المباني التراثية في بيروت في طريقها إلى «الانقراض»

في ظل عدم إقرار قانون لحمايتها وطمع أصحاب النفوذ والمال

قصر أول رئيس للجمهورية اللبنانية بشارة الخوري الذي صنف ضمن المباني التراثية («الشرق الأوسط»)
TT

تضمحل مباني بيروت التراثية شيئا فشيئا لتنتصب على أطلالها الأبراج الشاهقة والأبنية الفخمة ضاربة بعرض الحائط هوية هذه العاصمة وتاريخها وحضارتها. هي حركة عمرانية تقضي على ما تبقى من معالم هذه المدينة في غياب أي رادع قانوني حاسم رغم جهود المجتمع المدني منذ أكثر من 14 عاما من دون الوصول إلى أي نتيجة في ظل سيطرة أصحاب المال والنفوذ. أمام هذا الواقع المتردي تشهد الفترة الأخيرة تحركات لمواجهة «هذه الهجمة»، وكانت الخطوة الأولى إدراج موضوع حماية الأبنية التراثية في البيان الوزاري للحكومة الحالية ولكنه لغاية اليوم لا يزال يرقد في أدراج اللجان النيابية المشتركة تمهيدا لمناقشته ثم إقراره في مرحلة لاحقة، لكن يبدو أن المخاض سيكون عسيرا على غرار مشاريع قوانين أخرى اجتماعية وسياسية. وبالتالي فإن «الوقت الضائع» يضع مبان تراثية عدة تحت مجهر الطامعين لتوسيع مشاريعهم، وخير دليل على ذلك أن وزير الثقافة سليم وردة أقدم على إيقاف هدم 14 مبنى تراثيا من بينها منزل السيدة فيروز الذي اشترته بلدية بيروت لتحويله إلى متحف، بحسب ما قال لـ«الشرق الأوسط»، بعد أقل من سنة على توليه مهامه في الوزارة.

ورغم تشكيل لجنة برئاسة الوزير وردة لوضع ملف كامل عن هذا الموضوع، فلم تبدأ فعليا عملها لغاية الآن، مع العلم أن الأرقام التي تكشفها الدراسات تظهر اختلافا واضحا في عددها بين دراسة وأخرى. فقد أنجزت جمعية «أبساد» دراسة في عام 1996 كشفت أن هناك 1051 مبنى تراثيا في مدينة بيروت، وفي العام نفسه قلصت الدراسة التي أنجزتها «DGA» العدد إلى أن وصل إلى 459 مبنى، وفي عام 1998 أجرت شركة «خطيب وعلمي» الهندسية بطلب من الحكومة اللبنانية دراسة جديدة وزعت المباني على 5 فئات استثنت منها فئتي «D» و«E» اللتين تضمان 230 مبنى معتبرة إياها تفتقد إلى المعايير الهندسية ولا تعدو كونها تعود إلى خمسينات أو ستينات القرن الماضي. مع العلم أن النائب محمد الحجار أكد أن أكثر من 140 مبنى تراثيا تم هدمها في بيروت.

في المقابل، ترى المهندسة المعمارية منى حلاق من جمعية «أبساد» أن أهم الأسباب التي تجعل البيوت التراثية «تنقرض» تدريجيا هي القوانين القديمة التي لم تخضع لأي تعديلات تحفز أصحاب البيوت للاحتفاظ بها، وبالتالي فإن قانون الإيجار القديم الذي لا يسمح للمستأجر الذي يقطن في البيت منذ عشرات السنوات بإخلائه إلا بداعي الهدم أو لضرورة عائلية يجعل صاحب البيت يلجأ إلى هذا الخيار بدل بقاء المستأجر مقابل مبلغ زهيد من المال. وفي حين قد يتمكن المالك من استعادة بيته إذا قرر ترميمه، تكمن المشكلة في عدم امتلاكه المبلغ الكافي، إضافة إلى «ضريبة الأملاك المبنية» المرتفعة التي تترتب عليه. وفي حال وفاة صاحب البيت فإن ضريبة الانتقال والإرث تكون كبيرة ويكون الحل الأسهل هو الهدم، أما المستفيد الأول والأخير من هذه الثغرات القانونية فهم المستثمرون وأصحاب الأموال الذين يستغلون وضع هذه المباني وما يترتب من إجراءات لتحريرها وهدمها فيشترونها بأسعار أقل من قيمتها.

وفي حين يقول وردة إن لبنان يكاد يكون البلد الوحيد الذي يفتقد إلى قانون حماية الأبنية التراثية، يلفت إلى أن مشروع القانون المقدم يرتكز على تصنيف المكان حيث يوجد المبنى إذا كان ذا طابع تراثي أو سكني أو تجاري أو ديني، إضافة إلى كل التفاصيل المتعلقة بهندسة المبنى. وعن إمكانية إقدام الدولة أو وزارة الثقافة على شراء المباني التراثية، يجيب وردة: «الوزارة لا تملك موازنة كافية للشراء، وبالتالي فإن مهمتنا المحافظة على الطابع التراثي للمدينة من خلال العمل على إقرار القانون الذي ينصف أصحاب العقارات كإعفائهم من رسوم البلدية ما بين سنة إلى عشر سنوات وكذلك من الضريبة على الأملاك المبنية ومن رسوم خفض الترميم وتخفيض رسم الانتقال لغاية 50 في المائة إضافة إلى قانون (نقل عامل الاستثمار) الذي يمنح المالك حق الاستفادة من التعويض برصيد يوازي 75 في المائة كحد أقصى من المساحات التي حُرم من بنائها على العقار الذي يملكه، وذلك عبر إعطائه الترخيص بإضافة طوابق أو بيعها في عقارات أخرى تحدد في المراسيم التطبيقية».

وعن إمكانية إقرار هذا القانون تقول حلاق لـ«الشرق الأوسط» «لو كانت لدى المسؤولين نية لإقراره لكان أقر منذ سنوات». وتضيف: «إن إيقاف هدم مبنى السوديكو في بيروت تطلب منا عمل 14 عاما فكم نحتاج إذن لإنقاذ كل المباني التراثية؟»، معظم أصحاب المباني والمستثمرين إما لديهم النفوذ أو يوظفون أموالهم وعلاقاتهم الواسعة من أجل تحرير المباني والحصول على رخص الهدم.

وعن العوائق التي يواجهها الوزير وردة الذي أعلن في المؤتمر الصحافي لإطلاق الحملة الإعلامية لدعم مشروع القانون أنه «يخوض حربا في موضوع الأبنية الثراثية وأن مشروع القانون قد جمد لسنوات في مجلس النواب لأسباب بعضها يتعلق بالظروف السياسية وبعضها الآخر بمصالح رجال أعمال وشخصيات رسمية تخشى على مشاريعها العقارية التي تدر عليهم الملايين لأنهم بالرشى والوساطات ينجحون حتى في تحرير بيوت ممنوعة من الهدم بسحر ساحر»، يعتبر أن الموافقة على المشروع أو رفضه لا ترتبط بفريق سياسي دون آخر، ويقول: «إذا لم يقر القانون سنلجأ مع المجتمع المدني إلى تنظيم تجمعات سلمية أمام مجلس النواب للمطالبة بإقراره».

من جهته يقول مدير «مرصد مجال» في معهد التنظيم المدني المهندس سيرج يازجي لـ«الشرق الأوسط» إن مشروع قانون الأبنية لن يجد طريقه نحو التطبيق نظرا لأسباب عدة أهمها عدم وضع مخطط تنظيمي شامل لمدينة بيروت لتحديد ليس فقط المباني التراثية إنما أيضا المناطق لأن المبنى منفردا لا قيمة له إذا انفصل عن محيطه وشيدت بجانبه الأبراج العالية. ويرى أن إقرار قانون الأبنية التراثية ونجاحه يحتاج إلى استراتيجية تنموية شاملة لقطاعات أخرى للتخفيف عن القطاع العقاري الذي صار الحجر الأساس في الحركة الاقتصادية اللبنانية.