البلدة القديمة في الخليل: الخوف وانعدام الأمن يجعل عودة الحياة صعبة وبطيئة

المستوطنون والسارقون يبددون أمن البلدة التي كانت مركز الحياة والتجارة في الجنوب

جانب من أحد أسواق البلدة القديمة في الخليل («الشرق الأوسط»)
TT

ترددت 3 نسوة محجبات من مواصلة السير إلى عمق البلدة القديمة في الخليل جنوب الضفة الغربية، تناقشن قليلا، وقررن العودة من حيث أتين، بعدما تملكهن قلق واضح من مشهد الشارع الطويل الذي كان فارغا إلا من بعض أصحاب المحلات القليلة المفتوحة وسط عشرات أخرى مغلقة.

وقبل بداية الانتفاضة الثانية عام 2000 كانت البلدة القديمة تعج يوميا بآلاف المتسوقين، لكن إغلاق إسرائيل لها منذ بداية الانتفاضة وحتى قبل 3 سنوات، مع ما ترافق من عربدة مئات المستوطنين الذين يسكنون بعض بيوت الفلسطينيين هناك عنوة، واعتداءاتهم المتكررة على أي عربي، كل ذلك حول البلدة إلى ما يشبه مدينة أشباح يملؤها الخوف.

ويحاول الآن بعض التجار الذين قرروا فتح محلاتهم في البلدة إحياء السوق القديمة من جديد، لكن هذه المهمة التي بدت صعبة ما زالت تصدم بعدة عقبات، أهمها الخوف وانعدام الأمن، وثانيها امتناع أغلبية التجار عن العودة إلى فتح محلاتهم في السوق.

وحتى عمق 200 متر يجد الزائر بعض المحلات المفتوحة، لكن من دون متسوقين، وكأنها بلدة نسيها أهلها ومحبوها. أما أصحاب المحلات المفتوحة فكانوا يحتسون القهوة، وبعضهم يشاهد مباريات المونديال، وجميعهم لا يتعدون أصابع اليدين. كانت البلدة هذه المرة أكثر نظافة وأناقة مما كانت عليه حين زرتها قبل عامين، وأكثر حيوية بعض الشيء، وقال نبيل الحلبي (55 عاما) وهو تاجر معروف في البلدة القديمة، «الوضع أفضل الآن.. البلدة تستعيد حيويتها لكن ببطء».

حاول الحلبي أن يرفع من معنويات رفاقه التجار، وقال «اليوم عملت 200 شيكل (55 دولارا) قبل سنتين كنت أعمل 20 شيكلا فقط»، فسألته وقبل الانتفاضة؟، فرد «ما تسأل.. كان دخلنا من دون حد».

وعلى الرغم من أن إسرائيل سمحت للفلسطينيين بالعمل في الشارع الرئيسي في البلدة القديمة (شارع الشلال) فإنها أغلقت جميع الشوارع الفرعية الواصلة منه إلى مناطق الاحتكاك مع الفلسطينيين، وطبعا ما زالت تضع بعض النقاط العسكرية وسط الشارع، وهذه تكتظ كلما اقتربنا أكثر من الحرم الإبراهيمي الذي يبدو مثل قلعة محصنة بالجنود المدججين بالسلاح.

وبدأت الحياة تدب من جديد في البلدة القديمة منذ 3 سنوات تقريبا، لكنها مع ذلك ما زالت تتحسن ببطء وقد سرى بين التجار بعض اليأس، وكان الحلبي نفسه توجه إلى العدل العليا قبل أكثر من 4 سنوات، وأمرت المحكمة العليا في إسرائيل آنذاك للحلبي ورفاقه بمزاولة أشغالهم في البلدة المغلقة. وقال الحلبي: «كنت أول شخص فتح محله في البلدة القديمة». وأضاف «بعدها حاولت إقناع زملائي بأن يفتحوا محلاتهم من جديد، لكن قليلين استجابوا».

وعقب الحلبي «لا يوجد ما يمنع التجار من فتح محلاتهم الآن، البلدة مفتوحة الآن لماذا لا يعودون؟».

وردا على السؤال نفسه، وقد وجه له، قال «فتحوا محلات كبيرة في عين سارة (شارع رئيسي وشهير في الخليل)، ما بدهم البلدة تحيا من جديد بدهم إياها تموت».

وأيد عدنان سعيد (67 عاما) الحلبي، وقال «هذه المنطقة كانت مركز مدينة الخليل التجاري، بل مركز الجنوب كله، زوارها كانوا من رام الله والقدس والشمال، لم يكن التجار مستعدين لترك محلاتهم ولا بمليون دينار، واليوم لا يريدون أن يعودوا إليها ولو بإيجار 50 دينارا في الشهر».

لكن ليس كل التجار لا يريدون العودة، فبعضهم لا يستطيع أصلا، ووجدنا في شوارع الخليل تجارا صغارا في البلدة تحولوا إلى البيع على بسطات غير قانونية، وقال سعدي جابر الذي يبيع الترمس على بسطة منذ عام ونصف، «كنت أملك دكانا في البلدة القديمة، لكن لم أستطع أن أدفع إيجاره وهو مغلق، واليوم أبيع الترمس وهذا أفضل من لا شيء».

وفي شارع آخر كان عمر الحروب (45 عاما) يشكو من ملاحقة الشرطة له، وكان الحروب يملك محلا في البلدة القديمة، والآن يبيع الملابس على بسطة. ودعمت السلطة الفلسطينية صمود الفلسطينيين في البلدة التي عاث فيها المستوطنون خرابا لسنين، ويسيطرون الآن على أجزاء منها، ويعيش هناك 450 مستوطنا بالقوة بين أكثر من 100 ألف فلسطيني في المحيط.

وعملت لجنة إعمار البلدة على إعادة تأهيل البنية التحتية لشوارع البلدة بما يشمل تمديدات الكهرباء والمياه وشبكات الصرف الصحي وخطوط الهاتف، وإعادة تبليط الشوارع.

كما قامت اللجنة بترميم المحلات وبعض المنازل، وقدمت هذه المنازل من دون مقابل لمن يريد السكن فيها. وتشجيعا لحث أهالي الخليل على العودة إلى السكن في البلدة القديمة، قامت السلطة بإعفاءات السكان من دفع ضريبة الدخل للساكنين والعاملين هناك، وتزويدهم بالماء والكهرباء مجانا.

ويحصل سكان البلدة القديمة على تأمينات صحية حكومية مجانية، وتوفر دعما حكوميا لرغيف الخبز في مخابز البلدة القديمة وبعض المواد التموينية الأخرى، وهذا الشهر افتتح رئيس الوزراء الفلسطيني سلام فياض مكتبا لوزارة المالية في البلدة القديمة، وافتتحت البلدية مكتبا لشرطتها بالمدينة، لكن إسرائيل أغلقته بحجة أنه أحد أشكال السيادة.

وقال فياض لأهالي البلدة، «لبنة لبنة، وخطوة خطوة، وبمراكمة الإنجاز تلو الإنجاز، نصل إلى تحقيق أهداف مشروعنا الوطني، والمتمثل في إنهاء الاحتلال، وإقامة دولة فلسطين المستقلة، على درب الحرية والاستقلال».

واليوم هناك محاولات من مؤسسات فلسطينية ودولية لترويج البلدة القديمة كمدينة تراث لضمها لقائمة التراث العالمي.

وقال الحلبي الذي تجول معنا في أرجاء البلدة، «الأمور تتحسن الآن، علينا الصمود أكثر». ويعيش الحلبي في منزل يجاوره فيه مستوطنون، وقال وهو يشير إلى المنزل: «انظر كل الشبابيك مغلقة، إنهم يهاجموننا ليل نهار».

وفجأة هب شاب متحمس ليرد على الحلبي، وقال أحمد الأدهمي (40 عاما) كيف تريد من الناس أن تسكن وتفتح محلاتها؟ من يحميها من السرقات؟ كم سرقة صارت هنا في الأيام الأخيرة؟». وأضاف «عشرات السرقات صارت هون، وما حد انمسك، الناس بتخاف تيجي على البلدة القديمة طالما ما في حد بيحميهم».

فرد الحبلي «مين هم الحرامية، كلنا بنعرفهم، وبنغطي عليهم» وأضاف «هذا موضوع آخر، لو يعود الناس والتجار ستنتهي هذه الظاهرة». لكن كلام الحلبي لم يقنع كثيرا الأدهمي الذي حمل السلطة جزءا كبيرا من المسؤولية واتهمها بالتقصير. ويقول رجال الأمن في السلطة الفلسطينية في الخليل إنهم ممنوعون من العمل في البلدة القديمة المصنفة «h2» حسب اتفاق الخليل بين السلطة وإسرائيل.

وتحتاج الأجهزة الأمنية إلى تنسيق مسبق من أجل الدخول إلى البلدة القديمة، واتفق الأدهمي مع الحلبي بأن لا مصلحة لإسرائيل من تحقيق حالة أمن في البلدة القديمة، وقال الحلبي «حتى مع وجود المستوطنين والسارقين سنبقى وعليهم أن يرحلوا».