ترتيبات صفقة تبادل الجواسيس بين واشنطن وموسكو بدأت قبل اعتقالهم

3 مكالمات هاتفية بين استخبارات البلدين أنهت الصفقة.. وروسيا قدمت إغراءات مالية لعملائها لإقناعهم بالعودة

TT

ليلة أول من أمس الجمعة، هبطت في مطار دالاس قرب واشنطن العاصمة طائرة تحمل جاسوسين روسيين عملا لصالح وكالة الاستخبارات المركزية (سي آي إيه)، أطلقت روسيا سراحهما أول من أمس ضمن صفقة تبادل جواسيس شملت عشرة روس كانوا يعيشون في الولايات المتحدة ويتجسسون لصالح الاستخبارات الروسية.

وكانت نفس الطائرة هبطت في وقت سابق في مطار لندن وخرج منها جاسوسان روسيان كانا يعملان لصالح الاستخبارات البريطانية، وأيضا أطلقت الحكومة الروسية سراحهما ضمن صفقة تبادل الجواسيس.

وقال مسؤولون في البيت الأبيض إن أحداث يوم الجمعة المثيرة التي شهدت تبادل الجواسيس وكأنها فيلم جاسوسي، أو من سنوات الحرب الباردة بين المعسكرين الغربي والشرقي، رتبت منذ الشهر الماضي، قبل إعلان خبر اعتقال الجواسيس الروس. وإن الترتيبات كانت دقيقة للغاية، وبالتعاون مع المسؤولين الروس.

حسب المعلومات التي سربها المسؤولون، على شرط عدم نشر أسمائهم. ففي فبراير (شباط) الماضي، أبلغ الرئيس باراك أوباما بأن شبكة جواسيس روس ظلت تعمل في الولايات المتحدة لعشر سنوات تقريبا، وأن الاجهزة الأميركية كانت تراقبهم فردا فردا، ويوما بعد يوم. ويوم 11 يونيو (حزيران) الماضي، أبلغ الرئيس أوباما بأن بعض الجواسيس الذين كان يراقبهم مكتب التحقيق الفيدرالي (إف بي آي) مراقبة دقيقة، ينوون السفر إلى روسيا، وأنه لا بد من استعجال اعتقالهم. كان ذلك قبل اجتماع القمة في واشنطن بين أوباما والرئيس الروسي ميدفيديف يوم 24 يونيو.

وتم الاتفاق على أشياء منها: أولا: لا يبلغ أوباما الرئيس الروسي. ثانيا: تعتقل «إف بي آي» الجواسيس بعد نهاية زيارة الرئيس الروسي.

وبعد ثلاثة أيام من مغادرة الرئيس الروسي، اعتقل الجواسيس. وفي نفس اليوم، أبلغ ليون بانيتا، مدير «سي آى ايه» مايكل فرادكوف، مدير الاستخبارات الروسية، بالموضوع، وعرض عليه تبادل الأسرى. وخلال الأيام القليلة التالية جرت ثلاث مكالمات هاتفية اتفق فيها الرجلان على تبادل الأسرى، وعلى ترتيبات ذلك. وأيضا، على عدم العودة إلى تقاليد الحرب الباردة، بأن يشن الروس هجوما إعلاميا على الولايات المتحدة، ويطردوا أميركيين من روسيا بتهمة التجسس. وأيضا، على جوانب إنسانية مثل أولاد وبنات الجواسيس الروس، ونقل ممتلكاتهم إلى روسيا. واتفق الرجلان على أن الحكومتين ستعملان لتهيئة أجواء مناسبة ليتأقلم الجواسيس الروس على الحياة في روسيا، والروس الذين تجسسوا لصالح أميركا على الحياة في أميركا.

ورفض البيت الأبيض الحديث عن تفاصيل تأقلم الروسيين في الولايات المتحدة. ورفضت كشف مكانهما بعد أن خرجا من الطائرة في مطار واشنطن. وهما: الكسندر زابوروزسكي، الذي كان يعمل في الاستخبارات العسكرية الروسية، وجينادي فاسيلكنو، الذي كان يعمل في وكالة استخبارات «كي جي بي». وكانت محاكم روسية حكمت على الأول بالسجن 18 سنة، وعلى الثاني بالسجن ثلاث سنوات، ومثلما وقع الجواسيس الروس العشرة على اعترافات بأنهم تجسسوا، وقع الرجلان الروسيان على ذلك.

لكن الحكومة الأميركية، رفضت طلبا من الحكومة الروسية بأن تعترف بتجسس الروس لصالحها.

وقال خبراء ومحللون في واشنطن إن المسؤولين الأميركيين كانوا حريصين على ألا يتسبب اعتقال الجواسيس في توتر في العلاقات بين البلدين. وذلك وفقا لسياسة «ريسيت» (إعادة ترتيب) التي أعلنها أوباما بعد أن صار رئيسا في السنة الماضية. وكان أوباما، خلال الحملة الانتخابية، اتهم الرئيس السابق بوش الابن بأنه تعمد توتير العلاقات مع روسيا.

وحسب مسؤولين تحدثوا إلى «نيويورك تايمز» فإنه في ساعات الظهيرة من يوم جمعة في منتصف يونيو، جلس الرئيس الأميركي باراك أوباما مع مستشارين داخل المكتب البيضاوي، وعرف أن مكتب التحقيقات الفيدرالي خطط لمداهمة أكبر شبكة لعملاء روس نائمين منذ الحرب الباردة. وبعد مناقشة ما قام به العملاء، تحول النقاش إلى تبعات ذلك، وماذا سيحدث بعد عمليات الاعتقال؟

وفي هذه اللحظة ولدت خطة نفذت بعد أربعة أسابيع من ذلك الوقت. وهي عملية تبادل السجناء التي اكتسبت صورة سينمائية عندما تقابلت طائرتان أميركية وروسية على طريق مشمس في قلب أوروبا يوم الجمعة.

وظهرت فكرة التبادل كخيار يمكن أن يحل موقفا متفجرا محتملا من دون تقويض جهود أوباما لإعادة بناء العلاقات الروسية الأميركية. وكانت الفكرة كالآتي: يتم إلقاء القبض على شبكة التجسس الروسية، ويضمن الأميركيون إطلاق سراح أربعة سجناء روس، وبعد ذلك يترك كلا الجانبين الأمر وراء ظهرهما.

وقال مسؤولون في الإدارة يوم الجمعة إن عمليات الاعتقال لم تكن تهدف إلى الوصول إلى هذه الصفقة، ولم يتخذ قرار بشأن القيام بعملية تبادل سجناء حتى أودع العملاء في السجن. ولكنهم ذكروا سلسلة من الأحداث تطورت سريعا بعد إلقاء القبض على الجواسيس الروس، حيث سعى كل جانب إلى الوصول إلى اتفاق، لدرجة أن مسؤولين روسا قاموا بتقديم أموال وميزات أخرى لحث أحد العملاء النائمين على قبول الصفقة.

ووصف المسؤولون هذه المرحلة بأنها ربما كانت الاختبار الأكثر خطورة حتى الآن للعلاقة الجديدة، علاوة على كونها إشارة إلى تعقيداتها الدائمة.

وأمس، قال مارك تونر، متحدث باسم البيت الأبيض: «نحن سعداء لأن الموضوع عولج بطريقة حكيمة. ويدل هذا على العلاقات الودية بين الجانيين. ومجرد أن تتفق الدولتان على إجراءات تبادل الجواسيس، وأن تنفذا ذلك بطريقة دقيقة وسريعة، يدل أكثر على العلاقات الطيبة بين البلدين». وأضاف: «لم يحدث أن تمت مثل هذه العملية بمثل هذه السرعة والدقة»، إشارة إلى ما كان يحدث خلال سنوات الحرب الباردة بين المعسكرين الغربي والشرقي.

وتقول محامية أحد الروس المطلق سراحهم إن هذه «لحظة تاريخية» شكت لفترة طويلة في أنها ستتحقق. وأضافت المحامية ماريا فيسيلوفا، التي كانت تمثل عميل الاستخبارات الروسي السابق زابوروزسكاي: «يرتبط الأمر بالعلاقات بين الدولتين، وبالمناورات السياسية التي تحدث في القمة».

وقد بدأ الأمر قبل أعوام، حيث بدأ مكتب التحقيقات الفيدرالي يراقب العملاء الروس النائمين منذ نحو عقد من الزمان، وأعطى مع وكالة الاستخبارات المركزية ووزارة العدل أول تقرير مفصل إلى البيت الأبيض في فبراير، حسب ما قاله مسؤولون أميركيون. وبحلول نهاية مايو (أيار) ومطلع يونيو، بدأ مسؤولون في مكافحة التجسس يشعرون بالقلق، إذ كانوا يخشون من أن العديد من العملاء يخططون لمغادرة البلاد صيف العام الحالي، وخلصوا إلى أنه يجب إلقاء القبض عليهم.

وداخل المنطقة الجنوبية في نيويورك، قدم مدعون ملفات القضية في دعوى قضائية من 37 صفحة وصفوا خلالها أنشطة العملاء والتقنية الاستخباراتية الذكية التي استخدموها ومراقبة مكتب التحقيقات الفيدرالي الموسعة وعلى المدى الطويل بتفصيل غير معهود. وكانت توجد نسخة من الدعوى منذ أعوام داخل خزنة سرية في نيويورك، وقام رئيس المدعين مايكل فاربيرز بتحديثها وإعادة كتابتها بعد ظهور أدلة أخرى يمكن استخدامها حين الضرورة.

ويقول ديفيد كريس، مساعد المحامي العام لشؤون الأمن القومي: «لقد أظهرت الدعوى للمتهمين والروس أن لدينا كافة المعلومات، وأننا أجرينا تحقيقا بشأنهم منذ مدة، وأننا كنا داخل منازلهم، وكنا نراقبهم وحصلنا على الكثير. ومن الواضح أن ذلك ساعد على تقدم الأشياء سريعا».

وقبل أن يتحركوا لإتمام عمليات الاعتقال، كان عليهم إخبار الرئيس. وكان أوباما يستعد لاستضافة الرئيس الروسي دميتري ميدفيديف داخل البيت الأبيض في 24 يونيو، ولذا بدا أنه سيكون لأي عملية اعتقال صدى سياسي كبير. وتولى مستشار الرئيس لمكافحة الإرهاب والأمن الداخلي جون برنان تقديم التقرير داخل المكتب البيضاوي في 11 يونيو، وتحدث مسؤولون عن العملاء الذين ستشملهم الدعوى القضائية والتهم التي ستوجه إليهم. ويقول مسؤول بارز في البيت الأبيض، تحدث شريطة عدم ذكر اسمه حتى يتسنى له الحديث عن نقاشات داخلية: «كان هناك نقاش كامل عما سيحدث في اليوم التالي». وبعد ذلك عقد أوباما اجتماعا حول القضية مع مجلس الأمن القومي التابع له في 18 يونيو، أي قبل ستة أيام من زيارة ميدفيديف.

ويقول مسؤولون من البيت الأبيض إن الزيارة انفضت من دون نقاش القضية، وبعد ثلاثة أيام ألقى مكتب التحقيقات الفيدرالي القبض على العملاء العشرة في تحرك استحوذ على العناوين الرئيسية وذكّر بفترة الحرب الباردة. وتحركت الإدارة سريعا لتحول دون أن تثير عمليات الاعتقال موجة الإدانة الغاضبة التقليدية وعمليات انتقام، واتصلت بموسكو لتوضح طبيعة الأدلة ورغبتها في حل الوضع.

ورد مسؤولون روس برفع بيان مبدئي قال إن التهم «لا أساس لها» من الموقع الإلكتروني لوزارة الخارجية، وإصدار بيان جديد يعترف بأن بعض من ألقي القبض عليهم مواطنين روس. وفوجئ مسؤولون أميركيون بتصريحات أدلى بها رئيس الوزراء فلاديمير بوتين، وهو كولونيل سابق بجهاز «كيه جي بي»، خلال لقائه بالرئيس الأميركي الأسبق بيل كلينتون.

وتحت قيادة برينان، عقد البيت الأبيض محادث «تيلي كونفرانس» يوميا في الساعة 7:30 صباحا مع العديد من الهيئات وتم الاتفاق على عملية التبادل. وصاغ مسؤولون قائمة بها أربعة روس، أدينوا بعلاقات غير قانونية مع الغرب يريدون إطلاق سراحهم. وهؤلاء الأربع هم: زابوروزسكاي وضابطا استخبارات روس سابقان هما سكريبال وفاسيلينكو، بالإضافة إلى الباحث المتخصص في الأسلحة سوتياجين.

وساعد على إتمام الاتفاق أنه لم يكن ثمة إشارة على أن العملاء الروس في أميركا نفذوا شيئا خطيرا بالفعل بعد أعوام من رقابة الهيئات الأميركية. ولم تشتك وزارة العدل من الصفقة لأنه عادة ما يتم التعامل مع قضايا الجواسيس بهذه الطريقة.

وبينما كُلفت وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية بأن تتواصل مع هيئة الاستخبارات الخارجية الروسية «خدمة الاستخبارات الخارجية» في 30 يونيو، أي بعد أقل من ثلاثة أيام من عمليات الاعتقال، حسب ما ذكره مسؤول في الإدارة. اجتمع وكيل وزارة الخارجية الأميركية ويليام بيرنز مع السفير الروسي سيرغي كيسلياك وناقشا قضية التجسس. وقام الروس بدراسة عملية التبادل على مدى يومين، وبعد ذلك وافقوا على التفاوض. واتفق على التفاصيل في المكالمات الهاتفية الثلاث بين مدير وكالة الاستخبارات المركزية ليون بانيتا التفاصيل ونظيره الروسي ميخائيل فرادكوف خلال ثلاث مكالمات هاتفية.

ويقول نيكيتا بتروف، وهو مؤرخ لدى خدمات أمنية روسية، إن موسكو وافقت على الصفقة «لحفظ ماء الوجه» بعد خجلها من عمليات الاعتقال. وأشار إلى أن هذه الحلقة أظهرت ضعف خدمة الاستخبارات الروسية حاليا. وأضاف: «كانت هذه طرق عفا عليها الزمن تعود إلى حقبة السبعينات».

ولكن، بقيت مهمة إقناع السجناء الذين سيتم تبادلهم. وعلى سبيل المثال، أكد سوتياجين لفترة طويلة على براءته وكان مترددا في توقيع الاعتراف الذي طلبته الحكومة الروسية لإطلاق سراحه. وبعد أن قام بذلك، قال إنه غير مذنب. وبالمثل، تدرب العملاء الروس داخل الولايات المتحدة على ألا يعترفوا بأنهم جواسيس أو روس. ولكن تبدل ذلك كله بعد أن اعترفت الحكومة الروسية بأنهم مواطنون روس. وسريعا طلبت القنصلية الروسية عقد اجتماعات معهم. ولم يكن جميع العملاء متحمسين لعقد صفقة، ولا سيما من لديهم أطفال. وحصلت فيكي بيلاز، وهي صحافية داخل نيويورك، على تعهد بأن تتمكن من العودة إلى وطنها بيرو أو أي مكان آخر في العالم وأن تحصل على سكن مجاني وراتب شهري قيمته 2,000 دولار طوال حياتها. ووقعت على الاتفاق، وكانت هي آخر من قام بذلك قبل ساعات من جلسة الاستماع يوم الخميس الماضي التي أتمت الصفقة.

ويقول محاميها جون رودريغوز: «كانت مباعث القلق الأبرز بالنسبة لها: (ماذا سيحدث لي؟ وكيف ستكون حياة أطفالي؟ هل سيكونون قادرين على أن يروني؟)» وقال إن التعهدات الروسية ساعدت على «تلطيف الأمر» ولكنها لم تكن ما شجعها على قبول الصفقة.

وبعد ساعات، نُقلت مع الآخرين إلى مطار لاغوارديا وطاروا على متن طائرة تابعة لـ«فيجين آيرلاينز» إلى فيينيا. وفي نحو الساعة 11:15 صباحا بالتوقيت المحلي هبطت الطائرة الروسية أولا وبعدها الطائرة الأميركية. وبدّل السجناء الطائرات، وانطلقت الطائرة الروسية في 12:38. وكانت الطائرة الأميركية في الجو خلال أقل من 10 دقائق.

وفي مقابلة تلفزيونية مع نائب الرئيس الأميركي جوزيف بايدن، تندر عن الموضوع. وجرى الحوار الأتي مع مقدم البرنامج:

* لماذا أعطيناهم عشرة وأعطونا أربعة؟

- العشرة لم يفعلوا أشياء كثيرة، والأربعة فعلوا أشياء كثيرة.

* هل عندنا جاسوسات حسناوات ومثيرات مثل آنا شابمان (عرض على بايدن صورة مثيرة لها)؟

- (ضاحكا) قلت لهم أن يحتفظوا بها هنا، لكنهم لم يسمعوا كلامي.