فيينا لا تزال تحافظ على شهرتها كمدينة «الجاسوسية الأوروبية»

3 آلاف عميل استخبارات يتحركون بحرية في العاصمة النمساوية

TT

أثار تمسك السلطات النمساوية بسياسة الصمت وعدم التعليق أو الإدلاء بأية تصريحات بشأن عملية تبادل الجواسيس التي تمت على أرض مطار فيينا الدولي كثيرا من التعليقات، وصلت إلى حد السخرية، لدرجة أن وصف صحافيون حكومتهم بأنها تبدو كالزوج المخدوع الذي هو آخر من يعلم.

وكان الناطق الرسمي باسم وزارة الداخلية رودولف غوليا قد اكتفى في رده على وسائل الإعلام ومنها «الشرق الأوسط»، عندما سألته عما يدور على أرض المطار من تبادل للجواسيس بالعبارة المختصرة «لا تعليق»، مؤكدا أنهم لا يعلمون شيئا، مضيفا: «هذا ليس خبرنا»، ثم استرسل لاحقا بالقول: «هكذا كان تاريخنا، وهكذا ستستمر سياستنا؛ فنحن لا ننفي، كما أننا لا نؤكد».

ومن ناحية أخرى، لم يُرد الناطق الرسمي باسم وزارة الخارجية التصريح بأي شيء أو الإدلاء بأية أقوال على الرغم من الاهتمام العالمي بذاك الحدث.

هذا، وكان مطار فيينا الدولي قد شهد عملية تبادل لجواسيس روس تمت بين الولايات المتحدة وروسيا في هدوء تام وسرعة ومهنية أعادت للأذهان ما سبق أن شهدته العاصمة النمساوية من معاملات جاسوسية إبان فترة الحرب الباردة. وكانت أرض المطار قد استقبلت طائرتين؛ إحداهما روسية قادمة من روسيا تحمل 4 جواسيس روس تجسسوا لصالح الولايات المتحدة الأميركية وتم العفو عنهم مقابل مبادلتهم بـ10 جواسيس روس ثبتت عليهم تهمة التجسس لصالح بلادهم في الولايات المتحدة الأميركية وصلوا إلى فيينا بدورهم في اللحظة ذاتها على متن طائرة أميركية.

وكان الناطق الرسمي باسم وزارة الداخلية قد أوضح أمس لصحيفة «الكرونة» النمساوية أن الجواسيس لم يطأوا أرض المطار، بل تم تحويلهم مباشرة من الطائرتين إلى عربة، ومن ثم كل إلى الطائرة التي حملته لوجهته، لذلك لم تتم عملية روتينية لفحص جوازاتهم. مضيفا أن إدارة مطار فيينا لا تتمسك بهذه الشكليات للطائرات «الجارتر» حتى تلك التي تعبر هذه الأيام من جنوب أفريقيا إلى إسبانيا مثلا ومعروف أنها تحمل مشجعين لمباريات كأس العالم.

من جانب آخر، أشارت تقارير لبعض وسائل الإعلام أن الطائرتين قد تزودتا بالوقود.

في المقابل، هللت بعض المصادر فخرا بانتهاء عملية التبادل في العاصمة النمساوية بكل هدوء وحذر ونجاح، مشيرة إلى أن ذلك يؤكد أن فيينا لا تزال تستمتع بشهرتها الدولية التاريخية كجنة للتجسس والجواسيس، مقدرين وجود ما قد يصل إلى 3000 عميل استخبارات أجنبية يتحركون في سرية وحرية لإجراء ما يشاؤون من صفقات ما دام ذلك يتم من دون انتهاك لقوانين البلاد بارتكاب جرائم قتل أو سحل أو تعذيب مثلا. مؤكدين أن أكثر من 250 عملية قد تمت بنجاح في الفترة ما بين 1991 - 2009 مستفيدة في ذلك من الموقع الجغرافي المثالي للمدينة كحلقة وصل بين عالمين؛ شرقي وغربي، لا يزالان مختلفين وتسودهما علاقات شك وريبة على الرغم من انتهاء حالة الحرب الباردة بينهما كمعسكرين. مضيفين أن ذلك الموقع الرائع كحلقة وصل يوفر تسهيلات لوجستية تتميز ببنية تحتية جيدة ومخاطر شبه معدومة مع سلطات تعمد إلى إغماض عينيها وصمّ أذنيها ولا تخجل من التصريح بأنها لا تعلم ولا تعلق حتى لو أثار ذلك سخرية الآخرين».

وعلى الرغم من تحول التركيز إلى التجسس الاقتصادي بالأساس، فإن تقريرا لوزارة الداخلية النمساوية العام الحالي قال إن الدولة لا تزال «مسرحا مهما لعمليات لصالح خدمات استخباراتية أجنبية». وأشار التقرير إلى أن «عدد ضباط الاستخبارات الذين يرسلون في مهمات دبلوماسية ويعينون داخل مؤسسات دولية لا يزال كبيرا بصورة غير مناسبة».

وإلى جانب نيويورك وجنيف، تحتوي مدينة فيينا على مقار لهيئات تابعة للأمم المتحدة، ويعمل الآلاف من الموظفين الأجانب داخل هيئات مثل مكتب الأمم المتحدة المعني بالجرائم والمخدرات ومنظمة التنمية الصناعية التابعة للأمم المتحدة. وتستضيف المدينة أيضا مقر الوكالة الدولية للطاقة الذرية.

وعلى ضوء وجود مهاجرين من مختلف منطقة البلقان وشرق أوروبا، تعد فيينا مكانا جيدا لمراقبة المعارضين. ودخل ذلك منعطفا داميا، عندما قتل العام الماضي منشق شيشاني في فيينا.

وتعود شهرة ساحة الجاسوسية داخل المدينة إلى الأعوام ما بين 1945 و1955، عندما كانت المدينة مقسمة إلى منطقتي احتلال بعد الحرب الباردة. وجسدت هذه الحقبة في فيلم «الرجل الثالث»، الذي وقعت خلاله مطاردة عنيفة عبر شبكة الصرف الصحي بالمدينة.

أبقت النمسا على حيادها بعد انتهاء الاحتلال. بجانب موقعها في وسط أوروبا ووقوعها على أطراف «الستار الحديدي»، شكلت موقع اجتماع مثاليا بسبب توجهها الحيادي. أيضا، زادت جاذبية النمسا للجواسيس نظرا لأن النمسا تجرم التجسس ضدها فحسب، وليس ضد دول أخرى.

وفي هذا الصدد، قال بول ليندفاي، وهو كاتب عمل لعقود كصحافي هناك، متحدثا عن فيينا خلال حقبة الحرب الباردة «لا توجد هنا جهود حقيقية للتصدي للنشاطات الاستخباراتية. وعليه، بإمكان المرء فعل ما يحلو له في فيينا. وتكمن الطرافة أنه في تلك الأيام فاقت أعداد الجواسيس في فيينا أعداد الجنود».

وحملت صفقة تبادل الجواسيس التي أقرت الجمعة ذكريات من الأيام الخوالي، إضافة إلى كونها مؤشرا على مدى التحول الذي طرأ على رقعة الشطرنج السياسية. ربما شكلت فيينا محورا لنشاط الجواسيس، لكن صفقات التبادل كانت في معظمها تجرى في برلين. اليوم، وعلى خلاف الحال مع النمسا، أصبحت الكثير من الجمهوريات التابعة سابقا للاتحاد السوفياتي أعضاء في حلف الناتو.

إن النمسا تتميز ببساطة بكونها جسرا بين الشرق والغرب، لكن لم تتوافر بدائل كثيرة أخرى «مجرد فنلندا وسويسرا فحسب تقريبا»، حسبما ذكر ألكسندر راهر، خبير الشؤون الروسية في «المجلس الألماني للعلاقات الخارجية».

من ناحيته، قال مارتن فوكوفيتش، السفير النمساوي في موسكو بين عامي 2003 و2009، إن الروس شعروا بارتياح داخل النمسا مع حرص الكثيرين منهم على قضاء العطلات هنا، بما في ذلك فلاديمير بوتين، رئيس الوزراء. من ناحية أخرى، من المؤكد أن مسؤولين نمساويين اضطلعوا بدور في الأحداث التي وقعت الجمعة، وقد رفضوا التعليق على صفقة المقايضة حتى مناقشة الجانبين الروسي والأميركي علانية لها.

أما أبناء فيينا فلم يبدوا انزعاجا تجاه الأنباء، بل وأبدى بعضهم شعورا بالفخر باستعادة مدينتهم مكانتها على خريطة التجسس. مثلا، قالت كريستيل ريتس، التي كانت تتنزه الجمعة بالقرب من دار الأوبرا، إنها شعرت بالدهشة لدى سماعها نبأ أن المدينة تشكل محورا بالغ الأهمية في نشاطات التجسس. وأضافت «أنا على ثقة من أنهم يضطلعون بمهامهم جيدا، لكني لا أعتقد أن هناك كثيرا من الأحداث في فيينا على نحو يتطلب مثل هذا العدد الضخم منهم».