عمال الإغاثة القتلى في أفغانستان راحوا ضحية إخلاصهم

مؤسساتهم تتعهد بمواصلة العمل.. وعائلاتهم تنفي عنهم تهمة التجسس

TT

ربما كان الدليل الأصدق على إخلاصهم، أنهم تركوا وراء ظهورهم وظائفهم التي تدر عليهم ما يوفر لهم عيشة رغدة للقيام بالمهمة التي نذروا أنفسهم من أجلها. ترك الدكتور توماس إل غرامز (51 عاما) عيادة الأسنان التي يملكها، وتركت الدكتورة كارين وو (36 عاما) راتبها المميز كجراحة، أما شيرل بيكت (32 عاما) فلم يكن لديها من الوقت للرفقة أو الزواج.

ضحى أفراد هذه المجموعة التي قتلت في شمال أفغانستان الأسبوع الماضي (6 أميركيين وألماني وبريطاني وأفغانيان) بأمنهم في مقامرة محسوبة رجحت فيها كفة المخاطر على توزيع النظارات الطبية وفرش الأسنان ومسكنات الألم ورعاية الأمهات في القرى البعيدة التي كانوا يصلون إليها مشيا على الأقدام.

ويقول ديرك فرانز، المدير التنفيذي لبعثة المساعدات الدولية التي نظمت الرحلة، إنه ناقش المخاوف الأمنية والسلامة لزيادة حجم المجموعة وعدد الأجانب بها. لكن قائد الفريق توم ليتل، الذي عمل لمدة 35 عاما في أفغانستان كان يشكو من نقص الأيدي العاملة اللازمة لعلاج المرضى. ودافع تشارلز بيكيت، والد أحد الضحايا، عن تضحيات زملاء ابنته: «هؤلاء أشخاص أذكياء. ليسوا سذجا أو غير متعلمين، بل كان لديهم إدراك بطبيعة مهمتهم في تقديم الرعاية الطبية في هذه المناطق الخطرة».

وعلى الرغم من فظاعة الحادث تعهدت منظمات المساعدات، أول من أمس، بمواصلة العمل، فقال عايد أيوب، المدير التنفيذي لمنظمة الإغاثة الإسلامية في الولايات المتحدة الأميركية عن الحادث: «إنها أسوأ جريمة تستهدف عمال الإغاثة تقع في أفغانستان. ولا توجد لدينا خطط الآن لخفض نطاق عملنا أو أعضاء فريق العمل في أفغانستان».

بيد أن الهجمات عززت المخاوف حول تدهور الموقف الأمني في أفغانستان. وقد تبنت طالبان وجماعة أخرى مسؤوليتها عن الحادث، واتهمت حركة طالبان عمال الإغاثة بالتجسس ومحاولة نشر المسيحية.

كانت أعمال العنف ضد عمال الإغاثة الأجانب قد شهدت تصاعدا خلال عامي 2007 و2008 ثم عادت إلى التراجع خلال العام الماضي، مع تدهور الأوضاع خاصة في المناطق الريفية، وقد حذرت جماعات الإغاثة. وخلال النصف الأول من عام 2010 قتل 17 عامل إغاثة من الأفغان والأجانب، إلى جانب اختطاف 19، لكن الهجمات على المنظمات غير الحكومية انخفضت بنسبة 35 في المائة مقارنة بالفترة ذاتها من العام الماضي.

المجموعة التي تعرضت للهجوم كانت عائدة من رحلة أمضت خلالها ثلاثة أسابيع في إقليم نورستان وكان بين صفوفها اثنان من قدامى عمال الإغاثة في أفغانستان هما: ليتل (61 عاما) وهو طبيب عيون، وقائد المجموعة، دان تيري (64 عاما) وكانا قد وصلا إلى أفغانستان في السبعينات، وقد قام ليتل وزوجته ليبي برعاية ثلاث فتيات هناك.

واجه ليتل مقاتلي طالبان في الكثير من المناسبات في خيمة العيون والبعثات الأخرى التي كان يقوم بها إلى المناطق الريفية وأبلغ أصدقاءه بأنه دائما ما يحمل زجاجة من قطرة العيون المسكنة في حال طلب المقاتلون العلاج لمشكلات العيون حتى يتمكنوا من تخفيف آلامهم، على الأقل لفترة مؤقتة.

ورغم أن الكثير من الضحايا كانوا مسيحيين ويعملون لمنظمات مسيحية، فإن أصدقاءهم وعائلاتهم نفوا اتهامات طالبان بأنهم جواسيس أو منصرون. كان الكثير من العمال قد قاموا برحلات حول العالم في مهمات إغاثة. فقد سافر الدكتور غرامز في رحلات بعربة يجرها الثيران إلى قرى على نصف ارتفاع جبل إفرست يحمل معه معداته. وفي أفغانستان تعلم آداب السلوك الخاصة بالبرقع حتى يتمكن من العمل على أمراض الأسنان مع النساء اللائي قد لا يزرن طبيب الأسنان طوال العمر.

وتفيد لوري ماثيوز، مؤسسة منظمة «غلوبال دنتال ريليف» (مقرها دنفر في الولايات المتحدة)، التي عمل معها الدكتور غرامز غالبية وقته، بأنه تخلى عام 2007 عن عمله المربح في دورانغو في ولاية كولورادو لمعالجة المرضى في المناطق النائية المحرومة من هذه الخدمة. أما الطبيبة البريطانية، كارين وو، فلديها روح المغامرة نفسها، إذ تدربت في سن السادسة عشرة على الرقص المعاصر ثم عملت بعد ذلك في سيرك، وفي سن الثانية والعشرين دخلت كلية الطب وبعد تخرجها تطوعت للعمل في جنوب أفريقيا وأستراليا وبابوا نيو غينيا وترينداد وتوباغو. وقبل عامين وبعد زيارة صديق في كابل تركت عملها الذي تجني منه 150 ألف دولار سنويا للانتقال إلى أفغانستان. كانت هناك تربي بعض السلاحف وتنظم عروض الأزياء لجني الأموال من أجل الأعمال الخيرية، وكانت على بعد أسابيع من زواجها. لكن عملها الطبي هو الذي شغل حياتها، فقالت والدة خطيبها لصحيفة «صنداي تايمز» في لندن إن الدكتورة وو كانت مصممة على القيام بجهد أكبر لتعزيز حقوق المرأة في أفغانستان بعد علاجها لفتاة تبلغ من العمر 14 عاما تعرضت للحرق لرفضها الزواج من رجل كبير.

وفي مارس (آذار) كتبت الدكتورة وو على مدونتها تحت عنوان «محبطة للغاية»، بعد يومين من تقدم رجال أفغان للعلاج: «يقولون إنهم يرون النساء جنسا ثالثا، وقد بدأت أشعر بذلك الآن بقوة. أشعر بأنني غريبة في موقفي وفي تنشئتي!».

أما بيكت (32 عاما) فقد جابت العالم هي الأخرى في رحلات عادة ما تكون ممولة من الكنيسة، قبل انتقالها إلى أفغانستان قبل ست سنوات. عملت في مستوصفات النساء في أفغانستان وكانت تزرع حديقة خضراوات وحاولت إقامة متنزه على الجانب الشرقي من كابل التي مزقتها الحرب. وكتبت: «كما ترى، فالأفراد الذين أعمل معهم يرغبون في شيء يمكن أن يساعدهم في النجاة، شيء يمكنهم استغلاله». وقال زوجها إنها تلقت دعوة للقيام برحلة استكشافية إلى إقليم نورستان في البداية كمترجمة لأنها تتحدث اللغة الدارية بطلاقة.

دانييلا باير (35 عاما) كانت ابنة وزير، وكانت تجيد اللغة الدارية، ويتذكر بيري غروس، رئيس مجلس الكنيسة في الجالية وتسغنسدورف في ألمانيا حيث كانت عضوة، إنها كانت امرأة متدينة للغاية تعمل على ترجمة النصوص إلى اللغات الأفغانية وكانت خجولة إلى حد ما، فلم تكن الشخص الذي يتباهى بذاته.

غرين دي لاب من لانكستر في ولاية بنسلفانيا (40 عاما) كان ممرضا يدير برنامجا للعناية بالعيون كتب إلى أهله يقول لهم عن محاولته القيام ولو بجهد ضئيل في هذا الجزء من العالم. أما بريان كارديلي (25 عاما) من هاريسونبورغ في ولاية فرجينيا، فهو مصور فيديو وعمل في أفغانستان منذ سبتمبر (أيلول) 2005، وقد قام بنشر صوره على الإنترنت.

ويقول جيه دي باتون، أحد قادة كنيسة كارديلي: «العمل الطبي بين القرى باستخدام عربة تجرها الثيران مجهد للغاية، وتجربة غاية في الصعوبة تتضمن تسلق الجبال وخوض الأنهار وأمورا أخرى من هذا القبيل». كان من بين القتلى المساعدان الأفغانيان، أحمد جواد الذي كان طاهي المجموعة، والذي كان العائل الوحيد لعائلته المكونة من زوجة وثلاثة أولاد وعائلة كبيرة وكان معروفا في الحي بامتلاكه 500 شريط تسجيل كان يقوم بتشغيلها في الأعراس والمناسبات. أما الأفغاني الثاني فهو مهرام علي (51 عاما) فكان يعول طفلين معوقين براتبه الشهري 150 دولارا. وقال عبد الباقي، شقيق جواد، عن القتلة: «إنهم كفار، ليسوا بشرا ولا مسلمين. لقد قتلوا أخي دون حكم أو محكمة أو حتى تحقيق معه!». وعندما شاهد عبد الباقي الجثة في مشرحة المستشفى قال إنه قتل برصاصة واحدة. وقال له أطباء المشرحة إنها أطلقت من مسافة قريبة على القلب.

* خدمة «نيويورك تايمز»