مطار فيينا يشهد عملية تبادل الجواسيس.. بعد اعتراف المتهمين العشرة بالذنب في محكمة أميركية

روسيا تصدر عفوا بحق 4 مدانين بالتجسس.. وواشنطن تشرك الصحافيين بعملية غامضة عبر الهاتف

طائرتان أميركية وأخرى روسية جاثمتان في مطار فيينا الدولي أمس في إطار أكبر عملية لتبادل الجواسيس بين واشنطن وموسكو منذ الحرب الباردة (إ.ب.أ)
TT

للمرة الأولى منذ انتهاء الحرب الباردة عادت إلى العاصمة النمساوية فيينا نهار أمس، أجواء الغموض والجاسوسية والتجسس التي عرفتها المدينة وخبرتها بمهارة منذ عهود خلت. فبينما عقارب الساعة في طريقها لمنتصف يوم صيفي حار ومشمس، حطت طائرة روسية في ممر خارج حدود مدينة فيينا بأرض مطار شفيخات الدولي.. وما هي إلا دقائق حتى لحقت بتلك الطائرة أخرى أميركية وقفت موازية لها تاركة مساحة بينهما.

لأكثر من ساعة ونصف لم يكن بإمكان أي من المنتظرين أن يجزم قطعيا من بداخل الطائرتين.

ورغم ذلك كان الجميع يعرف أن الطائرة الروسية تحمل 10 رجال ونساء تكشف قبل أقل من أسبوعين فقط أنهم جواسيس روس عاشوا بالولايات المتحدة حياة مزدوجة لم تتضح تفاصيلها إلا لحظة محاكتمهم. ومن ثم صدر قرار بترحيلهم في صفقة مبادلة مع 4 روس آخرين عفت عنهم الحكومة الروسية رغم إدانتهم بتجسسهم للغرب، وذلك مقابل حصولها على من تجسسوا لها بأرض الأميركيين، في صفقة تم الوصول لها سريعا علها تغلق صفحة أوشكت أن تشوش على العلاقات الأميركية الروسية التي تعيش انسجاما وهناء.

طوال مدة وقوف الطائرتين على أرضية الممر بمطار شفيخات، كانت جميع الأطراف من الروس والأميركيين والنمساويين، ملتزمة الصمت التام دون تعليق أو تصريح. وقد أدى لتوالد العديد من الإشاعات والتفسيرات عما يمكن أن يكون جاريا بدءا من القول بأن التبادل سيتم فردا فردا بواسطة قوات نمساوية مدججة بالسلاح من طائرة لأخرى، وصولا للقول بأن الأمر يحتاج لأعمال مكتبية وتسجيلات وورق ومدونات بالإضافة لاحتمالات أن الجواسيس كافة قد خضعوا لكشف طبي. واتضحت الحقيقة بتأكيد وكالة الأنباء النمساوية (أبا) أن التبادل قد تم بنقل هؤلاء وأولئك من هذه الطائرة لتلك عبر عربة سوداء كبيرة (فان) تنقلت أكثر من مرة بين الطائرتين. وغادرت أولا الطائرة الروسية ثم الأميركية.

ورغم سوء الرؤية لبعد المسافة كان جليا أن الأطراف ذات الشأن قد اتفقت على نوع من تعتيم حرفي عله يتماشى وهذا الانفتاح الإعلامي القوي الذي يسود العالم، إذ لم تتم عملية التبادل ليلا لتثير الخيال وتفتح مسارات لمزيد من الاحتمالات والتفسيرات، في ذات الوقت لم تضرب السلطات حصارا على وسائل الإعلام وإن كانت في ذات الوقت لم تدعها لتشاركها ذات البقعة حيث تم الحدث فكانت الرؤية مع على بعد.

وكانت فيينا معروفة بأنها أفضل مدينة للتجسس بحكم موقعها المثالي ما بين المعسكر الشرقي والغربي، لدرجة أن أساتذة جامعيين لمادتي التاريخ والعلوم السياسية سبق أن اقترحوا إقامة متحف يضم كل آثار عمليات التجسس التي تمت تحت سماء هذه المدينة الهادئة التي تتمتع بالحياد السياسي متيحة فرص الحركة كاملة، مع رقابة غير محسوسة، لمن يشاء من قوى دبلوماسية لعقد صفقات وجمع معلومات ولقاء أطراف ويعتبر مقهى «لاند مان» من أشهر المقاهي بقلب المدينة في هذا المجال.

وفي موسكو، أعلنت روسيا رسميا عن إتمام عملية تبادل الجواسيس في مطار فيبينا أمس بعد إصدار الرئيس الروسي دميتري ميدفيديف عن العفو عن أربعة من المواطنين الروس الذين سبق وصدرت ضدهم أحكام بالسجن لمدد متفاوتة بتهمة التجسس لصالح دوائر غربية واعتراف عشرة من المواطنين الروس أمام المحكمة الأميركية بالتجسس لصالح روسيا.

وكانت موسكو ولأول مرة منذ تاريخ آخر تبادل للجواسيس بين البلدين قبل خمس وعشرين سنة، أذاعت بعضا من مشاهد وصول وإقلاع الطائرتين مشيرة إلى أن مثل هذه العملية طالما كانت تحاط بالسرية والكتمان الشديدين ولا يعلن عنها أحيانا إلا بعد مرور عقود طويلة. وقالت ناتاليا تيماكوفا المتحدثة الرسمية باسم الكرملين إن ميدفيديف وقع قرار العفو عن أربعة من المواطنين الروس وهم ألكسندر زابوروجسكي وجينادي فاسينكو وسيغي سكرال وايغورسوتياغين، بعد أن تقدموا إليه بطلب العفو معترفين بارتكاب ما سبق وجرى توجيهه إليهم من جرائم.

أما عن مصائر هؤلاء المواطنين الأربعة فقال نيكولاي كوفاليوف رئيس جهاز الأمن والمخابرات الأسبق وعضو الدوما الحالي إنهم يستطيعون العودة إلى روسيا في أي وقت يريدونه وليس هناك أي حظر على ذلك من جانب السلطات الرسمية. وبالنسبة للمواطنين العشرة الذين جرى ترحيلهم فقد اتضح أن كلهم من مواطني روسيا الاتحادية وعاش بعضهم في الولايات المتحدة بعد تزوير هوياتهم الشخصية، وتغيير أسمائهم، فيما يظل أمر عودتهم وإقامتهم النهائية في روسيا طي الكتمان.

وأشار محامي أنا تشابمان التي أطلقوا عليها لقب «أنا بوند» أو «الجاسوسة الحمراء» إلى أنها تنوي الإقامة في بريطانيا وليس في روسيا. أما عن الصحافية فيكي بيلايس، فقالت المصادر إنها تنوي العودة إلى بيرو الوطن الأم على الرغم من أن روسيا تعدها بما يكفل إقامتها ومعيشتها في موسكو. وكانت الأوساط الروسية الرسمية والاجتماعية أعربت عن ارتياحها لانتهاء الأزمة وقدرة قيادتي البلدين على احتواء الموقف بما يعني الرغبة المتبادلة في الحفاظ على ما جرى إحرازه من تقدم. وقال فياتشيسلاف نيكونوف إن مثل هذه الخطوة من جانب الرئيس أوباما تعني رغبته وإصراره على الاستمرار في عملية إعادة إطلاق العلاقات وهو الخط الذي قال سيرجي ماركوف عضو مجلس الدوما ومدير معهد الدراسات الاستراتيجية إن الجانبين يعتزمان مواصلته في إطار التعاون وبعيدا عن المواجهة.

بينما كانت عملية تبادل الجواسيس تتم بغموض في زاوية من مطار فيينا، اشترك صحافيون في واشنطن في تصرفات لا تقل غموضا، عندما قدمت وزارة الخارجية مسؤولين كبيرين للصحافيين للحديث عن الموضوع، واشترطت عدم نشر اسميهما أو وظيفتيهما. وطلبت أن يكون اسم الأول «مسؤول كبير رقم واحد» والثاني «مسؤول كبير رقم اثنين». وأن الأول «دبلوماسي»، والثاني «قانوني»، وأن لا يخلط الصحافيون بينهما. كل ذلك دون أن يشاهد الصحافيون المسؤولين لأن المؤتمر الصحافي كان عبر الهاتف. وحتى عبر الهاتف، حذر الصحافيون بأن أسماءهم وأسئلتهم سوف تسجل، وأن أي صحافي يعترض على ذلك «يجب عليه أن يغلق هاتفه الآن، ولا يشترك معنا».

وبالنسبة للذين وافقوا على الاشتراك، عليهم الضغط على الرقم «1» للسؤال، والرقم «2» بعد نهاية السؤال. وفي كل الحالات، لا يتحدث الصحافي والمسؤولون مباشرة، ولكن عن طريق «عاملة اتصال»، تنقل السؤال إلى المسؤولين، ثم تنقل الإجابة إلى الصحافيين.

وبعد هذا كله، كرر المسؤولان الكثير من المعلومات التي كانت وكالات الأنباء نقلتها في وقت سابق عن تبادل الجواسيس في مطار فيينا، في أكبر عملية من نوعها منذ نهاية الحرب الباردة.

وكان اليوم المثير بدأ بنقل الجواسيس الروس العشرة إلى محكمة فيدرالية في نيويورك، حيث كانوا تجمعوا منذ اليوم السابق بعد عشرة أيام من اعتقالهم ووضعهم في ثلاثة سجون: في بوسطن ونيويورك وواشنطن.

في المحكمة، وحسب ترتيبات السابقة، اعترف العشرة بأنهم تجسسوا لصالح روسيا. وأن أسماءهم خلال وجودهم في الولايات المتحدة لم تكن أسماءهم الحقيقية. ثم أعلن كل واحد اسمه الحقيقي، اسمه الروسي. وأيضا، أعلنوا أنهم تنازلوا عن أي حقوق قانونية لهم في الولايات المتحدة لان أسماءهم وتوقيعاتهم في كل العقود والبيانات والاتفاقيات وبيانات القروض والمساعدات والمعاملات لم تكن أسماءهم الحقيقية، وبالتالي لم تكن توقيعاتهم حقيقية.

بعد ذلك، أمر القاضي، حسب ترتيبات مسبقة مع ممثلي الادعاء، بالحكم على كل واحد بالسجن للاثني عشر يوما التي قضاها في السجون. وبإبعادهم فورا من الولايات المتحدة. وألا يعود أي واحد إلا بقرار خاص من وزير العدل. وقال مراقبون وصحافيون في واشنطن إن المسؤولين الأميركيين استعجلوا الحكم والطرد لسببين رئيسيين: أولا: لم يحصل الجواسيس الروس على معلومات «خطيرة» عن الولايات المتحدة خلال كل السنوات التي قضوها فيها. ويبدو أن سبب ذلك هو أن التعليمات التي وجهت لهم كانت بالاندماج أولا في المجتمع الأميركي. كما أن التعليمات لم تكن واضحة، وأن الجواسيس صاروا ضحايا بيروقراطية روسية بطيئة ومعقدة.

ثانيا: الحرص على لم شمل عائلات الجواسيس، لأن أطفالهم كانوا في مدارس أو رياض أطفال، وكان لا بد من قطع دراساتهم وإعادة كل واحد مع والديه. وكان الكبار منهم تركوا الولايات المتحدة قبل أيام تحت إشراف السفارة الروسية في واشنطن.

وقالت صحيفة «واشنطن بوست»: «يستغرب الاستخباريون الأميركيون وهم يتابعون هذا الموضوع لسنوات كثيرة بأن الجواسيس الروس لم يكونوا قط جواسيس مثلهم. ويعتقد الاستخباريون الأميركيون أن المسؤولين عن الجواسيس في روسيا إما لم يعرفوا كيف يديرونهم، مع مرور السنوات، أو ربما نسوهم».

وقال هافيلاند سميث، الذي تقاعد بعد أن كان مندوب وكالة الاستخبارات المركزية (سي آى ايه) في روسيا: «أعتقد أن هؤلاء الجواسيس كانوا قادرين على التجسس. لكن، لم يستغلهم رؤساؤهم بالطريقة الصحيحة. وأيضا، اعتقد أن رؤساءهم ربما كانوا أيضا قادرين على التجسس، لكن، تغيرت الأمور، وتغيرت العلاقات بين موسكو وواشنطن، وتغير العالم. ولم يعودوا يعرفون ماذا يفعلون».

وتحدثت صحيفة «نيويورك بوست» عن الجاسوسة الحسناء آن شابمان (اسمها الأميركي)، وقالت إنها كانت تقدر على أن تتجسس لو وجدت المساعدة من المسؤولين في روسيا. كما يبدو أنها رضيت بالاستمتاع بالحياة في الولايات المتحدة، ولم يعد التجسس شيئا هاما بالنسبة لها ما دامت تعمل وتتقاضى راتبا. وقالت الصحيفة إن شابمان، حسب معلومات مكتب التحقيق الفيدرالي (إف بي آى)، اكتفت بالحديث مع موظفين صغار في الكونغرس، ومع موظفين عملوا في جمع تبرعات لصالح هيلاري كلنتون عندما كانت عضوا في الكونغرس من نيويورك.

لكن، قال سميث: «يجب ألا نخدع أنفسنا، ونعتقد أن المسؤولين قدموا لنا كل المعلومات التي عندهم. لننتظر ونر حتى تسقط فردة الحذاء الثانية». وأضاف: «تعتقدون أن ما يحدث مثل فيلم خيالي؟ انتظروا الفيلم الحقيقي».