التعليم الأهلي للبنات في القصيم يقاوم ركام العادات والموروث الاجتماعي

الدمج والأنشطة الرياضية والمناهج الأجنبية.. ثالوث مثير للجدل اجتماعيا

نساء القصيم قاومن كثيرا من المعتقدات التي كانت تحد من قدرتهن على تحقيق الذات (تصوير: ثامر الناصر)
TT

سنة «البركة والسرور».. هكذا كانت احتفالية «نسوة القصيم» للعام الهجري 1380 في أبرز الصحف الصادرة آنذاك، عقب الإعلان عن الإرادة الملكية التي صدح بها أثير الإذاعة المحلية والصحف الرسمية، الداعية إلى مساواة الفتاة السعودية بأخيها، في العلم والتعلم، بافتتاح مدارس لتعليم البنات الذي رصد له مليونا ريال، وكان نصيب بريدة البالغ عددها 100 ألف نسمة وقتها، مدرسة ابتدائية واحدة ضمن هذه المدارس.

إلا أن الصحف الأشهر في مناقشة قضية تعليم البنات، ومنها «القصيم» و«اليمامة» لم تتوقف داخلها السجالات على صفحات الرأي.

فكانت حربا ضروسا خاضها كل من المؤيدين والمناوئين والمؤيدين بشروط، لتعليم البنات في المدارس الرسمية التي حلت محل «الكتاتيب» أو ما كان يطلق عليه البعض «المدارس الدينية» سبقت وتلت صدور القرار.

ويكفي للمتابع قراءة «عناوين» المقالات المكتوبة آنذاك ليتمكن من جس نبض الشارع «القصيمي» وبالأخص سكان مدينة بريدة الذين رفضوا قدوم المفتشين وعطلوا افتتاح المدرسة الابتدائية عاما كاملا من بعد صدور القرار الرسمي، التي ظهرت في مقال «فتاة بريدة تناشد المسؤولين» ومقال آخر «لا تئدوا بناتنا في المهد».

«لنثقف البنت دينيا أو لتبقَ في البيت» هكذا عبر عبد السلام هاشم حافظ 1379هـ عن رفضه لمدارس البنات، داعيا إلى أن يكون تعليم النساء «دينيا لا عقليا»، ليرد عليه بشراسة الكاتب سعود الضويحي بمقال عنوانه «لا نريدهن خطيبات مساجد ولكن مربيات»، كذلك كان هناك دور بارز خاضته السيدة «القصيمية» في هذه المعركة وإن كان بعضهن تحت اسم مستعار أو رمز، في مقالات متعددة: «مدرسة البنات في بريدة متى تفتح» و«أضيؤوا عقول الفتيات بنور العلم»، ومقال سارة بوحيمد «لا تمنعوا العلم عن فتياتكم».

ولم تكشف المقالات عن حرب أو ما سمي بـ«الفتنة» المتعلقة بتعليم البنات، وإنما أيضا خارطة بأكملها لكل الأبعاد الثقافية وصراع تيارات اشتهرت بتنوعها في منطقة «القصيم» التي تظهر معالمها جلية في قضية المرأة وكيف فهمها المجتمع.

فلم يقتصر الاعتراض على افتتاح المدارس وإنما أيضا إلى المناهج؛ فهناك من اعترض على تقديم المناهج العلمية ورأى ضرورة اقتصارها على التربوية والدينية، فالتأهيل مطلوب لمن وافق بتحفظ على افتتاح المدارس كما قال الكاتب علي المسلم: «نريد من هذه المدارس أن تعلم تعليما صحيحا يجمع بين معرفة الدين وتربية الابن وسياسة المنزل»، مضيفا: «لا نريد أن نعلمها لتكون (جولدا مائير) تسوس خارجية الدولة».

ليظهر عبد الملك الصحابي بمقال يرد فيه: «لماذا يحذف من برامج تعليم البنات مواد لا بد من الإلمام بمبادئها لأي طارق لباب العلم كالهندسة والجغرافيا؟». «لعل من أغرب الأقوال إجابة» والحديث هنا للصحابي، في رد المسؤول أن «الهندسة ستدرس ضمن درس الخياطة»، متسائلا عن «العلاقة ما بين الهندسة والخياطة».

لتتلخص قضية وفهم المرأة في ما كتبه عبد الرحمن السدحان في جريدة «اليمامة»: «إننا نريدها أن تحيط بمبادئ دينها وتعاليمه السامية، خاصة في ما يتعلق بدورها كزوجة وكأم وكربة بيت معا. إننا لا نريد منها أن تتبوأ المراكز أو تشغل المناصب، فليس هذا الميدان ميدانها، وإنما ميدانها الحقيقي هو البيت.. أجل البيت، ولا يحسبن البعض أن رسالة البيت تقل عن رسالة الوظيفة أو المركز».

اليوم عادت «القصيمية» في مدينة النجوم السعوديين «الدعوة والإعلام والسياسة» لتحجز مقعدها في الوظائف الإدارية، معتلية أيضا أهم المراكز الحكومية، لتثبت بنجاح أن المحافظة لا تقف عائقا أمام تحقيق التنمية والتقدم، فمن العباءة الدينية ذاتها «صعدت وارتقت»، فبعد أن كان الجهل سلاحا، اتخذت منه أيضا سلاحا حمله معها كل من سجل رفضه لتعليم البنات سابقا، حتى بات يستعان بها في لجان المناصحة التابعة لوزارة الداخلية السعودية لتقويم مسار العقول والقلوب.

وقطع تعليم البنات في منطقة القصيم مراحل مختلفة حتى بلغ مبلغه في الآونة الأخيرة من التقدم؛ ابتداء بالكتاتيب في مرحلة التعليم «الأولي»، ومن ثم «النظامي»، حيث بدأ تعليم الفتيات في بيوت أسر خصصت جزءا من مسكنها ليكون «كتابا» يستقبل الراغبات في تعليم القرآن الكريم وحفظه مع تعليم مبادئ القراءة وبعض الدروس الفقهية والتربوية والشؤون المنزلية، في مرحلة التعليم «الأولي»، كان يطلق على صاحبة الكتاب «المطوعة»، واشتهرت منطقة «القصيم» بكثرة عدد «الكتاتيب» أو كما يحلو للبعض تسميتها «المدارس الدينية»؛ في مقدمتها مدينتا «بريدة وعنيزة» حيث بلغت أكثر من 82 كتّابا.

من تلك المدارس، مدرسة «أم الهزاع» جنوب بريدة، و«بنت ابن سطام» غرب بريدة، ومدرسة «أم الفوزان» قرب مصلى العيد، و«مطيرة الرماحا» بالرس، و«أم القرزعي» بعنيزة، وكتاب المطوعة «أم الهذلول» بالبدائع، ومنيرة السلمي (أم الوهابا)، ورقية علي الهذلول، ونورة العضيب، وتركية العمير بالرس، وموضي السحيباني ومطاوعة من آل سائح بعيون الجواء، بالإضافة إلى عدد من المطوعات من آل المبارك.

وعودة إلى الوراء حتى تاريخ صدور قرار تأسيس إدارة للإشراف على شؤون التعليم في أنحاء السعودية تتولى تأسيس المدارس والمعاهد، وتنشيط الحركة الثقافية والعليمة، أسست مديرية المعارف في رمضان 1344هـ (1926م) بعد دعوة الملك عبد العزيز للعلماء في مكة المكرمة إلى أول اجتماع تعليمي يعقد في تاريخ السعودية، لحثهم إلى بذل الجهود لنشر التعليم.

ويعد إنشاء مديرية المعارف بمثابة إرساء حجر الأساس لنظام التعليم الحديث في السعودية، وكان مقرها مكة المكرمة، لتشرع في افتتاح 12 مدرسة في أهم مدن الحجاز امتد نشاطها إلى الأحساء ثم نجد، أما التدريس فقد بدأ مع بداية شهر محرم 1345هـ (1926م)، لتتحول مديرية المعارف في عام 1373هـ إلى وزارة، عين لها الملك (الأمير آنذاك) فهد بن عبد العزيز رحمه الله، كأول وزير للمعارف.

وعلى الرغم من مرور أكثر من 35 عاما منذ بدأ التعليم للبنين، حتى صدر قرار التعليم الرسمي للبنات جراء الرفض الشعبي لافتتاح المدارس الرسمية الذي طال البنين والبنات، فإن الزمن ذاته شهد تشجيعا كبيرا لإنشاء مدارس أهلية للبنات، التي كان البعض يلجأ إلى افتتاحها باقتطاع أجزاء من منزله الخاص بالإضافة إلى الكتاتيب في كل من مدن الحجاز ونجد والمنطقة الشرقية والشمالية، التي كان يزيد عددها على 200 مدرسة، بالإضافة إلى افتتاح أكثر من 11 مدرسة أهلية، منها 4 مدارس في مكة المكرمة، و3 مدارس في جدة، ومدرستان في الرياض، ومدرسة بالطائف ومدرسة بالمدينة المنورة.

وقد شهدت المدارس الأهلية للفتيات اكتظاظا شديدا تتطلب حينها النظر بجدية تجاه افتتاح مدارس حكومية رسمية، والارتقاء بها، حيث لم يكن لوزارة المعارف أي إشراف على المدارس الأهلية لا من الناحية الفنية والتربوية التعليمية، ولا حتى من الناحية الادارية والمالية.

وعودة إلى منطقة القصيم وتحديدا مدينة بريدة العاصمة الإقليمية للمنطقة، التي مر تعليم الفتيات فيها بثلاث مراحل: مرحلة الكتاتيب، ثم المدارس شبه المنظمة، ثم المدارس الأهلية المنظمة، فكان افتتاح أول مدرسة أهلية للبنين والبنات فيها عام 1408هـ بولادة «مدارس الغد» الأهلية لمرحلة الروضة والتمهيدي والمرحلة الابتدائية، تلاها افتتاح «مدارس المنارات» الأهلية 1413هـ لكل المراحل الدراسية، ليبلغ عددها في آخر إحصائية رسمية 12 مدرسة أهلية في بريدة بلغ عدد طالباتها في المرحلة الثانوية التي تشهد الإقبال الأكبر من قبل الأفراد لاعتبارات تتعلق بالمعدل التحصيلي 3000 طالبة، و237 معلمة، إلى جانب مدرستين للتعليم الأجنبي «التميز» و«الوسام»، وثلاث مدارس للجاليات الباكستانية والهندية والفلبينية.

والمراقب للتعليم الأهلي في مدينة بريدة كنموذج لمنطقة القصيم الذي لم يمض على تدشينه سوى 23 عاما، بإمكانه استقراء الكثير من ثقافة المجتمع القصيمي السائدة.

فعلى الرغم من مضي 7 أشهر منذ صدور قرار وزارة التربية والتعليم بدمج البنين والبنات في المراحل الأولية في المدارس الأهلية، فإنه لا يزال القرار يلقى الرفض الاجتماعي، الذي أعاد الذاكرة إلى الوراء سنوات كثيرة إلى ما سمي «فتنة» تعليم البنات.

فلم تتجرأ أي مدرسة على اتخاذ مثل هذه الخطوة حتى لحظة إعداد التقرير، وبحسب مديرة إدارة التعليم الأهلي والأجنبي، فعلى الرغم من توجيهات إدارتها لمالكي ومالكات المدارس الأهلية المتكررة وعقب الاجتماعات مع مديرات المدارس ومالكاتها للتوعية بمثل هذا القرار، فإن التحفظ لا يزال قائما تخوفا من مدى تقبل المجتمع ذاته في حال اعتماد تلك الخطوة من قبل إدارة المدرسة.

فبخلاف عدد كبير من المدن السعودية الرئيسية التي يتميز فيها القطاع التعليمي الأهلي بتطور هائل من حيث برامجه التعليمية والتربوية والمناهج المعتمدة حتى بلغت رسوم عدد منه أكثر من 25 ألف ريال سنويا، بالإضافة إلى استقطاب كوادر تعليمية مؤهلة، يقف التعليم الأهلي في منطقة القصيم عند حدود المجتمع وما يسمح به، فالقسط السنوي للمدرسة لا يمكن أن يتجاوز 6 آلاف ريال سنويا، أما ما يتعلق بالمناهج فجميعها تعتمد مناهج الرئاسة العامة لتعليم الفتيات إلى جانب غياب النشاطات الرياضية للطالبات، على الرغم من سماح إدارة التعليم الأهلي والأجنبي للفتيات بتوفير ملاعب وساحات رياضية التي لطالما اعتبرتها المدارس الأهلية في بعض المناطق السعودية الأخرى المجال الأبرز للتنافس.

أما المدارس «العالمية» أو «الأجنبية» كما يسميها البعض الآخر التي غالبا كان مرتادوها في المدن السعودية الأخرى من أبناء الهيئات الدبلوماسية أو ممن نشأ على التعليم الأجنبي في الخارج من أبناء السعوديين، فكانت الأبرز من حيث الفوارق في بريدة، حيث اقتصر مرتادوها على الوافدين من الجنسيات العربية، إلى جانب ضآلة رسوم التسجيل فيها، ونتيجة لإهمال مرافقها التعليمية وتهالك مبانيها. وعلى الرغم من اعتمادها المناهج البريطانية، فإنها لم تتمكن حتى من الدخول ضمن تصنيف وزارة التربية والتعليم للمدارس الأهلية لشدة ضعفها.