رحيل فضل الله المرجعية الشيعية العربية صاحب مبدأ «التحديث»

الأب الروحي لحزب الله.. أيد الثورة الإيرانية وتصارع معها ثم هادنها

السيد محمد حسين فضل الله
TT

فقد لبنان أمس المرجعية الشيعية اللبنانية الأبرز، بوفاة السيد محمد حسين فضل الله، عن (75 عاما)، جراء صراع طويل مع مرض خبيث في الكبد. وبرحيل فضل الله تخلو الساحة اللبنانية من المراجع الكبار، باعتبار أن المبدأ الشيعي الخاص بـ«التقليد» في أمور العبادات والمعاملات، يوجب على المكلف أن يختار شخصية يرى فيها الكفاءة الدينية للإفتاء في أمور الدين والدنيا. وفي هذا الإطار كان فضل الله المرجعية اللبنانية شبه الوحيدة، بينما ينقسم الباقون بين تقليد السيد علي السيستاني (في العراق)، والسيد علي الخامنئي (في إيران)، علما أن الأخير يحمل صفة استثنائية، باعتباره «الولي الفقيه»، المبدأ الذي ينص على جمع المرجع السلطتين السياسية والدينية معا، وهو ما قوبل برفض الكثير من المراجع الشيعية، وأبرزهم فضل الله، الذي واجهت علاقته بإيران صعوبات كبيرة، قبل أن تستقر الأمور بينهما في السنوات الأخيرة.

ونعاه أهله ومكتبه في مؤتمر صحافي عقد وسط بكاء ونحيب المئات من محبيه في إحدى قاعات جامع الإمامين الحسنين في الضاحية الجنوبية لبيروت حيث اعتاد فضل الله أن يصلي هناك.

وجاء في بيان النعي «شكلت فلسطين الهم الأكبر لحركته منذ ريعان شبابه وحتى الرمق الأخير قائلا: لن أرتاح إلا عندما يسقط الكيان الصهيوني. كما أنه وقف في مواجهة الفتن بين المسلمين، رافضا أن يتآكل وجودهم بفعل العصبيات المذهبية الضيقة، معتبرا أن كل من يدير فتنة بين المسلمين ليمزق وحدتهم ويفرق كلمتهم هو خائن لله ورسوله وإن صام وصلى».

ورفعت رايات الحزن والأعلام السوداء في مناطق شيعية في لبنان، كما نعاه حزب الله في بيان وأعلن الحداد ثلاثة أيام. وجاء في البيان «أن لبنان والأمة الإسلامية والعالم بأسره فقدوا... العالِم الإسلامي الكبير الذي ملأ الساحة بعلمه وجهاده ومواقفه وتربيته ومؤلفاته، وهو الذي وقف بكل جرأة ووضوح نصيرا للمقاومة ضد العدو الصهيوني وللمجاهدين الأبطال، حيث تشهد الساحة تحديه وتصديه للاحتلال وأفعاله الإجرامية والأثمان التي دفعها نتيجة لمواقفه، وعبر عن رفضه لمؤامرات الاستكبار».

كذلك نعاه رئيس مجلس النواب نبيه بري، قائلا «إنه واحد من أبرز أركان المرجعية الإسلامية الرشيدة... الذي بفقدانه تفقد الأمة داعية من طلائع الدعاة إلى الوحدة الإسلامية، وصوتا مدويا من أجل نصرة قضايا الحق والعدالة ومقاومة الظلم والعدوان، وداعما من أبرز دعائم قيام لبنان نموذجا للتعايش بين الحضارات والأديان، وظهيرا للمقاومة ظل حتى الرمق الأخير». وأصدر رئيس الوزراء سعد الحريري بيانا نعى فيه العلامة قائلا «إن لبنان يخسر مرجعية وطنية وروحية كبرى أسهمت إسهاما فعالا في ترسيخ قيم الحق والعدل لمقاومة الظلم، وأضافت إلى الفكر الإسلامي صفحات مميزة ستتوارثها الأجيال جيلا بعد جيل».

وكان فضل الله غاب عن صلاة الجمعة لأسابيع عدة ماضية، ونقل إلى المستشفى يوم الجمعة بسبب إصابته بنزيف حيث توفي بعد يومين.

وفي خطابه الأخير في الثاني من يوليو (تموز) الذي ألقاه بالنيابة عنه الشيخ حسين الخشن أدان فضل الله المستوطنات الإسرائيلية في القدس الشرقية.

ولا يعتبر فضل الله من أبرز المحدثين عند الطائفة الشيعية، إلا أنه أكثرهم جرأة في إعلان آراء لا تلقى استحسانا كبيرا في الأوساط المحافظة، وأبرزها موقفه من «ضلع الزهراء»، الذي أثار حوله عاصفة انتقادات وصلت بالبعض إلى تكفيره، وإقامة «الإثباتات» على ذلك، حتى إن أحد المواقع الإلكترونية أنشئ خصيصا للإضاءة على هذه المواقف، وغيرها من المواقف الكثيرة التي طلع بها فضل الله «عكس التيار»، واستطاع أن يجمع من حوله أعدادا كبيرة من شيعة لبنان والخليج العربي بمواقفه المعتدلة، ودعوته إلى «الوحدة الإسلامية». فالسيد فضل الله امتلك، كما يقول عنه أنصاره، «الجرأة العلمية» على طرح نظرياته الفقهية، عندما يتوصل إلى قناعة ثابتة بها، ورأى أنه، في ظل وضوح الرؤية لدى الفقيه، ليس ثمة مبرر له في الاحتياط، لأن الاحتياط لا بد أن يرتكز على دراسة واقعية لظروف المكلَّفين، لا لظروف المجتهد، لأن الاحتياطات التي لا أساس علميا لها، أوقعت المكلَّف في الحرج والمشقة في كثير من المجالات الابتلائية، ولذا أفتى سماحته بطهارة كل إنسان، وبجواز تقليد غير الأعلم، وباعتماد علم الفلك والأرصاد في إثبات الشهور القمرية، وغير ذلك، وقد قال عنه السيد محمد باقر الصدر، وهو يشير إلى بعض الفتاوى السابقة، إنه وصل إلى النتائج نفسها، والفرق أن «السيد كان أجرأ منا»..

ولد السيد فضل الله عام 1935، في مدينة النجف بالعراق، حيث كان والده آية الله السيد عبد الرؤوف فضل الله قد هاجر إليها لتلقي العلوم الدينية، وأمضى مع أسرته فترات طويلة في الدرس والتدريس، ضمن الحاضرة العلمية الأبرز في العالم آنذاك.

وانضم إلى حزب الدعوة، بانتسابه للحلقات الأولى له، أواسط الستينيات، ثم تولى ركنا أساسيا للحزب في لبنان عند عودته إليه في عام 1966، مؤسسا لـ«المشروع الثالث» بين دعوات رئيس المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى آنذاك، السيد موسى الصدر، الساعي إلى لبننة الشيعة، ومشاريع «انعزال الطائفة»، ساعيا لـ«تأسيس الهوية الشيعية في لبنان على الصعيد الفكري العقائدي والسياسي والاجتماعي».

علاقته بالثورة الإسلامية في إيران بدأت منذ انطلاقتها، حيث كان فضل الله راعي «النواة الأولى لهيئة دعم الثورة الإسلامية في إيران»، وكان أول من دعا إلى التعاطف مع شعاراتها، وإلى ضرورة التفاعل مع قياداتها، وعلى رأسهم الإمام الخميني، دون تحفظات، باعتبارها «البشارة والشرارة التي يمكن أن تتشكل على أساسها الجمهورية الإسلامية، التي كانت محط تطلع وآمال العلماء والشباب الحركيين في لبنان والعالم». وخلال فترة الاجتياح الإسرائيلي الثاني للبنان في 1982 وما بعده، كان فضل الله محط أنظار الجميع، باعتباره «الأب الروحي» لحزب الله، وقد دفع ثمن ذلك في محاولة اغتيال نفذتها الاستخبارات الأميركية، بالتعاون مع أجهزة لبنانية، بوضع سيارة مفخخة بجوار منزله في بئر العبد، ذهب ضحيتها نحو 150 شخصا. وكانت الاستخبارات الأميركية قد حملت فضل الله شخصيا مسؤولية التنظير للعمليات «الاستشهادية»، بالإضافة إلى عمليات خطف الرهائن الغربيين، التي جرت على نطاق واسع في لبنان، منتصف الثمانينات.

لكن علاقة السيد بإيران تدهورت بعد عام 1990، إثر وفاة الإمام الخميني، والتغييرات التي أفضت إلى الإطاحة بالتيار المقرب من فضل الله في قيادة حزب الله، ووصلت إلى ذروتها في أواخر التسعينات، مع الحملات التي شنت ضده من كل حدب وصوب، من قبل الكثير من الشخصيات الشيعية المقربة والبعيدة عن طهران، التي اجتمعت على رفض مبدأ «التحديث»، الذي كان يدعو إليه في محاولة لـ«تخليص الفقه من التعقيدات التي أفرزها تأثر الممارسة الاستنباطية والتنظير الأصولي بالفلسفة التجريدية، مما أدى إلى تشويش الفهم العرفي في تعامله مع النص في دلالته ومعطياته».

ويتمتع فضل الله بدائرة واسعة من الأتباع والمريدين في لبنان ودول الخليج وبلاد المهجر في أميركا وكندا وأستراليا، وهو ما وفر له إمكانات مالية ودعائية ضخمة، ساعدت على الترويج لمرجعيته الدينية للشيعة العرب، فأنشأ المدارس والمستشفيات، وأبرزها مستشفى بهمن التي توفي فيها. وقد أنشأ فضل الله الكثير من المؤسسات الاجتماعية والخيرية، أبرزها جمعية «المبرات» الخيرية. وتتبعه كذلك ثلاث حوزات علمية يتولى الإشراف والإنفاق عليها، وهي: حوزة بهمن بدمشق، وحوزة العطار بقم، والغريفي بلبنان. وللسيد فضل الله العشرات من الكتب الدينية والفقهية والفلسفية، كما أن لديه موهبة شعرية مميزة، عبر عنها في أكثر من مناسبة، آخرها كتاب «يا ظلال الإسلام». ومن المعروف عن فضل الله تشجيعه الكبير جدا للتحصيل العلمي، واعترافه بالإنجازات العلمية، كتحديد الشهر القمري بالوسائل العلمية، واعترافه بشرعية الاستنساخ البشري، وغيرها، كما أنه متابع لكل جديد، حتى إنه قضى سنواته الأخيرة يتعلم الكومبيوتر واللغة الإنجليزية، غير أن سعيه للقراءة والعمل، وغزارة إنتاجه الفكري أتعبت المقربين منه، الذين كانوا يشكون من قيامه بإجهاد نفسه إلى حد كبير، رغم اكتشاف مرضه، الذي عانى منه كثيرا في السنوات الماضية، قبل أن يصاب بنزيف حاد نهاية الأسبوع الماضي، حيث نقل للمستشفى، وبقي فيه حتى إعلان وفاته رسميا صباح أمس.