روسي يعيش نادما في منفاه: لست جاسوسا للأميركيين

سجنته روسيا 11 سنة وأطلقته بموجب صفقة مع واشنطن

إيغور سوتياجين أمام المتحف البريطاني في لندن («نيويورك تايمز»)
TT

يمكنك وصفه بأنه الجاسوس الذي يريد العودة إلى بلاده مجددا. لكن إيغور سوتياجين يصر على أنه ليس جاسوسا. ويحذره أصدقاؤه من العودة إلى البلاد مرة أخرى. وقال: «الجميع باستثناء واحد فقط نصحوني بالهروب من هذا البلد».

هذا البلد هو روسيا، التي كان رهن الحبس بها منذ 11 سنة بتهمة العمل مع شركة استشارات بريطانية وصفتها موسكو بأنها إحدى واجهات وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية (سي آي إيه). وقد جرى إطلاق سراح سوتياجين من أحد السجون الروسية الشهر الماضي في صفقة مثيرة لتبادل الجواسيس رتبها رئيس الولايات المتحدة على الرغم من أن أميركا أنكرت أنه كان جاسوسا.

وكان أمام سوتياجين عقد من الزمان ليفكر بشأن الأمور التي أخفق فيها، وكيف أن إرسال معلومات حول الجيش الروسي تم جمعها من الصحف إلى الأجانب من الممكن أن يمثل تهمة بالخيانة. لكن خلال الأسابيع الماضية، ومنذ أن أطلق سراحه هو وثلاثة سجناء آخرين مقابل الإفراج عن 10 عملاء روس في فيينا، بذل سوتياجين جهودا كبيرة للتعامل بفاعلية مع تحريره المفاجئ ودوره في قلب صفقة جغرافية سياسية تهدف إلى الحفاظ على تحسن العلاقات بين الولايات المتحدة وروسيا.

تم إعطاء سوتياجين، الذي جرى إرساله إلى لندن، ملابس جديدة و3000 دولار، ثم تُرك ليفعل ما يريد من دون مساعدة أو محاولة لكبحه، إنه رجل من عصر مضى خرج من العزلة الباردة في أحد السجون البعيدة بالقرب من القطب الشمالي ليكتشف عالما جديدا وسريعا. لم يلتق بأسرته بعد. إنه لا يشعر بأنه في وطنه في لندن، وقال إنه بكل بساطة استبدل سجنا بآخر. وقال سوتياجين: «أتذكر جيدا ما قاله سولجينيتسين. لقد قال: إن حلمي الأكبر هو الاستيقاظ في أحد الأيام وأجد نفسي رجلا حرا في بلد حر. لذا فذلك أحد الأسباب التي تدفعني للعودة إلى بلادي واكتشاف ما إذا كنت أستطيع الاستيقاظ لأجد نفسي رجلا حرا في بلد حر، لأنه من دون ذلك، تصبح حريتي غير مكتملة». لكنه يخشى أن تكون روسيا كذلك: مجتمعا أصبح أكثر انغلاقا منذ أن ذهب بعيدا. وقال: «على مدار 11 عاما، كان لدي الشعور بأن الناس الذين شهدوا الحرية الأكثر اكتمالا هم الأفراد الذين كانوا وراء القضبان. إنه أمر محزن للغاية. إنك تفقد سلاما من أجل آخر. لا أعرف ما إذا كان الأمر هناك يشبه ذلك، لكن يجب علي العودة لاكتشاف الأمر».

يبدو سوتياجين، 45 عاما، شخصية غير مرغوب فيها في دراما سيطرت على العالم لفترة وجيزة. في حين أن الرجال الثلاثة الآخرين الذين أفرجت عنهم روسيا كانوا ضباطا في الاستخبارات، فإن سوتياجين كان عالما ولم يكن لديه على الإطلاق تصريح أمني. وأثناء مقابلة استمرت سبع ساعات في لندن الأسبوع الحالي، أنكر سوتياجين بشدة انخراطه في أعمال التجسس. وقال بصوت هادئ لكن قوي: «لا، بالطبع لست جاسوسا. بالطبع لست جاسوسا». وبدا مرتبكا عندما وصف الضغوط لتوقيع بيان يقر فيه بغير ذلك الشهر الماضي عندما طالب الأميركيون بإطلاق سراحه. وقال: «إنها صفقة بسيطة للغاية: تقدم شرفك مقابل الحصول على الحرية. لولا أسرتي، لاخترت المكوث هناك».

وقالت وزارة الخارجية الأميركية صراحة إن سوتياجين لم يكن جاسوسا أميركيا، وهي التبرئة التي لم تقدمها للثلاثة الآخرين. وقال ستة مسؤولين بالحكومة والاستخبارات الأميركية من ثلاث إدارات على نحو غير معلن إنهم لا يعتقدون أنه كان جاسوسا. إذن، لماذا طالب الأميركيون بإطلاق سراحه؟. وصف البيت الأبيض الأمر بأنه لفتة إنسانية. وأعلنت منظمة العفو الدولية منذ فترة طويلة أنه سجين سياسي، وقامت الولايات المتحدة في الماضي بمبادلة جواسيس بمنشقين.

كان سوتياجين في أوج شبابه في الوقت الذي انهار فيه الاتحاد السوفياتي، وعرف الأميركيين في تسعينات القرن الماضي. وعندما كان باحثا زائرا في جامعة ستانفورد الأميركية، التقى بأساتذة مثل كوندوليزا رايس، التي أصبحت وزيرة الخارجية أثناء فترة رئاسة الرئيس الأسبق جورج دبليو بوش، ومايكل ماكفول، كبير المستشارين لدى الرئيس أوباما لشؤون روسيا.

وكباحث شاب في مجال الأسلحة في معهد الدراسات الأميركية والكندية في موسكو، حضر سوتياجين مؤتمرا في برمنغهام بإنجلترا، والتقى ممثلين من شركة «ألترناتيف فيوتشرز»، وهي شركة بريطانية تقدم الاستشارات للمستثمرين في روسيا. تعاقدوا معه مقابل راتب شهري قدره ألف دولار. وفي المقابل، قال إنه قدم تحليلات قائمة على مصادر عامة مثل الصحف والبيانات الحكومية.

وفي شهر أكتوبر (تشرين الأول) 1999، أي بعد شهرين من تولي فلاديمير بوتين، وهو كولونيل سابق بالاستخبارات الروسية، رئاسة البلاد وبدأ استعادة سلطة الخدمات الأمنية، واجه سوتياجين تهمة الخيانة. وعلى الرغم من أن الأمر استغرق خمس سنوات من جهاز الاستخبارات الروسية وتطلب التفافات قانونية غير عادية لإثبات التهمة، فإنه ظل في السجن طوال الوقت.

رفض القاضي الأول القضية لأنها كانت غامضة للغاية. وبعدما أعاد جهاز الاستخبارات الروسي القضية مرة أخرى، جرى استبدال قاض ثان وعضو هيئة محلفين على نحو مفاجئ في منتصف المحاكمة. ورفض القاضي الثالث أن يدع القاضي الجديد يقرر ما إذا كانت المعلومات التي قدمها سوتياجين سرية في الحقيقة أم لا؛ وحُكم عليه بالسجن لمدة 15 عاما. وفي المقابلات التي أجريت معه، أعطى سوتياجين مثالين على المعلومات التي كان يقدمها. أحد التقارير التي كتبها حول مشكلات في نظام التحذير المبكر لروسيا، كان تضمن معلومات نشرت في صحيفة «واشنطن بوست». واستند تقرير آخر حول إنشاء وحدات عسكرية جديدة إلى بيانات عامة من مسؤولين بوزارة الدفاع نُشرت في صحيفة «ريد ستار»، وهي الصحيفة العسكرية الرسمية. هل كانت الشركة البريطانية الغامضة إحدى واجهات وكالة (سي آي إيه) حتى لو لم يكن يعرف ذلك؟ هذا هو الأمر الذي لم يكن سوتياجين متأكدا منه. وقال: «لست متخصصا في مكافحة التجسس، لذا لا أستطيع أن أخبرك أي شيء عن ذلك». لكنه أضاف: «ما هو نوع الخدمة الاستخباراتية التي تهتم بمعلومات تم نشرها في صحيفة (واشنطن بوست) قبل ستة أشهر؟». وعلى مر السنين، قال سوتياجين إن السلطات أقرت له على نحو غير معلن بأن القضية كانت وهمية. ونقل عن أحد المحققين قوله: «بالطبع، أدرك ذلك. لكن إذا اعترفنا بذلك وتركناك تذهب، سنأخذ مكانك وراء القضبان». وأخذته ملحمته في السجن إلى أربعة معسكرات، كان آخرها في أقصى الشمال بالقرب من أرخانجيلسك. وأثناء وجوده في السجن، كبرت بناته، واحدة عمرها 18 عاما والأخرى 20 عاما، ومرض والده. وفي 5 يوليو (تموز) الماضي، وفي الوقت الذي كان يستريح فيه من تشييد أحد الممرات، أسرع إليه أحد المسؤولين بالسجن، وقال له: «اجمع الأشياء الخاصة بك بسرعة. ستخرج من هنا».

تم نقله إلى سجن ليفورتوفو في موسكو، حيث أعدت السلطات قائمة بممتلكاته بالتفصيل الروسي النموذجي: 23 زرا احتياطيا، 17 مشبك أوراق، 106 بطاقات بريدية، و74 مظروفا. وعندما تم إخباره بأن يرتدي قميصا وربطة عنق للتصوير الفوتوغرافي، بدأت تنتابه الشكوك. ثم نقل إلى مكتب مدير السجن، حيث أخبره ثلاثة مسؤولين أميركيين واثنان من المسؤولين الروس أن رؤساءهم اتفقوا على إطلاق سراحه.

قاوم ذلك، ولم يقبل التوقيع على طلب رأفة يشمل الاعتراف، ولم يكن يرغب في مغادرة روسيا. لكنه أدرك أن الأمر كان خارجا عن سيطرته. وقال: «لقد كنت بين المطرقة والسندان، وإذا لم أوقع، كانت المطرقة والسندان سيسحقانني».

تم وضع سوتياجين على متن طائرة روسية مع ثلاثة سجناء آخرين أقلتهم إلى فيينا. وفي الوقت الذي نزلوا فيه من الطائرة، أعطاهم مسؤول روسي التعليمات: لا تقولوا كلمة واحدة، ولا تنظروا حولكم، ولا تنظروا إلى السجناء الآخرين، ولا تقوموا بأي إيماءات.

قام بتحيته مسؤول أميركي تعرف عليه من سفارة موسكو في تسعينات القرن الماضي، وهي الفترة التي كان فيها في اتصال مستمر بالأجانب. وبمجرد الصعود إلى الطائرة بأمان، طلب سجين آخر الشراب وكان هناك تبادل أنخاب. وعندما هبطت الطائرة في بريطانيا، نزل مع سجين آخر، بينما واصل السجينان الآخران رحلتهما إلى الولايات المتحدة، وهو القرار الذي قال إنه لم يكن له دور فيه. نقله البريطانيون إلى أحد الفنادق في بادئ الأمر. وقال إنه لم يكن هناك أي اتصال مع الأميركيين.

واليوم، يمكث سوتياجين مع أصدقاء أحد أصدقائه. يتحدث عبر الهاتف مع زوجته في روسيا كل يوم ويريد منها أن تزور لندن قبل أن يعود إلى بلاده. لديه جواز سفر روسي وعفو رئاسي، لذا لا توجد أي عقبات قانونية أمام عودته، سوى تحذيرات من أصدقائه.

كتب سوتياجين كتابا يحتوي على 46 قصة ساخرة في السجن ويريد نشره. يستمتع بالسباحة في البحر والسير في الغابات وتناول البطيخ. وكان برنامج «سكايب» شيئا مثيرا للدهشة له. وأثناء السير تحت المطر في أحد الأيام، أعرب عن دهشته لوجود أماكن لتأجير الدراجات في لندن.

وكان الاكتشاف المفضل بالنسبة إليه هو برنامج «غوغل إيرث»، والذي يتجول في روسيا السرية بصورة لم يتمكن جاسوس من فعلها من قبل. واستخدم هذا البرنامج للعثور على منزله خارج موسكو. لكنه لم يكن متأكدا مما إذا كان هذا المنزل هو المنزل الذي يقع على اليسار أم اليمين. لذا، بدلا من ذلك أنشأ معسكر السجن الخاص به. لم يكن لديه أية مشكلات في تحديد كل مبنى. وتنهد قائلا: «لا توجد راحة. لقد أصبح الأمر أكثر سهولة، لكن لم ينته بالنسبة لي».

* خدمة «نيويورك تايمز»