تدهور المناخ الاجتماعي في فرنسا.. ومئات الآلاف من المتظاهرين ينزلون إلى الشوارع

إضراب عام وقطاعا النقل والتعليم الأكثر تضررا والنقابات تطالب الحكومة بالتراجع عن مشروع إصلاح نظام التقاعد

TT

نزل الفرنسيون مجددا إلى شوارع باريس والمدن الكبرى بمئات الآلاف، وأقاموا المسيرات والمظاهرات في 118 مدينة، احتجاجا على مشاريع الحكومة لإصلاح نظام التقاعد وتمديد السن القانونية للعمل. وترافق ذلك مع إضرابات شاملة أصابت قطاعات اقتصادية أساسية.

يتزامن ذلك مع بدء مجلس النواب الفرنسي دراسة نص مشروع القانون المقدم إليه من الحكومة، في حين أكد الرئيس نيكولا ساركوزي ورئيس وزارئه، فرنسوا فيون، تمسكهم بالمشروع الإصلاحي، مع إبداء بعض المرونة على الهوامش. ويشكل تمديد سن العمل إلى الثانية والستين، بدلا من الستين بحلول عام 2018 التغير الأساسي، قياسا بالقانون المعمول به في الوقت الحاضر، الذي تعتبر الحكومة أنه من الضروري تغييره ليتناسب مع الواقع الديموغرافي الفرنسي، ومع الوضع الاقتصادي، وتزايد عجوزات الصناديق الاجتماعية.

والظاهرة اللافتة أمس هي وحدة الصفوف النقابية، حيث إن الدعوة إلى الإضراب والتظاهر جاءت من ثماني نقابات، بما فيها النقابات التي توصف عادة بأنها «معتدلة». وترى أكثر من جهة أن إصلاح النظام المذكور «ليس سوى حجة» للتعبير عن «النقمة» على سياسة الرئيس ساركوزي الاجتماعية والاقتصادية بكل جوانبها، وعلى عدم تحقيق النتائج التي وعد بها يوم انتخابه، وهي محاربة البطالة وتحقيق التنمية وتمكين المواطنين من تحسين أوضاعهم المالية والاجتماعية عن طريق العمل أكثر. وكان شعار ساركوزي الانتخابي «اعمل أكثر لتربح أكثر».وترافقت المظاهرات والمسيرات مع حركة إضرابية أصابت قطاعات النقل والسكك الحديدية، ومترو الأنفاق والمطارات والمواصلات بشكل عام، والتعليم والصحة والبريد والإعلام والوظائف الحكومية وبعض مؤسسات القطاع الخاص. ومنذ الصباح الباكر تباطأ السير، وتشكلت طوابير السيارات على مئات الكيلومترات على مداخل باريس والمدن الرئيسية.

وسعى رئيس الحكومة إلى التعبير عن التمسك الشديد بالإصلاح، مع إظهار انفتاح محدود على مطالب النقابات التي ترفض حتى الآن المشروع الحكومي باعتباره «غير عادل» و«لا يضمن إنقاذ» النظام التقاعدي.

ويأتي التحرك الاقتصادي - الاجتماعي، الذي دعت إليه النقابات الفرنسية، بدعم من أحزاب اليسار والخضر، على خلفية تفاعل الاحتجاجات على السياسة الأمنية التي تنتهجها الحكومة، بدفع من الرئيس نيكولا ساركوزي، مما برز عبر تظاهرات يوم السبت الماضي. وسياسيا، تأتي التعبئة النقابية في وقت «حرج» بالنسبة للرئاسة والحكومة على السواء، وذلك لثلاثة عوامل متداخلة. ويتمثل العامل الأول في انقسامات اليمين الحاكم إزاء سياسات الحكومة الأمنية نحو الغجر، واستمرار عمليات تفكيك المخيمات غير الشرعية، والطرد باتجاه رومانيا وبلغاريا، ورغبتها في إدخال تعديلات على القوانين الحالية تمكن من نزع الجنسية من الفرنسيين ذوي الأصول الأجنبية في حالات محددة. والعامل الثاني يكمن في تراجع شعبية الرئيس والحكومة حيث تبين استطلاعات الرأي المتلاحقة أن ثلث الفرنسيين تقريبا يثقون بقدرته على مواجهة المشكلات التي يعاني منها الفرنسيون. وأخيرا استمرار مسلسل الفضائح السياسية - المالية الذي يلاحق وزير العمل، والمالي السابق إريك فيرت وعلاقته بثرية فرنسا الأولى، ليليان بتنكور، وريثة مصانع «لو ريال» للمستحضرات التجميلية. وتنعكس هذه الفضائح المتلاحقة على صورة الحكومة وعلى مصداقيتها لدى الفرنسيين. وبالمقابل، فإن الاشتراكيين الذين يشكلون عصب المعارضة والبديل الممكن عن حزب الاتحاد من أجل حركة شعبية اليميني الحاكم، نجحوا في رص صفوفهم والعودة بقوة إلى الواجهة السياسية. وأفاد أكثر من استطلاع للرأي بأن ساركوزي يمكن أن يُهزم في الانتخابات الرئاسية إذا ما حصل أمام دومينيك شتروس خان، وزير الاقتصاد السابق ومدير البنك الدولي الحالي على (59 في المائة من الأصوات) أو أمام سكرتيرة عام الحزب الاشتراكي مارتين أوبري على (53 في المائة). ويصادف يوم التعبئة والمظاهرات والإضرابات تقديم الحكومة لمشروع إصلاح النظام التقاعدي إلى البرلمان. ويشكل تمديد سن التقاعد إلى 62 عاما (بدل الستين عاما في الوقت الحاضر) العمود الفقري للإصلاح الحكومي الذي يعتبره ساركوزي الإصلاح «المركزي» لعهده. وإذا سارت الأمور كما رسم لها، فإن القانون سيقر مع نهاية شهر أكتوبر (تشرين الأول) المقبل، يتبعه تعديل أو تبديل للحكومة التي يرأسها فرنسوا فيون منذ ربيع عام 2007. ويريد الرئيس الفرنسي أن تكون الحكومة الجديدة، مستندة إلى الأكثرية النيابية، الوسيلة التي ستساعده على الفوز بولاية ثانية في انتخابات مايو (أيار) عام 2012. ويراهن ساركوزي على «المردود السياسي» لتشدده الأمني واستمالة ناخبي اليمين المتشدد، وإعادة رص صفوف اليمين التقليدي بشكل عام. فضلا عن ذلك، يراهن على الفائدة التي يمكن أن يجنيها من ترؤسه لمجموعة العشرين الاقتصادية، ولمجموعة الثماني الأكثر تصنيعا على المسرح الدولي. وستعقد قمتان في مدينة نيس المتوسطية: الأولى لمجموعة الثماني في شهر يونيو (حزيران) المقبل والثانية في شهر نوفمبر (تشرين الثاني) من العام نفسه.

ومنذ مساء أمس، بدأ المواطنون يشعرون بـ«آثار» الإضراب الذي يطال قطاعات النقل (القطارت، مترو الأنفاق، النقل الجوي) والتعليم والبريد والمستشفيات والإعلام العام (راديو وتلفزيون) والدوائر الحكومية على اختلاف أنواعها. لكن المدارس التي تضرب في اليوم الثاني لإعادة فتحها بعد العطلة الصيفية ستكون، مع قطاع النقل، الأكثر تضررا من الإضراب. وتراهن النقابات على التعبئة العامة، وعلى تدهور المناخ الاجتماعي وفقدان الثقة بالحكومة، لإنزال ما لا يقل عن مليون شخص إلى الشوارع في كل المدن الفرنسية. وكان يوم التعبئة الأخير في 24 يونيو الماضي اجتذب 800 ألف متظاهر.

وإزاء هذه التعبئة النقابية القوية التي تحظى بدعم الأحزاب المعارضة (اليسار على أنواعه والخضر) تتمسك الحكومة بمشروعها الإصلاحي، وهي تستند إلى استطلاع للرأي يفيد بأن 53 في المائة من الفرنسيين يعتبرون أن تمديد سن العمل القانوني إلى 62 عاما «أمرا مقبولا». لكن النقابات تعتبر أن مشروع الإصلاح «غير عادل»، وتريد إما سحب المشروع وإعادة درسه أو تعديله بشكل جذري، بحيث لا تقع تبعة تمويله على الموظفين والعمال وحدهم.

والحال أن الأمين العام لرئاسة الجمهورية، كلود غيان، وهو أقرب مساعدي الرئيس أعلن أن النص «سيحافظ على توازنه»، مما يعني التمسك بما جاء فيه من غير تعديل. غير أن غيان أعرب عن الاستعداد للنظر في بعض الحالات بخصوص سن القاعد للمهن الصعبة، مثل عمال المناجم أو السكك الحديدية.. بحيث يمكن الإبقاء على سن التقاعد على ما هو.