فجوة لغوية واضحة داخل مدن بلجيكية

الفرنسية والفلمنكية لغتا البلاد الرسميتان تسببتا في إسقاط الحكومات الواحدة تلو الأخرى

TT

تتحدث غالبية الأسر التي تعيش في هذا المجتمع الميسور في ضواحي بروكسل، اللغة الفرنسية. في الوقت الذي ينص قانون هذه المنطقة من بلجيكا على ضرورة استخدام الفلمنكية في جميع التعاملات الرسمية داخل المدينة. ويعني ذلك ضرورة كتابة تقارير الشرطة بالفلمنكية، وكذلك المواد المتعلقة بالانتخابات، كما يتعين أن تكون 75 في المائة من الكتب وأقراص الفيديو الرقمية التي تشتريها المكتبة العامة بالفلمنكية. عندما يترأس كريستيان أندريز، عمدة فيميل، اجتماعا لمجلس المدينة، فإنه غير مسموح له بنطق لفظ واحد بالفرنسية، حتى ولو ترجم معناه، وإلا ستلغى المسألة التي يتناولها. وعلق على هذا الأمر مؤخرا بنبرة متحسرة قائلا: «بالطبع هذا أمر سخيف». الآن، تفتقر بلجيكا إلى وجود حكومة مجددا. ويعرض هذا المجتمع فكرة عن السبب، ففي الوقت الذي ربما تنهمك فيه أوروبا في التغلب على خلافاتها ودفن التباينات الثقافية وقرون من النزاعات، لا ينطبق الأمر ذاته على بلجيكا، التي على ما يبدو تتحرك في الطريق المعاكس. في الواقع، تسبب خلاف حول حقوق المتحدثين بالفرنسية في فيميل وعدد من القرى المشابهة في إسقاط الحكومة البلجيكية الأخيرة، حيث تقدم يفيس ليتيرم، رئيس الوزراء البلجيكي، باستقالته للمرة الثالثة، وقبل الملك استقالته أخيرا في أبريل (نيسان)، بعد محاولته، على مدار أكثر من ثلاث سنوات، تسوية القضية. في أعقاب الانتخابات التي أجريت الشهر الماضي، بدأت محادثات على أمل تشكيل ائتلاف بمقدوره قيادة بلجيكا، إلا أنه حتى العناصر المتفائلة، لا تتوقع التوصل إلى تشكيل حكومة جديدة خلال الشهور المقبلة. في أعقاب الانتخابات التي عقدتها البلاد عام 2007، استغرق البلجيكيون قرابة تسعة شهور لتشكيل حكومة جديدة. ويرى بعض المحللين أن الانقسام في صفوف الأحزاب الرئيسية أكثر حدة هذه المرة، بل ويتساءل البعض حول ما إذا كانت الحقبة الراهنة تشكل بداية النهاية لبلجيكا. في هذا الصدد، قال ليفين دي فنتر، بروفسور العلوم السياسية بجامعة دو لوفان الكاثوليكية: «من العسير معرفة إلى أين سيفضي هذا الوضع». إلا أنه مثلما الحال مع كثيرين آخرين، يعتقد فنتر أن تفكك البلاد سيشكل خطوة بالغة التعقيد لدرجة تجعلها من المستحيل، نظرا لأنه من المستبعد أن يتخلى أي من الجانبين عن بروكسل، العاصمة. بالنسبة لأندريز، لا يمثل هذا الأمر مفاجأة، فباعتباره رجلا ودودا من أصل فلمنكي، فإنه عاين شخصيا التوترات بين شطري بلجيكا على امتداد أكثر من عقد، وتولى إدارة شؤون مدينة تقع فنيا على الجانب المتحدث بالفلمنكية من البلاد، لكنها تحولت إلى موطن للكثير من الناطقين بالفرنسية المتطلعين للسكن بمناطق خضراء، ليست بعيدة عن بروكسل. ذات مرة، غطت لافتات الاحتجاج منزل أندريز؛ لاتهامه بإجبار أمين المكتبة الخاصة به على كتابة خطابات بالفرنسية إلى مسارح فرنسية يستفسر عن مواد ربما تتوافر لديها من أجل المكتبة. ورأى المعترضون أنه كان لزاما عليه إرسال الخطابات بالفلمنكية، التي تشبه إلى حد كبير الهولندية. وعندما دعا مطرب كونغولي، لغته الأم الفرنسية، إلى تقديم عروض غنائية في فيميل، ثارت ضده الكثير من الشكاوى وتلقى تهديدات جمة لدرجة أجبرته على الاستعانة بقوات الشرطة. العام الماضي، تعرض أندريز لانتقادات شديدة في الصحف المحلية الفلمنكية لوضعه نوافذ جديدة في مدرسة يرتادها بلجيكيون ناطقون بالفرنسية، قبل استبداله نوافذ أخرى للناطقين بالفلمنكية. وبرر القرار بقوله: «هناك 600 طفل في المدرسة الفرنسية، بينما يوجد 400 فقط بالأخرى الفلمنكية. ولذا، بدا من المنطقي البدء بالأولى». إلا أن مشكلات أندريز تتضاءل لدى مقارنتها بتلك التي يواجهها ثلاثة عمداء آخرون بالمنطقة الناطقة بالفلمنكية التي تدعى بروكسل هالي فيلفرود. جرى انتخاب العمداء الثلاثة منذ أكثر من أربع سنوات، لكن لم يتم تنصيبهم رسميا قط، والسبب أنهم بعثوا معلومات التصويت مكتوبة بالفرنسية إلى الناخبين الناطقين بالفرنسية في دوائرهم الانتخابية. في واحدة من المدن، لينكبيك، يتحدث قرابة 80 في المائة من إجمالي عدد السكان البالغ 4700 بالفرنسية. وعلق داميان تيري الذي فاز بالانتخابات على الأمر بالقول: «من الصعب تصديق ذلك، لقد أصبحت بلجيكا مكانا مثيرا للدهشة حاليا».

ويتجلى الخط العرقي - اللغوي الفاصل داخل بلجيكا بوضوح شديد، وتتألف البلاد في حقيقة الأمر من اتحاد من ثلاثة أجزاء: الفلاندر في الشمال، وفالونيا الناطقة بالفرنسية في الجنوب، وبروكسل التي تتحدث رسميا لغتين. ويتميز كل من الناطقين بالفرنسية والفلمنكية بأحزاب سياسية وقنوات تلفزيونية خاصة بهم، الأمر الذي يعتبره كثير من الخبراء السبب في ما آل إليه الوضع الآن. وأعرب ييفيس ديسميت، المحرر السياسي بصحيفة «دي مورغين» الفلمنكية، التي دعت لإقرار نظام انتخابي يعمم على البلاد بأكملها، عن اعتقاده بأن «الأحزاب السياسية لا تجد أمامها نفعا تجنيه من وراء محاولة التودد من بعضها البعض». ومثل كثيرين غيره، أبدى اعتقاده بأن تشكيل ائتلاف حكومي سينطوي على صعوبة خاصة هذه المرة، حيث تفصل مسافات واسعة بين الأطراف الفائزة في الانتخابات. في الشمال الفلمنكي، يوجد السياسي بارت دي فيفر المؤيد لبناء وطن فلمنكي مستقل. وفي فالونيا الناطقة بالفرنسية في الجنوب، فاز الاشتراكيون بـ26 في المائة من الأصوات، بيد أن الاضطراب الراهن يأتي في توقيت بالغ السوء، حيث تواجه بلجيكا، مثلما الحال مع كثير من الدول الأوروبية الأخرى، عجزا هائلا بالميزانية. ويعتقد بعض المحللين أن البلاد بحاجة لتوحيد صفوفها على الصعيد الاقتصادي في أقرب وقت ممكن. ومن بين العوامل التي أججت التوترات بالبلاد، تحول الثروة الاقتصادية مع وجود مشاعر حقد دفين منذ أمد بعيد بين الناطقين بالفلمنكية والآخرين المتحدثين بالفرنسية.

يذكر أن بلجيكا، التي تعد دولة حديثة نسبيا، أعلنت استقلالها عام 1830. في البداية، تحدثت الطبقة الأرستقراطية في البلاد الفرنسية وغالبا ما أبدت المناطق الناطقة بالفرنسية من البلاد، التي تميزت بالثراء بفضل صناعتي الحديد والفحم، ازدراء حيال الشمال الزراعي. خلال الحرب العالمية الأولى، كان غالبية الضباط البلجيكيين من المتحدثين بالفرنسية ولم يبذلوا مجهودا كبيرا لترجمة أوامرهم للجنود الناطقين بالفلمنكية. إلا أنه في هذه الأيام، أصبح الجزء الفرنسي من بلجيكا - الذي يبلغ تعداده قرابة 4 ملايين نسمة - أكثر فقرا، بينما تنامت ثروات الفلاندر البالغ عددهم نحو ستة ملايين نسمة وأصبحوا معتمدين على اقتصاد متنوع. ويشعر كثير من الناخبين الفلاندر بالسخط تجاه تدفق أموالهم الضريبية نحو الجنوب. في بعض أجزاء فالونيا، تقترب معدلات البطالة من 20 في المائة. ومع ذلك، فمن الممكن أن يرفض أبناء الإقليم وظيفة إذا كانت على مسافة تزيد عن 15 ميلا من منازلهم ويكتفون بالحصول على إعانات بطالة، حسبما أوضح ديسميت. وأضاف: «في الشمال، هناك وظائف متاحة، وهذا الأمر يثير ضيق كثير من الفلمنكيين». الملاحظ أن النزاع حول حقوق التصويت في فيميل والمدن الأخرى في بروكسل هالي فيلفرود معقد للغاية بدرجة تجعل من المتعذر على أي شخص تقريبا تفهمه. بصورة أساسية، توفر الحقوق الانتخابية الراهنة للناخبين الناطقين بالفرنسية داخل بروكسل هالي فيلفرود إمكانية التصويت لصالح أحزاب فرنكفونية في بروكسل، لكن لا تتوافر ترتيبات مشابهة بالنسبة لمتحدثي الفلمنكية القاطنين في المناطق الناطقة بالفرنسية. ويتفق غالبية المحللين السياسيين على أن هذا الوضع يهدد كحد أقصى مقعدين أو ثلاثة في البرلمان. لكن هذه القضية تثير سخط المتحدثين بالفلمنكية. عن هذا، قال أنييك بولسنز (37 عاما)، الذي انتقل إلى فيميل منذ ثلاث سنوات: «للمتحدثين بالفرنسية هنا حق لا يملكه المتحدثون بالفلمنكية. لقد أعلنت المحكمة الدستورية عدم دستورية هذا الوضع، وهو رأي صائب».

* خدمة «نيويورك تايمز»