الهند: سرعة العصرنة لا تزال تقاوم قوة التقاليد

ألف «جريمة شرف» سنويا.. والمقاهي لا تزال تخصص أكواب الزبائن حسب الطوائف

TT

يعد إس دورايراج بكل المقاييس رجلا عصريا، فهو يقود سيارة، ويستخدم الهاتف الجوال ويتابع الأخبار العالمية. وفي وقت فراغه، يدرس من أجل الحصول على شهادة في القانون. ويعتزم سلوك مهنة المحاماة. لكنه قبل عدة أعوام عندما اكتشف دورايراج (الذي يعمل بصفة مؤقتة كسائق سيارة) أن شقيقته تعتزم الزواج من أحد أعضاء طائفة اجتماعية مختلفة، قام هو ووالداه بقطع علاقاتهم معها. وتعيش هذه الشقيقة الآن في منزل منفصل مع زوجها وطفليها. ولا يعرف هؤلاء الأطفال أجدادهم من ناحية الأم.

في نواح كثيرة، أصبحت الهند أكثر تشابها بالولايات المتحدة، حيث أصبحت أكثر نشاطا وتفاؤلا وثقة بالنفس، وأكثر طموحا بصورة معلنة. فقد أصبحت هذه الدولة أكثر مادية أيضا، حيث انغمست في النزعة الاستهلاكية والديون على غرار ما يحدث في الولايات المتحدة. فعندما تزور أي مدينة صغيرة اليوم، سترى أن هناك عددا كبيرا من مراكز التسوق والأسماء التجارية والحانات والمطاعم، التي تدار جميعا من قبل جيل جديد.

لا يشعر الجميع بالسعادة بهذه التغييرات. لكن لا ينكر أحد أن قبول البلاد للرأسمالية يمثل انقلابا لافتا عن التقشف الاشتراكي الذي اتسمت به هذه الدولة خلال معظم تاريخها فيما بعد الاستقلال.

وفي مختلف الأحوال والظروف، من الإنصاف القول إن الهند، شأنها شأن دورايراج، أصبحت دولة عصرية بدرجة أكبر. إنها أقل تشبثا بإنجازات حضارتها القديمة، وتنظر بفخر وترقب إلى النجاحات المستقبلية لما يعتقد كثيرون أنه القرن المقدر له أن يكون قرنا هنديا.

في الماضي كانت الهند تشعر بالعزلة، واليوم، صارت قوة عالمية، وتساعد مصالحها وتحركاتها على تحديد الوضع العالمي المعاصر. لكن هل تعد الهند دولة عصرية حقا؟ في كتاب «الحداثة الخاطئة»، المنشور قبل عقد من الزمان، شكا عالم الاجتماع ديبانكار غوبتا من «التأثير السيئ للغرب» على النخبة في الهند. وكان غوبتا يشير إلى نسخة سطحية من الحداثة، التي كان يعتقد أنها متجذرة في البلاد، وهي النسخة التي تنطوي على عادات استهلاكية وأنماط حياة غربية، أكثر من التمسك بمجموعة عالمية ومتسامحة من القيم والقواعد الديمقراطية.

فعلى سبيل المثال، أشار غوبتا إلى استمرار التحيز الطائفي، والتقاليد القمعية وعدم المساواة التاريخية في دولة يزداد فيها امتلاك الغسالات الكهربائية والسيارات وغيرها من الزخارف المادية للرأسمالية العالمية. وقال إن الهند في نواح كثيرة تعد دولة غير عصرية.

لقد تغيرت الأمور كثيرا منذ أن ألف غوبتا هذا الكتاب. بيد أن الهند لا تزال دولة يعيش معظم السكان فيها في أوضاع تشبه أوضاع العصور الوسطى تقريبا، حيث إنهم يعانون الفقر المدقع والقمع، ويحدث ذلك غالبا باسم الطوائف الاجتماعية أو الديانة أو الجنس. في شهر يونيو (حزيران) الماضي، ذكرت صحيفة «إيشن إيدج» أن ما يقدر بنحو ألف «جريمة قتل متعلق بالشرف» تحدث في البلاد كل عام، ويرجع السبب في الكثير منها إلى العداوة التي تولدت عن طريق الزواج بين الطوائف الاجتماعية المختلفة.

وفي أسر كثيرة، يتعامل الآباء مع الفتيات كأنهن أعباء، ويتم إعطاؤهن مقدارا من الطعام أقل من أشقائهن من الذكور، ويجبرن على ترك التعليم في سن مبكرة، وعلى تأدية وظائف حقيرة مثل خادمات، بحيث يستطعن المساهمة في المهور العالية التي سيتعين على الآباء دفعها من أجل زواجهن.

وتحتفظ بعض المقاهي في الهند بأكواب معينة لزبائنها، حيث تخصص مجموعة من الأكواب لطائفة «الداليت»، ومجموعة أخرى للطوائف الأرقى الذين يخشون التلوث إذا استخدموا الأكواب نفسها التي يستخدمها «الداليت». وبالطبع، لا يبعد استمرار مثل هذه العادات الهندية القديمة عن صفوف الدول العصرية، فالحداثة وضع معقد، حيث إنه يسمح بكل تأكيد بمساحة وفيرة لبقاء القديم داخل الجديد.

ومن الممكن تحديث القديم أيضا، وتحويله إلى حديث. ويعتقد في الغالب، لكن ليس بصورة دقيقة، أن موهنداس غاندي كان متمسكا بالتقاليد، لكن من المفيد استذكار أن جزءا من مشروعه كان تحديث الهندوسية عن طريق إزالة نظام الطوائف الاجتماعية وغيره من أشكال الاضطهاد.

والنقطة اللافتة هي أن الحداثة مقسمة إلى طبقات، وتعرف بأنها حالة ذهنية أكثر من كونها ولاء لاتجاهات معاصرة أو أنماط استهلاكية. وكما قال الفيلسوف والناقد الاجتماعي الألماني تيودور أدورنو: «تعد الحداثة فئة نوعية، وليست زمنية». ولعل السؤال المتعلق بهذا الأمر لا يكون: هل تعد الهند دولة حديثة أو عصرية؟ لكن ما هو شكل الحداثة في هذه الدولة؟

أشار بعض العلماء، وعلى رأسهم بنجامين فريدمان في كتاب «العواقب الأخلاقية للنمو الاقتصادي»، إلى أن التنمية الاقتصادية تكون في الغالب مصحوبة بقدر أكبر من التسامح، والتزام متزايد بالديمقراطية والحراك الاجتماعي. وبالتأكيد هناك دلائل، حتى وإن كانت في بعض الأوقات عابرة، على مثل هذا الأمر في الهند. ومع ذلك، يبدو أن النمو الاقتصادي في البلاد قد تسبب في الغالب في التدافع نحو الاستحواذ المادي الذي لا علاقة له بالديمقراطية وغيرها من الغايات النبيلة.

ومن المحتمل أن تتسم الأعوام القليلة المقبلة بنوع من الصراع المتأرجح بين هاتين النسختين من الحداثة. وفي الحقيقة، تشعر الهند، بكل تاريخها القديم، بأنها في حالة عمل مستمر، وتدور في دوامة من الغموض بشأن هويتها.

وسيؤثر نوع الحداثة الذي تختاره في النهاية على مستقبلها، وعلى مستقبل الدول النامية في جميع أنحاء العالم، التي ينظر معظمها إلى المثال الذي ضربته الهند، إلى جانب الصين، لتوجيهها إلى الخروج من دائرة الفقر. لكن يجب العودة إلى السؤال الأول: هل تعد الهند دولة حديثة أو عصرية؟ كتب ألبرت أينشتاين ذات مرة ليعبر عن إعجابه بالأميركيين، قائلا إنهم أناس «يصبحون دوما، ولا يكونون». واليوم، بصورة أقل في الولايات المتحدة، وبصورة أكبر في سعي الهند الحثيث لتعريف الذات، يشعر الواحد بهذا المعنى من التجديد الدائم والطاقة والقوة الدافعة إلى الأمام.

وإذا كانت الحداثة تعرف بأنها الانفتاح على التغيير، والقدرة على استيعاب الجديد والرغبة في التخلص من الماضي، فإنه من المعتقد أن الإجابة عن هذا السؤال هي: نعم.

* خدمة «نيويورك تايمز»