الذين رحلوا

TT

قد يكون هذا العام، وبامتياز، عام خسارة الفكر والثقافة العربيين لأبرز رموزهما، الذين يرحلون واحدا واحدا. في أشهر قليلة فقدنا نصر حامد أبو زيد ومحمد عابد الجابري وغازي عبد الرحمن القصيبي وأحمد البغدادي وداود سلوم - الذي رحل بصمت في بغداد الحزينة - وتوجت هذه الخسارات الكبيرة برحيل المعلم الأكبر محمد أركون، الذي يستحق حقا لقب «ابن رشد العرب» في القرن العشرين، كما يحب أن يسميه صديقه ومترجمه إلى العربية الباحث هاشم صالح. هل اتفقوا على الرحيل معا بعدما شبعوا عقوقا وهجرا ونبذا؟ هل تعبوا من الكلام الضائع في الهواء العربي؟ هل شعروا فجأة باللا جدوى، فانسحبوا، كلٌ على طريقته، من العشائر والطوائف، وأصحاب السياط، وشرطة المنع، وشيوخ التكفير، ومن الولائم الثقافية العربية، والجهلة الثقافيين النشيطين، الذين ملأوا آذاننا زعيقا، فلم نعد نسمع غيرهم، ولم نعد نقرأ لغيرهم. هل تعبوا فجأة، مطلقين صرخة واحدة في وجه الجميع: أية أمة هذه يا إلهي؟

مهما كان التفاوت في فكر ونفوس هؤلاء الكبار، فإنهم يشتركون في صفة واحدة: إنهم كانوا يحفرون في أرض شبه بور، كل حسب عزيمته، إذا استعرنا قول المتنبي، أرض ليست طيبة كافية لتحضنهم كأنجب وأشرف أبنائها، بل طردتهم شر طردة. أي أرض هذه التي تطرد رجلا مثل نصر حامد أبو زيد؟ وأية أمة هذه التي يرحل وسط صخبها وضجيجها ومعاركها المضحكة حول السلطة، رجل مثل داود سلوم بصمت من دون أن تشعر بالخجل؟ ومن الذين كفّروا مرة أحمد البغدادي؟ من فقهاء الظلام هؤلاء؟ وماذا فعلنا لنسلط شيئا من الضوء على وجوهم الكالحة؟ هل عاد الصمت ممكنا؟

لا يكمن الألم في رحيل هؤلاء، ولا نتحدث عن الموت هنا، بل عن الحياة، عن النكران الذي نجيده أكثر من أي شيء آخر، وعن الخسران الذي لا نشعر بوطأته، لقلة الإحساس فينا، إلا بعد ما يقع. هل قرأنا، نحن اللاهين، محمد أركون؟ لا يبدو أن الأمر كذلك. وإذا كنا قرأناه، ماذا فعلنا بهذه القراءة؟ ثم، هل كان أركون حاضرا بيننا؟ كم وزير ثقافة عربيا، وكم مؤسسة ثقافية عربية، اهتمت بهذا الرجل فدعته في الأقل إلى محاضرة، أو إلى ندوة ثقافية، هذا إذا لم نتحدث عن التكريم قبل أن نفقده، وننعيه، بدافع من الشعور الخفي بالذنب، هذا إذا كنا أساسا نمتلك مثل هذا الشعور؟

على مدى أكثر من خمسين عاما، بقي أركون في صومعته الفرنسية، قارئا في حاضرنا، مفككا ذواتنا، وقبل كل شيء حافرا في تاريخنا كما لم يحفر أحد قبله من عصر ابن رشد. كان يخاطبنا، وهو البعيد، لكننا لم نحسن الإصغاء. بل كنا نتمنى، في الحقيقة، أن يخرس للأبد حتى لا يعكر صفونا وهدوءنا، وسلامنا الداخلي الكاذب ونومتنا الأبدية.

لا ينجب العصر، أي عصر، سوى حفنة من الرجال النادرين، وقد مروا على أرضنا من دون أن نحسن استغلال وجودهم، وسينزف العقل العربي، وستنزف الثقافة العربية كثيرا، فوق ما نزفا، لتعويض شيء من مشاعل الفكر التي انطفأت، ووهج العقول التي هوت في أيام قليلة من الزمن العربي الطويل، بعدما تركت لنا بصمات غير قابلة للإمحاء مهما فعل الذين يريدون لهذا الزمن أن يبقى واقفا للأبد عند محطة الجهل حيث نقف الآن.