الغجر.. اختبار لحقيقة «أوروبا المفتوحة»

أصولهم هندية.. ورومانيا لم توف بوعدها بتحسين ظروفهم

أطفال من طائفة الغجر يلعبون أمام بناية في إحدى ضواحي بوخارست («نيويورك تايمز»)
TT

هذه مدينة تعج بالوحدات السكنية الكئيبة على غرار الهياكل السكنية المميزة للحقبة السوفياتية، ومن بين أكثر مباني العاصمة قتامة مجموعة من الأبراج رمادية اللون تضم شققا سكنية تتألف كل منها من غرفة واحدة، بجانب دورات مياه مشتركة، بينما لا يتوافر بها ماء ساخن. وقد جرى تخصيص هذه المساكن إلى أبناء مجموعة «الغجر».

يعيش بعض هؤلاء الغجر مثل ماريا موراريو، (62 عاما)، التي تتولى الاعتناء بزوجها المحتضر، في غرف تنبعث منها روائح كريهة أشبه بزنزانة السجون. وطيلة خمسة أعوام، فشلت موراريو في العثور على عمل. وقالت مؤخرا بينما تعلقت عيناها بزوجها النائم: «ليس هناك الكثير أمامنا في رومانيا. الآن، بانضمامنا إلى الاتحاد الأوروبي، أصبح لدينا حق السفر لدول أخرى، حيث الحال أفضل هناك».

مع توصل آلاف الغجر إلى النتيجة ذاتها في السنوات الأخيرة، شرعوا في التوجه إلى الدول الغنية نسبيا في أوروبا الغربية، مما أثار صداما داخل الاتحاد الأوروبي حول إلى أي مدى تتميز «حدوده المفتوحة» بالانفتاح حقا.

وقد شهد اجتماع لقمة قادة الاتحاد عقد مؤخرا، خلافا علنيا حول طرق التعامل مع المهاجرين غير المرغوبين. ومن جهته، تعهد الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي بالمضي قدما في تفكيك معسكرات اللاجئين، رافضا بغضب شديد شكاوى مسؤولي المفوضية الأوروبية من أن السلطات الفرنسية تعمد إلى استهداف الغجر بإجراءات الترحيل على نحو غير قانوني. وقد تحولت الهجرة بين الدول الـ27 الأعضاء في الاتحاد الأوروبي إلى قضية قابلة للاشتعال في أي لحظة خلال فترة التراجع الاقتصادي. وكان من شأن التوسع الأخير للاتحاد، الذي أدى إلى ضم رومانيا وبلغاريا الفقيرتين نسبيا لعضويته عام 2007، تأجيج المخاوف من أن الفقراء، الذين يسافرون بعيدا عن أوطانهم بحثا عن العمل، سيتحولون إلى عبء على عاتق الدول الأكثر ثراء. كما أثارت هجرة الغجر التساؤلات حول التزامات رومانيا وبلغاريا تجاه الوفاء بالتعهدات التي قطعتاها على نفسيهما لدى انضمامهما إلى الاتحاد الأوروبي. فمثلا، وضعت رومانيا استراتيجية لمساعدة الغجر، لكنها لم تمول سوى جزء ضئيل منها. وعليه، طالب ساركوزي الحكومة الرومانية ببذل مزيد من الجهود لمساعدة الغجر لديها في الداخل.

والملاحظ أن ردود فعل الكثير من دول أوروبا الغربية تجاه الغجر الفقراء والمتجولين من مكان لآخر جاءت عدائية، خاصة أنهم في الغالب يفتقرون إلى مستوى مناسب من التعليم أو المهارات العملية. ورغم نجاح بعض الغجر على الحصول على فرص عمل مهمشة في جمع الخردة أو طلاء المنازل، تقدم آخرون بطلبات الحصول على إعانة أو لجأوا إلى التسول وجرائم السرقة الصغيرة وعاشوا في معسكرات غير لائقة.

وخلال الأسابيع الأخيرة، حاول ساركوزي إحياء مشاعر التأييد له داخل اليمين السياسي عبر ترحيل آلاف الغجر، وعرض 300 يورو (نحو 392 دولارا)، على أولئك الذين يختارون السفر طواعية لأوطانهم، بينما شرع في هدم معسكراتهم. ومن ناحيتها، هددت المفوضية الأوروبية باتخاذ إجراءات قانونية ضد فرنسا بسبب عمليات الترحيل، التي وصفتها بالمشينة وغير القانونية.

لكن يستبعد أن تشكل عمليات الطرد تلك، حلا طويل الأمد للمشكلة، خاصة أن الكثير من الغجر الذين تم ترحيلهم يخططون بالفعل الآن للعودة.

على الصعيد غير المعلن، يسخر بعض المسؤولين الرومانيين من الإجراءات الفرنسية، حيث قال أحدهم: «إنهم منحوهم إجازة مدفوعة الأجر فحسب». ومع ذلك، يأمل أنصار الغجر أن يجبر الصراع الأخير الاتحاد الأوروبي على التحلي بجدية أكبر حيال مساعدة الغجر، الذين يواجهون مشاعر كراهية وازدراء بشكل علني في معظم دول وسط وشرق أوروبا، حيث عاشوا بأعداد كبيرة لقرون، غالبا في ظل ظروف معيشية بالغة السوء.

وقال بيرنارد رورك، مدير شؤون المبادرات المعنية بالغجر داخل «مؤسسة المجتمع المفتوحة» غير الربحية: «ليس هناك ما يمكن أن تركز عليه انتباهك أكثر من جيش من الفقراء يتحرك صوبك».

واللافت عدم توافر سوى القليل من البيانات التي يمكن الوثوق بها بخصوص الغجر الذين ينتمون في الأصل إلى الهند، وظلوا عبيدا حتى القرن التاسع عشر، حيث كانوا يعملون لحساب العائلات الأرستقراطية وداخل الأديرة. وعندما تعززت الديمقراطية، أصبحوا أحرارا، لكنهم كانوا من دون أراض يملكونها أو تعليم، إلى جانب بشرتهم الداكنة. وعليه، لم تتوافر أمامهم كثير من الإمكانات.

ويشير نشطاء حقوق الإنسان إلى أن الأمهات الغجر غالبا ما يرسلن إلى عنابر منفصلة داخل المستشفيات. وكثيرا ما يتعرض أطفالهن، عندما يرتادون المدارس، إلى ضمهم للصفوف المخصصة لذوي الاحتياجات الذهنية الخاصة.

في رومانيا، ذكر إحصاء رسمي للسكان أن أعداد الغجر تبلغ 500 ألف شخص، بينما أشار بعض النشطاء إلى أن العدد الحقيقي يقترب من المليونين. وأضافوا أن الذين ينجحون في النجاة من براثن الفقر نادرا ما يكشفون عن جذورهم الحقيقية، الأمر الذي يزيد صعوبة مكافحة الغجر للتمييز ضدهم. وخلال سنوات تفاوضها للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، تعهدت رومانيا بتنفيذ برامج للمساعدة في دمج الغجر في المجتمع الروماني. إلا أن مسؤولين حكوميين اعترفوا بأنه لم يتحقق سوى القليل من هذه الوعود.

وجدير بالذكر أن إجراءات خفض الميزانية أضرت بالجهود القليلة الناجحة التي بذلت بالفعل. من جهته، قال نيكولا ستويكا، الذي يتولى إدارة «غجر أكسيس»، وهي جماعة ضغط: «إن ما نراه الآن هو ظروف بشعة، ليس لدى هؤلاء الأفراد أمل في الحصول على وظائف. وإذا حصلوا على 20 دولارا شهريا من مهنة جمع القمامة، فإنهم يعتبرون ذلك مبلغا كبيرا، فكيف إذن نطلب منهم ألا يسافروا إلى فرنسا ليمارسوا التسول في الشوارع؟».

وقالت فلورتينا غيتا، (21 عاما)، إن أسرتها كانت تعيش في وقت من الأوقات في مركز بكونستانتا، ثاني كبرى مدن رومانيا، لكن مسؤولي المدينة أجلوهم، مبررين ذلك بوجود أضرار هيكلية بالمباني. وتعيش الأسرة الآن في كوخ مصنوع من البسط وبقايا علب بلاستيكية ومعدنية جرى جمعها من على قضبان السكك الحديدية. أما المصدر الوحيد للمياه، فهو محطة قطار على مسافة تزيد على الميل. وأضافت غيتا أن أسرتها طلب منها ملء استمارات للحصول على مسكن، لكن لم يكن بين أفرادها من يستطيع القراءة. وأضافت أن ابنها سوريم، (5 سنوات)، لا يرتاد المدرسة لأنه ليس بإمكانها توفير مصاريف الملابس والكتب المدرسية ورسوم التعليم. ومع ذلك، كانت أسرة غيتا على معرفة كافية بأوروبا، حيث كانت لدى غيتا أوراق تكشف أن والدتها تلقت رعاية صحية ببلجيكا. وأضافت: «لي شقيقة تعيش هناك وقد ساعدتنا».

ويرى خبراء أن الغجر عانوا تحت وطأة مجموعة من العوامل، منها أن المهن التي أعالتهم في بعض الفترات، مثل صنع آنية نحاسية، اختفت الآن. وقد دفعت التنظيمات الأوروبية الأخيرة المنظمة لبيع الماشية بالغجر خارج واحدة من النشاطات التجارية القليلة الباقية التي كانوا مشاركين بها لعجزهم عن القيام بالأعمال الكتابية اللازمة. ويعتقد خبراء أن بعض جوانب ثقافة الغجر زادت الطين بلة، خاصة لما تحمله من طابع عشائري ذكوري قوي ويجري في إطارها دفع الشباب نحو الزواج المبكر ولا يلقى التعليم تقديرا كبيرا. إلا أنه ليس جميع الغجر يعانون الفقر، فمثلا في قرية باربولستي، على بعد نحو 40 ميلا شمال شرق بوخارست، هناك مؤشرات على النجاح. وتتميز القرية بمجموعات من المنازل الملونة الرائعة، لا يزال الكثير منها تحت الإنشاء. ويحكم القرية عمدة من الغجر، إيون كوتيتارو، (59 عاما)، وهو العمدة الوحيدة الغجري في البلاد. وأشار إلى أن نحو ثلث سكان القرية البالغ عددهم 7.000 نسمة انتقلوا إلى أوروبا الغربية، وحصلوا على فرص عمل هناك، لكنهم يضطرون إلى التسول عندما لا يبقى أمامهم سبيل آخر للعيش. وأضاف: «يتمكنون من كسب العيش هناك، ويعودون ويبنون منازل لهم».

يذكر أن 28 من الغجر ينتمون إلى باربولستي جرى ترحيلهم مؤخرا من فرنسا. ومن بينهم إيونيل كوستاش، (30 عاما)، الذي أكد أنه سيعود إلى فرنسا في غضون أسبوع أو اثنين. وأضاف: «ابني، الذي يعاني مشكلات في النظر، يجب أن يخوض عملية جراحية بتكلفة 700 يورو هناك، لا يمكنه الحصول عليها قط هنا. كما كذلك، عندما لا تملك عملا، فإنك تظل قادرا على تناول الطعام اعتمادا على المساعدات الاجتماعية. تظل فرنسا مكانا أفضل بكثير من رومانيا».

* خدمة «نيويورك تايمز» (ستيفين كاسل أسهم في التقرير من بروكسل)