«فورت ميد» عاصمة المجتمع الاستخباراتي

فنادق خاصة في محيط واشنطن تستطيع فيها الشركات الأمنية استئجار غرف غير قابلة للتنصت

سيارة تابعة لأجهزة الاستخبارات في شارع مظلم بالقرب من مقر وكالة الأمن الوطني الأميركي («واشنطن بوست»)
TT

في الضواحي المنتشرة في جميع أنحاء البلاد، يقوم المجتمع الاستخباراتي بنشاطه المجهول الذي لا يعرف عنه أحد أي شيء. وهذا النشاط غير مرئي، لكن تأثيره محسوس بكل تأكيد.

فالمستودع المبني من الطوب ليس مجرد مستودع. قم بالقيادة عبر البوابة، وهناك، في الخفاء، تجد تفاصيل الفريق الأمني الشخصي لأحد الأفراد: أسطول من السيارات السوداء رباعية الدفع، وهذه السيارات مصفحة لتتحمل الانفجارات وإطلاق النار.

وعلى طول الشارع الرئيسي، تعلن اللافتات في المنتصف عن منازل للبيع؛ إنها تدعو الموظفين الذين يحملون تصريحات أمنية بالغة السرية إلى معرض للتوظيف في مقهى «كافي جو»، الذي لا يعد سوى مكان عادي لتناول وجبة الغداء.

ويعد هذا المبنى الإداري الجديد ذو اللون الرمادي الداكن في الحقيقة نوعا من الفنادق، تستطيع فيه الشركات استئجار غرف غير قابلة للتنصت.

وحتى غطاء البالوعة بين مبنيين منخفضين ليس مجرد غطاء بالوعة. إن هذا الغطاء، المحاط باسطوانات إسمنتية، نقطة للنفاذ إلى جهاز إرسال حكومي. همس أحد المسؤولين بالحروف الأولى من «بالغ السرية» و«معلومات مصنفة وحساسة»، ويعني ذلك أن عددا ليس بالكثير من الأفراد مسموح لهم بمعرفة نوعية المعلومات التي ينقلها هذا الجهاز.

وتقع جميع هذه الأماكن خارج واشنطن في ما يرقى إلى كونه عاصمة لجغرافيا بديلة للولايات المتحدة، والتي يحددها تركيز المنظمات الحكومية بالغة السرية والشركات التي تقوم بأعمال لصالحها. وهذه المجموعة في فورت ميد تعد الأكبر ضمن عشرة من هذه المجموعات المنتشرة في جميع أنحاء الولايات المتحدة والتي تعد مراكز القوة في «أميركا بالغة السرية» والعاملين بها، الذين يصل عددهم إلى 854 ألف فرد.

وتشمل المواقع الأخرى دوليس تشانتيلي ودينفر أورورا وتامبا. وجميع هذه المواقع هي نسخ مراقبة بالرادار للمدن العسكرية التقليدية: وهذه المواقع معتمدة من الناحية الاقتصادية على الميزانية الفيدرالية ويتم تعريفها من الناحية الثقافية عن طريق عملها الفريد.

الاختلاف، بالطبع، هو أن الجيش ليس ثقافة سرية. وفي مجموعات «أميركا بالغة السرية»، تعد أي مجموعة من الشركات المتصلة ببطاقة ذكية رقمية هي المفتاح الوحيد إلى أي موقع للوظائف.

لا تتم مناقشة العمل، ولا التطورات. تتم المناقشات بشأن دور الاستخبارات في حماية البلاد فقط عندما يحدث شيء بصورة خاطئة وتطلق الحكومة تحقيقا بشأنه، أو عندما يتحول الإفصاح غير المصرح به لمعلومات سرية إلى أخبار.

ولا تتوافر معلومات كثيرة حول وجود هذه المجموعات لدرجة أن معظم الأفراد لا يدركون متى يقتربون من مركز مجموعة فورت ميد، وحتى عندما تبدأ أجهزة نظام تحديد المواقع العالمي على لوحة أجهزة القياس في سياراتهم على نحو مفاجئ تبدأ في إعطاء اتجاهات خاطئة، مما يلقي بقائد السيارة في سلسة من الانعطافات، والسبب في ذلك هو أن الحكومة تقوم بالتشويش على جميع الإشارات القريبة من المكان.

وبمجرد حدوث هذا، فإنه يعني أن موقع وكالة الأمن القومي يقترب. لكن ليس من السهولة تحديد المكان. وتحجب الأشجار والجدران والمناظر الطبيعية المنحدرة رؤية موقع وكالة الأمن القومي، وتمنع الحواجز الإسمنتية ونقاط الحراسة المحصنة ولافتات التحذير الأفراد الذين ليس لديهم تصريح من دخول الأراضي التابعة لأكبر وكالة استخباراتية في الولايات المتحدة.

وفيما وراء جميع هذه العقبات، تلوح في الأفق صفوف من المباني ذات النوافذ المعتمة والمضادة للانفجارات، وفيما وراء هذه المباني يوجد ما يقدر بنحو 30 ألف فرد، الكثير منهم يقرأ وينصت إلى سيل لا نهاية له من المحادثات التي يتم اعتراضها ويقومون بتحليلها على مدار الساعة وفي جميع أيام الأسبوع.

ومن هذا الطريق، من المستحيل أن تشير إلى حجم وكالة الأمن القومي، على الرغم من أن مبانيها تشغل 6.3 مليون قدم مربع، أي ما يعادل حجم البنتاغون، ويحيط بها 112 فدانا من أماكن انتظار السيارات. وعلى الرغم من هذه الضخامة التي تبدو عليها وكالة الأمن القومي، فإن الوثائق تشير إلى أنها في طريقها إلى أن تصبح أكبر فأكبر: ستتم إضافة 10 آلاف عامل على مدار الأعوام الخمسة عشر المقبلة؛ وسيتم تخصيص ملياري دولار لتغطية المرحلة الأولى من التوسع؛ وستزيد الزيادة الإجمالية في الحجم المساحة التي تشغلها مبانيها في مجموعة فورت ميد إلى ما يقرب من 14 مليون قدم مربع.

ويقع مقر وكالة الأمن القومي في قاعدة فورت ميد التابعة للجيش، والتي تضم 80 منظمة حكومية، من بينها الكثير من المنظمات الاستخباراتية الكبرى.

وتضخ هذه المنظمات معا 10 مليارات دولار من الرواتب والعقود في اقتصاد المنطقة كل عام، وهذا الرقم يساعد على تفسير باقي مجموعة فورت ميد، التي تنتشر على مساحة 10 أميال في كل اتجاه.

وفيما وراء محيط وكالة الأمن القومي، تبدأ الشركات التي تنمو خارج الوكالة وغيرها من المنظمات الاستخباراتية القريبة. وفي بعض أجزاء المجموعة، تشغل هذه الشركات والمنظمات الأحياء المجاورة بالكامل. وفي أجزاء أخرى، تشكل مراكز أعمال تمتد على طول ميل ومتصلة بحرم وكالة الأمن القومي من خلال طريق خاص محاط بلافتات «تحذير» صفراء اللون.

والأكبر حجما بين هذه المراكز هو مركز الأعمال الوطني، الذي يحتوي على أبراج زجاجية تشغل مساحة 285 فدانا. ومن يشغل هذه المباني هم المتعهدون، وفي المقار المعروفة والمعلنة يقومون بتقليل وجودهم بصورة متعمدة. لكن في مركز الأعمال الوطني، وهو مكان يجد فيه المتعهدون الآخرون سببا للذهاب إليه، يعد حجم لافتات مكاتبهم كبيرا، وتضيء في الليل بالألوان الأحمر والأزرق والأصفر: وهي شركات «بووز آلين»، «هاميلتون»، «إل 3 كوميونيكيشنز»، «سي إس سي»، «نورثروب غرومان»، «جنرال دايناميكس»، «إس إيه آي سي».

وتحظى أكثر من 250 شركة، أي نحو 13 في المائة من جميع الشركات في «أميركا بالغة السرية»، بحضور في مجموعة فورت ميد. وبعض هذه الشركات لديها مكاتب متعددة، مثل شركة «نورثروب غرومان»، التي لديها 19 مكتبا، وشركة «إس آي إيه سي»، التي لديها 11 مكتبا. وفي المجمل، هناك 681 موقعا في مجموعة فورت ميد، تقوم فيها الشركات بإجراء العمل بالغ السرية.

وداخل المواقع، تجد هناك الموظفين الذين يجب أن يخضعوا لقواعد صارمة. يخضع هؤلاء الموظفون إلى اختبارات كشف الكذب بصورة روتينية، ويوقعون على نماذج بعدم الإفصاح، ويقدمون تقارير مطولة كلما أرادوا السفر إلى الخارج. ويتم تدريبهم حول كيفية التعامل مع الجيران المتطفلين والأصدقاء الفضوليين. ويتم تدريب البعض على انتحال هويات مزيفة.

وإذا شرب هؤلاء الأفراد كثيرا، أو اقترضوا مبالغ ضخمة من الأموال، أو أقاموا علاقات اجتماعية مع مواطنين من دول معينة، من الممكن أن يفقدوا التصاريح الأمنية التي يحملونها، ويعد هذا التصريح هو جواز السفر إلى وظيفة تستمر طيلة العمر بوكالة الأمن القومي وشقيقاتها من المنظمات الاستخباراتية.

والفرص هي أنهم يتفوقون في الرياضيات: لكي تفعل ما تقوم به، تعتمد وكالة الأمن القومي على أكبر عدد من الخبراء في الرياضيات في العالم. وتحتاج الوكالة إلى لغويين وخبراء في التكنولوجيا، وكذلك خبراء في كتابة الشفرات.

والكثير يصفون أنفسهم بـ «الانطوائية مع الحس، والتفكير والحكم»، وهي سلة من سمات الشخصية تم تعريفها في اختبار الشخصية لدى مايرز بريغز، ويعد هذا الاختبار منتشرا في مجموعة فورت ميد.

والنكتة القديمة هي: «كيف تستطيع اكتشاف الشخصية الانبساطية في وكالة الأمن القومي؟ إنه الشخص الذي ينظر بحذر إلى الآخرين».

وقال كين أولمان، المسؤول التنفيذي في مقاطعة هاوارد، وهي واحدة من المقاطعات الست في النطاق الجغرافي للنفوذ لوكالة الأمن القومي «إنهم بعض من أكثر الناس ذكاء في العالم. إنهم يطلبون مدارس جيدة وجودة عالية للحياة».

وفي الحقيقة، تعد المدارس من بين أفضل المدارس، وبعضها يطبق مناهج دراسية في الخريف المقبل ستعلم الطلاب في سن عشر سنوات أنواع نمط الحياة التي تجعلهم يحصلون على بطاقات أمنية وأنواع السلوك التي تجردهم من الأهلية.

وفي الخارج أمام إحدى المدارس تجد الرؤية المظلمة للحافلات المدرسية الصفراء المتراصة من أحد المباني التي يتبادل فيها العاملون من الدول الحلفاء - الولايات المتحدة وبريطانيا وكندا وأستراليا ونيوزيلندا - معلومات بالغة السرية بشأن العالم بأكمله.

وتنقل هذه الحافلات الطلاب إلى أحياء تعد من بين أكثر الأحياء ثراء في البلاد؛ ويعد الثراء سمة أخرى من سمات «أميركا بالغة السرية». وتعد ست من أغنى عشر مقاطعات في الولايات المتحدة في هذه المجموعات، وفقا لبيانات مكتب الإحصاء السكاني.

وتساعد مقاطعة لاودون، التي تصنف بأنها أغنى مقاطعة في البلاد، على توريد القوة العاملة لمقر مكتب الاستطلاع الوطني القريب من المنطقة، والذي يدير أقمار التجسس. وتعد مقاطعة فيرفاكس، وهي ثاني أغنى مقاطعة في البلاد، مقرا لمكتب الاستطلاع الوطني ووكالة الاستخبارات المركزية الأميركية ومكتب مدير الاستخبارات الوطنية. وتضم مقاطعة آرلينغتون، المصنفة تاسع أغنى مقاطعة، مقر البنتاغون ووكالات الاستخبارات الرئيسية. وتضم مقاطعة مونتغومري، وهي عاشر أغنى مقاطعة، مقر وكالة الاستخبارات الوطنية للتصوير والمسح الجغرافي. وتضم مقاطعة هاوارد، وهي ثالث أغنى مقاطعة، 8000 من العاملين بوكالة الأمن القومي.

وقال كينت مينسر، الموظف بوزارة الدفاع الذي يساعد مقاطعة هاوارد على التكيف على النمو في فورت ميد القريبة «لو كان ذلك أحد مصانع شركة (كرايسلر)، لكنا تحدثنا عن (كرايسلر) في صالات البولينغ، وتحدثنا عن (كرايسلر) في اجتماعات مجلس المقاطعة، (كرايسلر)، (كرايسلر). لا يقدر الأفراد الذين ليسوا من القوة العاملة بوكالة الأمن القومي بصورة كاملة تأثير الوكالة على حياتهم». ولا يعد تأثير وكالة الأمن القومي وغيرها من المنظمات السرية في هذه المجموعة تأثيرا ماليا فقط، بل إنها تطغى على تدفق حركة المرور في يوم ما، في الوقت الذي تخرج فيه إحدى السيارات البيضاء المغلقة من ساحة لانتظار السيارات وتدخل في حركة المرور في منتصف اليوم.

ويتبع هذه السيارة البيضاء خمس سيارات أخرى مثلها. وفي كل واحدة، تجد اثنين من عملاء الحكومة في مجال التدريب في الأكاديمية المشتركة السرية للتدريب على مكافحة التجسس يحاولان ألا يضلا طريقهما في الوقت الذي ينتقلون فيه جميعا بسرعة بين طرق محلية وهم يمارسون «مراقبة حذرة»، وفي هذه الحالة، يتبعون أحد المدرسين في دور جاسوس. والوظيفة الحقيقية لهؤلاء العملاء من الجيش وإدارة الجمارك الأميركية وغيرهما من الوكالات الحكومية هي تحديد هوية الجواسيس والإرهابيين الأجانب الذين يستهدفون منظماتهم، وتحديد مواقع الجواسيس في الداخل، وتجميع الأدلة لاتخاذ تحركات ضدهم.

لكن في هذا اليوم، إنهم متدربون متصلون ببعضهم بعضا عن طريق أجهزة استقبال لاسلكية وخرائط للشوارع. ويحضر نحو 4000 عميل فيدرالي وعسكري دورات تدريبية حول مكافحة التجسس في مجموعة فورت ميد كل عام، يمرون بجانب السكان المحليين المطمئنين الذين يقومون بأعمالهم.

وتحمل واحدة من العملاء في إحدى السيارات البيضاء الخرائط على جهاز الكومبيوتر المحمول الخاص بها، في الوقت الذي تتحرك فيه بين التطبيقات بسرعة، في محاولة لمراقبة السيارات الأخرى والمشتبه به، أو «الأرنب»، كما يطلق عليه.

ويقوم عملاء آخرون بإسراع محرك سياراتهم، وينطلقون بسرعات تصل إلى 60 ميلا في الساعة، في محاولة للحاق بالأرنب، في حين يحذر بعضهم بعضا من وجود أفراد الشرطة المحلية، الذين لا يعرفون أن هذه السيارات التي تتحرك في صورة متعرجة على الطريق يقودها عملاء فيدراليون.

وعلى نحو مفاجئ، يتحرك الأرنب بعيدا عن أقرب سيارة للعملاء، ويجتاز الإشارة الصفراء ثم يبتعد عن مجال الرؤية، في حين أن العملاء علقوا في الإشارة الحمراء.

* تحولت الإشارة إلى اللون الأخضر

* «انطلق»، هكذا صاحت واحدة من العملاء بلا جدوى عبر الزجاج الأمامي للسيارة في الوقت الذي تتغير فيه إشارات المرور، والسيارة التي أمامها تنطلق بسرعة. «تحرك، تحرك».

«لقد فقدناه»، هكذا صاح أحد زملائها في الوقت الذي يبذلون فيه قصارى جهدهم للحاق به.

وفي النهاية، أنهى العملاء مراقبتهم الجارية عند محل لبيع الكتب في كولومبيا، حيث عاود الأرنب الظهور مرة أخرى. كان ستة رجال يرتدون قمصانا من القطن وسراويل الكاكي بألوان متعددة يفحصون أرفف المجلات ويسيرون ببطء في الممرات، ويبتعد مدربهم قليلا في محاولة للتخفي. وقال «أصعب شيء هو السلوك»، في حين كان يراقب العملاء وهم يتابعون الأرنب في المحل، المليء بالسيدات والأطفال. «لا يستطيع بعضهم الاسترخاء بما فيه الكفاية للحصول على السلوك والمظهر الصائب.. ينبغي لهم أن يبدو وكأنهم يتصفحون الكتب، لكنهم ينظرون من فوق الكتاب ولا يتحركون».

وفي جميع أنحاء المجموعة توجد أمثلة على كيفية التداخل بين العالم الخفي والعالم العلني. ولدى أحد مطاعم «كويزنوس» في المنطقة الشكل المألوف لأي مطعم آخر في هذه السلسة المنتشرة في جميع أنحاء البلاد، فيما عد الخط الذي يبدأ الإنتاج في الساعة الحادية عشرة صباحا. والأفراد الذين ينتظرون يضعون نظارات شمسية من النوع الذي يفضله الأفراد الذين عملوا في أفغانستان والعراق. والأحذية التي يرتدونها عبارة عن أحذية عالية الرقبة، ولونها لون الرمال في الصحراء. ويعد نحو 40 في المائة من القوى العاملة في وكالة الأمن القومي في الخدمة الفعلية في الجيش، وهذا الفرع من مطعم «كويزنوس» ليس بعيدا عن أحد مواقع العمل لديهم.

وفي جزء آخر من المجموعة، يتحدث جيرومي جونز، أحد السكان المحليين في المنطقة، عن المبنى الذي ظهر على نحو مفاجئ خلف فناء منزله. يقول جيرومي «لقد كانت هذه المساحة أرضا زراعية، ثم بدأوا الحفر في أحد الأيام. لم أكن أعرف ما يفعلونه هناك، لكن ذلك لم يزعجني. لم أكن قلقا بشأن ذلك».

ويعد هذا المبنى، المحاط بسياج ويقع خلف حدود جيرسي، أكبر من ملعب لكرة القدم. لا يحمل المبنى لافتة تعريفية. لديه عنوان، لكن خرائط «غوغل» لا تتعرف عليه. وإذا كتبت الاسم، سيظهر عنوان آخر في كل مرة. قل «6700» عنوان. لا توجد أسماء للشوارع.

وقد يكون بداخل هذا المبنى جوستين وولش، الذي يقضي ساعات كل يوم على أحد السلالم، ينظر بحذر إلى الأسقف الزائفة لأكبر الشركات في «أميركا بالغة السرية». ويعد وولش متخصصا في الأمن الصناعي بوزارة الدفاع، وفي كل مجموعة يوجد شخص مثله، سواء كانت هذه المجموعة فورت ميد؛ أو المتاهة الأرضية من المباني في كريستال سيتي في آرلينغتون، بالقرب من البنتاغون؛ أو مراكز الأعمال فائقة التقنية حول المركز الوطني للاستخبارات الفضائية، الذي يقع في دايتون بولاية أوهايو.

وعندما لا يتواجد على السلم الخاص به، يقوم وولش بعمل تغييرات على ماكينة للتصوير للتأكد من أنها لا تستطيع نسخ الأسرار المخزنة في ذاكرتها. ويقوم باختبار المجال المغناطيسي، وهو مغناطيس ضخم يقوم بمحو البيانات على الأقراص الصلبة السرية. ويقوم بفحص نظام الإنذار، والأسلاك الموصلة به والمصنعة من الألياف البصرية، والشفرة التي يستخدمها في إرسال إشارات إلى غرفة التحكم.

وتنظم الحكومة كل شيء في «أميركا بالغة السرية»: حجم الصلب في السياج، ونوع الحقائب الورقية لإبعاد الوثائق السرية، وسمك الجدران وارتفاع الأسقف العازلة للصوت.

وفي منطقة واشنطن، يوجد 4000 مكتب للشركات تعالج المعلومات السرية، بارتفاع 25 في المائة مقارنة بالعام الماضي، ولدى فريق وولش 220 مبنى في نطاق التفتيش الخاص به. وجميع المباني القائمة تحتوي على أشياء يجب فحصها، ويجب فحص المباني الجديدة من أعلى إلى أسفل قبل أن تسمح وكالة الأمن القومي لأفرادها بالاتصال بها ولو حتى عبر الهاتف.

قريبا ستكون هناك واحدة أخرى في مبنى فورت ميديا، وهو مبنى مكون من أربعة طوابق جديدة، والمقام بالقرب من مجتمع هادئ من المنازل الفاخرة التي يتباهى مالكها بأنها قادرة على التصدي لسيارة ملغومة. ويقول دينيس لان إن مهندسيه وضعوا براغي أكثر من المعتاد في كل عارضة من الصلب لجعل إمكانية ثني الهيكل غير قابلة للحدوث.

أصبح لان، النائب الأول لرئيس شركة «رايان» للعقارات التجارية، شغوفا بكل ما يتعلق وكالة الأمن القومي. وقد عاش الرجل البالغ من العمر 55 عاما وعمل في الظل طوال حياته، وعود نفسه على نموها المتنامي داخل مجتمعه. ومن ثم يعمل على جمع المعلومات الاستخبارية عن الشركات باستخدام شبكته الخاصة من المخبرين. ففي عالمه يأمل المديرون التنفيذيون من أمثاله في اقتناص شركة لا يعلم الكثير من جيرانها أي شيء عنها.

ويدرك أن وكالة الأمن القومي أو المؤسسات السرية الخاصة تستأجر أبنية أخرى، وتستخدم المزيد من المتعاقدين وتوسع من نطاقها لتصل إلى مجتمع الأعمال المحلي. وقد كان يتابع مشروعات الإنشاء وهجر الوظائف وتحركات الشركات. وهو يعلم أن المخططين المحليين يقدرون توافر 10.000 وظيفة مع توسع وكالة الأمن القومي و52.000 إضافية في الوحدات الاستخبارية الأخرى التي تنتقل إلى موقع فورت ميديا.

كان لان على علم بكل الشائعات قبل أشهر من الإعلان عنها، من أن القيادة العسكرية للأمن الإلكتروني الضخمة (القيادة الإلكترونية للولايات المتحدة) سيديرها الجنرال نفسه الذي يرأس وكالة الأمن القومي، وقال «هذا الشيء السيبراني سيكون ضخما، وقادرا على استهلاك كل قدرات المبنى الموجود هناك». كان لان يعلم ذلك لأنه شهد نمو وكالة الأمن القومي في أعقاب 11/9، التي تستخدم الآن 1.7 مليار نوع من الاتصالات التي يتم اعتراضها كل 24 ساعة: من رسائل البريد الإلكتروني والمنشورات على الإنترنت والرسائل فورية وعناوين بروتوكولات الإنترنت وأرقام الهواتف والاتصالات الهاتفية ومحادثات الهواتف الجوالة. وقد شهدت جيني بيرنز التطور ذاته، أيضا. وتتناول بيرنز، سيدة أعمال في مجمع فورت ميد، مشروبا في إحدى الليالي بعد العمل وتومئ باتجاه بعض الرجال الواقفين في جزء آخر من الحانة. وتقول «يمكنني أن أتعرف عليهم، من البذلات وتصفيف الشعر وسلوكهم، فهم يملكون نظرة مريبة ويخشون من أن يسألهم شخص ما حول شخصياتهم. العملاء السريون يأتون هنا أيضا، لمراقبة بعض الأفراد وللتأكد من أن أحدا لن يبوح بما يعلم».

سيسهل على بيرنز معرفتهم، لأنها عاشت مع واحد من هؤلاء العملاء السريين 20 عاما، وكان يعمل لدى وكالة الأمن القومي. والآن يعمل متعاقدا مع الوكالة. وقد أرسل إلى الحرب لكنها لا تعلم المكان الذي ذهب إليه، وتقول «إنه يقوم بأمر مهم لكني لا أعلم ماهيته».

وقالت إنها التقته قبل عقدين، وقد شهدت حياتهما الكثير من التغيرات منذ ذلك الحين، فعندما يخرجون من المنزل مع أفراد آخرين تتصل به مسبقا بحذر شديد، «ولا يرغب في أن يسأله أحد عن طبيعة عمله وإن قام أحدهم بذلك، لا نخرج معهم بعدها مرة أخرى». وتقول عنه إنه «مراقب وفضولي، وهو أمر يزعجني كثيرا فهو لا يصحبني للسفر، ويفكر في أي شيء مثير يمكن القيام به. أنا أشعر بالتعاسة». لكنها تقول أيضا «أنا أحترمه حقا، فقد قضى جل حياته يحاول الحفاظ على هذه البلاد، ولم يحظ بأي تكريم عام».

في الوقت ذاته، خارج المقهى لا يزال المبنى يعج بالحياة، فالأضواء تظل ساطعة هنا، وهناك في مبنى ناشيونال بارك بيزنس وقع بيع مبنى ماريوت كورت يارد كالعادة الذي يشتمل على 140 غرفة، وكان مرتادوه من نوعية الرجال الذين يقولون إنهم «يعملون مع الجيش».

تدخل وتخرج من وكالة الأمن القومي أعداد غفيرة من اخصائيي الرياضيات واللغويات والتقنيين، ومن يرغبون في الخروج من المبنى ينزلون عبر المصعد إلى الدور الأول، كل منهم يحمل صندوقا بلاستيكيا وبداخله مفتاح باب يهتز أثناء المشي، وهو ما يعني تغير النوبات في المبنى.

الموظفون الذين سيبدأون نوبات عملهم يدفعون البوابات إلى الأمام، أما من يغادرون فيدفعون شارات الهوية في فم آلة الباب، فينفتح الباب ثم يخرجون عبر الأبواب الدوارة، ويقودون بحذر عبر الحواجز والبوابات التي تحمي وكالة الأمن القومي ويمر بها رتل كبير من السيارات. إنه منتصف الليل تقريبا في مبنى فورت ميديا، عاصمة أميركا بالغة السرية، المكان الذي لا ينام، والذي ينمو كل يوم.

* خدمة «واشنطن بوست» خاص بـ«الشرق الأوسط»