عصابات الجريمة المنظمة مقابل مبالغ ولو بسيطة من المال»، منوهة بأن «كل هذا يجري في ظل نظام يسميه البعض بالإسلامي، مع أن الحكومة تهمل تماما موضوع رعاية الأطفال والاهتمام بملاجئ الطفولة، لا سيما أن أعداد الأيتام والأرامل في تزايد، ومن الناحية القانونية فإن أي طفل يوجد في الشارع يسمى متشردا».

وحسب الباحث ماجد زيدان الربيعي، فإن «المشرّع العراقي عرف قانونيا الأطفال الذين يوجدون في الشارع في قانون رعاية الأحداث رقم 76 لسنة 83 وتعديلاته في المادة 24 و25 وتحت عنوان المتشرد وانحراف السلوك في إحدى الحالات التالية: وجد متسولا في الأماكن العامة، مارس، متجولا، صبغ الأحذية أو بيع السجائر أو أي مهنة أخرى تعرضه للجنوح، وكان عمره أقل من 15عاما. لم يكن له محل إقامة معين أو اتخذ الأماكن العامة مأوى له، لم تكن له وسيلة مشروعة للعيش وليس له ولي أو مرب. ترك منزل وليه أو المكان الذي وضع فيه من دون عذر مشروع. ويعد الصغير متشردا إذا مارس أي مهنة أو عمل مع غير ذويه. أما المادة 25، فتعتبر الصغير أو الحدث منحرف السلوك إذا قام بأعمال في أماكن الدعارة أو القمار أو شرب الخمر. وخالط المشردين أو الذين اشتهر عنهم سوء السلوك. ويلاحظ مما تضمنه النص القانوني أن مفهومي المتشرد ومنحرف السلوك يتطابقان مع مفهوم أطفال الشوارع المتداول، فالقانون في تفاصيله وتحديده للظاهرة شامل وواسع يندرج تحته أطفال الشوارع، وقد وصف لكل الحالات الواردة في تعاريف المنظمات الدولية».

ويشير الباحث الربيعي إلى أنه «لا توجد إحصاءات حكومية دقيقة وشاملة عن حجم الظاهرة، ولا يوجد حصر لها في التعداد العام للسكان، ووزارة العمل والشؤون الاجتماعية لا تصدر بيانات دورية عن الأطفال العاملين أو الجانحين أو نزلاء دور رعاية الأحداث واليتامى. كما أن إتاحة المعلومات والمعطيات لمن يرغب في الاطلاع والدراسة متعذر، إلا بإذن خاص، ولكن يمكن تكوين صورة عن سعة الظاهرة من المشاهدة العيانية للأطفال المتسولين والمتشردين في الشوارع والأسواق وفي الورش والمصانع، ومن بعض الأمثلة والتحقيقات عن بعض دور رعاية الأحداث». وينبه الباحث إلى المخاطر التي تتربص بالمشردين من أطفال الشوارع، وأخطرها «تفشي الأمية بين الأطفال المتسولين والمتشردين، فأغلبهم من الذين لم يدخلوا المدرسة أصلا ومن تركوا الدراسة بعد أن نالوا قسطا غير وافٍ من التعليم واحتمال ارتدادهم إلى الأمية كبير جدا. وقلة قليلة منهم يجمع بين الدراسة والعمل، وهؤلاء يعانون من تدني المستوى العلمي والفشل الدراسي، وعادة لا يجد الأطفال العاملون في الشارع بيئة أسرية أو ظروفا رسمية لا توفر أجواء مشجعة للاستمرار في التعليم أو الالتحاق به، وخصوصا المنحدرين إلى الشارع من أحزمة الفقر، وفي الأسر المفككة اجتماعيا، فضلا عن أن التلاميذ متى ما انخرطوا في العمل وبدأوا يعتمدون على أنفسهم ماديا فإنهم يميلون إلى تفضيله على الدراسة، الانحدار في مهاوي الرذيلة، حيث يتعرض أطفال الشوارع إلى الاستغلال الجنسي من الأفراد الآخرين الأكبر منهم سنا، مستغلين ضعفهم وصغر سنهم، وعدم قدرتهم على رد الإساءة، إضافة إلى ممارسة الشذوذ بعضهم مع بعض، منبها إلى أن «وجود الأطفال في الشوارع يغيب عنهم الرقابة العائلية، فيكتسبون عادة سلوكيات مرفوضة، وينحرفون عن الطريق القويم، وينتظم قسم منهم في شلل وجماعات تبدأ بريئة وتنتهي بارتكاب الجنح».

لقد كانت القوانين العراقية تشدد على أهمية التزام الأطفال بالانتظام في مدارسهم وتمنع التسرب من الدراسة، حيث يعرض الغياب المستمر للطلبة من الدوام عوائلهم للمساءلة، لكن ظاهرة التسرب من المدارس أصبحت شائعة اليوم وطبيعية، وهي، وحسب الباحث الربيعي فإن هذه الظاهرة «تخل بالتنشئة الاجتماعية للطفل، وتحد من مستوى إدراكه ووعيه، وهي ظاهرة خطيرة». وتقر وزارة التربية بأن ظاهرة تسرب الأطفال من المدارس في تزايد، إضافة إلى انخفاض معدل الالتحاق بالمدرسة وتتركز الظاهرة بين العوائل الفقيرة التي تسكن الأحياء الشعبية، لأن المدرسة أصبحت تشكل عبئا اقتصاديا، إلى جانب ذلك عدم ملاءمة الظروف المدرسية والتربوية للطلبة، والأسباب الاجتماعية المتلخصة في تدني الوعي الثقافي لدى الآباء والأمهات في أهمية المدرسة للأطفال ومستقبلهم، كما أن العادات والتقاليد البالية عادت بقوة إلى المجتمع في السنوات الأخيرة التي تنظر إلى تعليم الإناث نظرة دونية، وتجبرهن على انتظار يوم الزواج في البيت».

إن خطورة ظاهرة الأطفال المشردين وتسربهم من المدارس ستبدو أكثر تجسيدا إذا ما أخذنا عينات من أطفال العوائل المهجرة الذين يعيشون تحت الخيام على هامش المدن العراقية وخارجها، فهؤلاء لا يتمتعون بأي استقرار أسري، ويحرمون من أبسط الخدمات، وهم عرضة للإصابة بالأمراض. وحسب المسؤولة السابقة في وزارة العمل والشؤون الاجتماعية، فإن «هناك مئات الآلاف من الأطفال الذين يعيشون مع عوائلهم بالقرب من مكبات القمامة خارج المدن العراقية، وهؤلاء يعانون، مع عوائلهم، من مشكلات صحية واجتماعية سوف يصعب على أي جهات مختصة في المستقبل القريب معالجتها». وتتحدث هذه المسؤولة عن مفارقة بسيطة فتقول «في الوقت الذي كنا نشاهد فيه تقريرا مصورا على إحدى شاشات الفضائيات العراقية عن العوائل التي تقيم بالقرب من تلال المزابل، عرضت ذات الفضائية بعد قليل مركزا ترفيهيا ومسبحا وقاعات رياضية تم افتتاحها حديثا لأطفال المنطقة الخضراء، حيث ظهر المسؤول عن المركز يوضح أن أمانة بغداد أنشأت هذا المسبح من أجل الترفيه عن أطفال العوائل المقيمة في المنطقة الخضراء»، مشيرة إلى أنه «ليس من الخطأ إنشاء مثل هذه المراكز للأطفال، ولكن يجب تعميمها، كما يجب حماية الأطفال المشردين من مخاطر التشرد والشوارع».