منتدى أصيلة يناقش علاقة الثقافي بالدبلوماسي.. وطرق ترسيخ ثقافة التسامح

وزراء خارجية سابقون من مختلف الأصقاع تحدثوا عن تجاربهم دون ربطات عنق

عبد الهادي التازي يعرض وثيقة تاريخية خلال الندوة (تصوير: أسامة محمد)
TT

تحدث وزراء خارجية سابقون من أفريقيا وأوروبا وأميركا اللاتينية في أصيلة حول تجاربهم دون تحفظ ودون ربطات عنق عن علاقة «الثقافي والدبلوماسي».

وأجمع المشاركون في محور «الدبلوماسية وتعزيز ثقافة التسامح» من ندوة «الدبلوماسية والثقافة»، التي تنظم ضمن فعاليات موسم أصيلة الثقافي الثاني والثلاثين، وأنهت أعمالها الليلة قبل الماضية، أنه «لا مستقبل للدبلوماسية الثقافية في عالم اليوم ما لم يكن أساسها المحرك هو العدل». وأشاروا إلى أن ترسيخ ثقافة التسامح بين شعوب العالم يقتضي أن يكون لكل منطقة من العالم حقها في التعريف بثقافتها في إطار حوار وتفاعل قائمين على الأخلاق الدولية.

ودعا محمد بن عيسى، أمين عام مؤسسة منتدى أصيلة، إلى التفريق بين الدول التي تؤسس لتواصل ثقافي حقيقي من خلال المراكز الثقافية التابعة لسفاراتها وتمثيلياتها الدبلوماسية، وبين من يستخدم الثقافة لأغراض دعائية تروم فقط تحسين الصورة الخارجية، كما هو الحال بالنسبة للبلدان التي توجد في حالة حرب وتحتل بلدانا أخرى. وأشار بن عيسى إلى وجود تشابه كبير بين الأوضاع في العالم العربي وأوضاع أميركا اللاتينية، لكنه عزا عدم استيعاب العرب لهذه التشابه إلى ما سماه «تقوقع العرب على قضياهم». ودعا أمين عام مؤسسة منتدى أصيلة إلى «إعادة كتابة التاريخ الذي يعلم في المدارس ويعطي انطباعات أن المعارك والحروب هي انتصار بلد آخر، ويتحول ذلك الشعور إلى كره واحتقار، وبالتالي لا يساهم في إقامة ثقافة التعايش والتفاهم بين الشعوب». كما دعا بن عيسى في الجلسة الختامية لندوة «الدبلوماسية والثقافة» إلى ضرورة «التخلص من ثقافة لوم الآخر سواء كان المستعمر أو الحكومة أو الأحزاب»، لكنه قال: «هذا لا يعني تبرئة الآخر، لكن يجب أن نعول على أنفسنا ونتخلص من العقد التي زرعناها في أنفسنا لأن العالم أصبح أفضل مما كان عليه». وأضاف: «إننا عشنا منعزلين بسبب الانغلاق على الذات لاعتبارات دينية واستعمارية ولها علاقة بالتخلف. ويجب أن نترجم الذاكرة ونتذكر الأشياء الإيجابية وكذا السلبية في تاريخنا»، موضحا: «إننا يجب أن نستحضر الماضي لكن لا يجب أن ننغلق فيه». وزاد قائلا: «يجب للتعامل مع الآخر أن نتحدث لغته وبطريقة قوية ونستثمر في الترجمة التي تشجع التبادل الثقافي». وأكد ضرورة إقناع صانعي القرار بدعم الثقافة مثلما يدعمون القضايا المعيشية والبيئية المعتادة. مشددا على أنه «يجب أن نسقط من حساباتنا توظيف الثقافة والتعاون بين دول العالم الثالث»، التي حصرها في الأفروعربي لاتيني، أي بين أفريقيا والعالم العربي وأميركا الجنوبية.

من جهتها، قالت لطيفة أخرباش، الوزيرة في وزارة الخارجية المغربية، إن النهوض بتثبيت الاختلاف وثقافة التنوع والتسامح داخليا وعلى المستوى الدولي لا يمكن أن يتأتى من دون الاحترام المتبادل والانتصار للقضايا العادلة، وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول.

بينما شدد المؤرخ والدبلوماسي المخضرم، عبد الهادي التازي، على ضرورة إعمال الذاكرة التاريخية للدول في مجال علاقاتها بالدول الأخرى، مؤكدا أن «الدبلوماسية تبقى عاطلة مفلسة إذا لم يكن بجانبها ما يشد أزرها من مستندات ثقافية وتراثية». وقدم التازي نبذة حول المدرسة الدبلوماسية المغربية، وإسهامها في الشأن الثقافي، مستحضرا نماذج من الاتفاقيات والمعاهدات والرسائل التي دأب ملوك المغرب على عقدها أو إرسالها إلى نظرائهم في الدول الأوروبية، على الخصوص، قصد إرساء مبادئ إنسانية وحضارية في ما بينها.

وطالب التازي بإنشاء معرض للوثيقة الدبلوماسية الإسلامية والعربية لأن هناك ثروة هائلة من هذه الوثائق. وقال التازي: «يجب أن نعلم أبناء جيلنا ما قام به سابقون في هدا المجال»، وأكد أن «الأجداد كانوا يهتمون بالقضايا التي نعتقد أنها وليدة اللحظة».

من جهته قال لويس أرنستو ديربز بوتيستا، عميد الجامعة الأميركية ووزير خارجية المكسيك السابق، إن بلدان العالم دائما تطالب بحلول محلية لكن المشكلات عالمية. وزاد: «إننا نعيش عصر التحول، ويجب أن ندمج الحلول العالمية في المحلية. لم تعد الحدود تفصل بين المحلي والعالمي وبالتالي المشكلات متداخلة، ومن هنا فالحلول تكون أيضا مترابطة».

وركزت الدكتورة ندى المطوع، الباحثة بمركز الدراسات الاستراتيجية والمستقبلية بجامعة الكويت على دور الدبلوماسية في وقت الأزمات من خلال لغة الفن والموسيقى.

وتحدثت تيريزا أشورينا، السفيرة السابقة ومديرة الشؤون الثقافية الدولية، عن خبرتها في مجال الدبلوماسية الثقافية في الأرجنتين نظرا لتقلدها عدة مناصب ذات طابع ثقافي ودبلوماسي. وقالت إن الأرجنتين لا تملك قوة اقتصادية وعسكرية، لذا ينبغي عليها بناء شبكات تواصل مع دول أخرى لتبرز ثقافتها ومثلها العليا، خصوصا أن وسائل الإعلام الدولية دائما تشير إلى الأرجنتين بكل ما هو سلبي في ما يخص الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، لكن عندما يتعلق الأمر بالثقافة نرى أن هذه الإشارات إيجابية.

واعتبرت تيريزا أن الفن والثقافة يحظيان باهتمام كبير، وهما وسيلتان مهمتان لإعلاء شأن أي بلد. واستعملتها دول مثل إسبانيا وفرنسا وبريطانيا من خلال هيئات ومؤسسات معنية بالثقافة والفن لتقدم صورة زاهية عن ثقافة بلادها وشعبها، في الوقت الذي توجد فه صعوبة لترويج الصورة السياسية. وأضافت تيريزا أن الاعتراف بالآخر عن طريق الثقافة له أهمية حاسمة في أخذ صورة معينة عن شعب، لذا تحاول السياسات أن تنقل الأفضل عن شعوبها خلافا للاقتصاد والدين والسياسة، وتكمن أهمية كذلك في الارتقاء بالهويات وممارسة التأثير وتشكيل توافق بين شعوب العالم.

وزادت قائلة إن الأرجنتين تعتمد كذلك على الفنانين للترويج لصورتها لأن الفنان هو «سفير صامت» لبلاده ويمكنه الترويج لصورة بلاده عن طريق أعماله، إما بشكل فرد وإما جماعي. وأضافت أن الثقافة دائما تعاني مشكلات مادية، لكن رغم ذلك النتائج مشجعة لأن الثروات البشرية متوفرة. بيد أنه لاحظت أن العالم «يواجه عدم الوعي بأهمية الثقافة، وكثيرون يعتبرونها مجرد زينة فوق الكعك على الرغم من أننا لا نتوفر على الكعك»، على حد تعبيرها. وقالت: «ينبغي على الحكومات أن تعي أهمية الثقافة وتتوفر إرادة سياسية لدعمها، ليس فقط من أجل دعم الهوية والترويج لصورة البلد، بل أيضا لجلب موارد مادية عن طريق تشجع السياحة بإقامة المعارض والملتقيات الثقافية».

وقالت تيريزا: «نحن في الأرجنتين لدينا تجربة في هذا الصدد من خلال إعادة الاهتمام برقصة التانغو الذي يجهله الجيل الحديث، فقمنا بعروض لرقصة التانغو، وكان النجاح بارزا فتزايد عدد المزاولين لهذا النوع من الرقص، ولوحظ تطور مهم في صناعة السياحة في السنوات الأخيرة، وبلغ عدد المتفرجين في كل عرض 300 ألف شخص في مدينة بيونس آيرس».

وعبرت تيريزا عن رغبة بلادها في الاستفادة من التجربة المغربية، خصوصا أن الأرجنتين فيها عدد مهم من العرب والمسلمين هاجروا في عشرينات القرن الماضي ورسخوا ثقافتهم هناك. وقالت: «الثقافة العربية من المشرق إلى المغرب موجودة في حياتنا اليومية». وأضافت أنها ترغب في تنظيم مهرجانات في الأرجنتين لأنها مفعمة بالأنشطة الثقافية وفرص التعارف على الإبداع والإنتاج الثقافي للبلد على الرغم من أنها لا تسفر عن نتائج ملموسة على الفور، وانتقدت تيريزا استخدام الثقافة كغطاء للمصالح وإخفاء الحقائق، واعتبرت أن الثقافة قوة ناعمة وليست ضعيفة.

من جهته قال عبد العزيز عبد اللطيف الشارخ، مدير عام المعهد الكويتي الدبلوماسي الكويتي، إن موضوع الثقافة يحظى بأهمية كبيرة في البرامج التدريبية للمعهد، وأضاف أن موضوع الندوة جاء في السياق العام للدور المتميز للمغرب في شتى جوانب الحضارة العربية الإسلامية، وجاءت في توقيتها ومكانها المناسبين. وقال إن التوجه المتزايد «للقوة الناعمة» بدل القوة الخشنة وانحسار دور الحروب التقليدية يضفي المزيد من الأهمية على الثقافة العربية، وقال إن الكويت أدمجت منذ استقلالها الثقافة والدبلوماسية وبذلت مساعي كبيرة للتعرف على ثقافة الآخرين كمدخل طبع لتعزز التعاون معهم. واعتبر أن التفاهم المتبادل من خلال الثقافة برز دورها في دعم السلام، ويعزز التعاون بين الشعوب والدول. وأبرز الشارخ أهمية «أن يكون الدبلوماسي مثقفا ليقوم بدوره على أكمل وجه، وكذا لأن الدبلوماسية يجب أن تسعى لنقل الثقافة، والوعي بثقافة الآخر يسهل الدبلوماسية، ونحن في المعهد لا نأخذ الثقافة كمسلمة، بل نستهدفها في تدريب الدبلوماسي الذي يحتاج إلى أوسع قدر من الثقافة التي تجدد دائما».

وزاد قائلا إن هناك إجماعا على أهمية الترابط بين الثقافة والدبلوماسية، لكن يجب التحدث عما يجب عمله، وأوضح أنهم في الكويت يقومون بطباعة ونشر أمهات الكتب وتوزيعها في المكتبات الجامعات العربية، وكذا تطوير عنصر الترجمة لإثراء المكتبة العربية وإقامة أسابيع ثقافة، وتشجيع السفارات الأجنبية بالكويت، وتقديم منح للطلبة الأفارقة والآسيويين، وتسهيل زيارة الوفود الطلابية الأجنبية واللقاء بالمسؤولين والمؤسسات والمجتمع المدني، وكذا تزويد الطلبة الكويتيين قبل التوجه لمواقع الدراسة ببلدان أجنبية بثقافة البلد الذي يتوجهون إليه، وهذه إحدى وسائل التواصل الثقافي. ونوه الشارخ بدور «مجلة العربي» في مجال الدبلوماسية باعتبارها أحد الفضاءات التي تلتقي فها الثقافات العربية، وأشار إلى أهمية التواصل بين الأوساط الثقافية ومؤسسات المجتمع المدني التي غالبا ما يكون دورها سطحيا في لقائها مع مؤسسات الدول الأخرى.

وركزت ماريا دا كونسيساو، وزيرة الخارجية السابقة في غينيا بيساو، على موضوع التنوع الذي يشكل التراث البشري وبقاءه على قيد الحياة من خلال التسامح والقدرة على التعامل بدبلوماسية، وتبني العلاقة السليمة بين الشعوب. وأضافت أن الثقافة تتطلب موهبة وإن لم تستلهم من قيم الثقافة ستكون فاشلة. وأشارت كونسيساو إلى ضرورة الحوار لأن البشرية تعيش قضايا مشتركة مثل البيئة والفقر والإرهاب. وأشارت إلى أن التثاقف أصبح ضرورة وليس من باب الاختيار، ومساهمة الثقافة في الدبلوماسية الخارجية مهم، والتثاقف أصبح مفتاح النجاح في الدبلوماسية وكذا الاقتصاد.

وفي السياق ذاته قال محمد الحسن ولد لبات، وزير الخارجية الموريتاني السابق، إن الدبلوماسية تعيش متغيرات تنحصر ملامحها في أربع نقاط: أولها الإفراط في العولمة على الرغم من أنها كانت دائما موجودة لكنها أصبحت مبالغا فيها، ثانيا تعدد الأقطاب بدل القطبين السابقين (أميركا وروسيا)، ثالثا قوة الضعف التي تتمثل في العصابات والمافيات حيث أصبحت القوة الرسمية ضعيفة أمامها، رابعا التعارض بن الرهانات الكونية والمحلية المتمثل في الاستنساخ الوراثي والفقر والأزمات المحلة والإقليمية والذاتية المحلية.

وقالت هيلة المكيمي، أستاذة القانون الدولي بجامعة الكويت ومديرة مركز بحوث الأورخليجية، إن أصيلة بدأت تعطي دروسا للعالم العربي الذي يعيش «حالة عطش للاستثمار الثقافي»، وهو استثمار في الإنسان. وأضافت أنه يجب طرح عملي لما يتوجب عمله لتفعيل الدبلوماسية الثقافية من خلال التسامح والاعتراف بالآخر. وشددت على أهمية دور التكتلات الإقليمية والدولية في تنشيط أداة الدبلوماسية الثقافية. وكذلك يجب الاعتراف بدور الآخر في بناء ثقافة عالمية لتفادي تطرف بعض الثقافات مثل الإسلاموفوبيا. وقالت: «هذا مأزق أخلاقي تعيشه جميع الثقافات وليست العربية فقط، ولا يمكننا أن نركز على الثقافة دون الوقوف عند هذه التكتلات، وهي قضية بالغة الأهمية على الرغم من أنها ليست وليدة اللحظة ورغم تواضعها في العالم العربي من خلال الجامعة العربية والمغرب العربي ومجلس التعاون الخليجي، والأخير الأنجح نسبيا». وأرجعت تواضع هذه التكتلات إلى الجانب الجغرافي وفكرة الزعامة الإقليمية، لكن الوضع يفرض أن نتجاوز تلك المعيقات.

وأشارت إلى ضرورة الاستفادة من فئة الشباب الذي يجب أن نعتبره شيئا إيجابيا وليس عبئا. وكذا الاهتمام بالتعليم والتنمية والإدارة الرشيدة وفكرة المواطنة التي هي ليست فقط الانتماء القانوني إلى الدولة، بل هي انتماء ثقافي وطني وإقليمي وأيضا دولي.