أطفال «القاعدة» في العراق يدفعون ثمن خطايا الآباء.. والحكومة لا تأبه بهم وبأمهاتهم

المئات منهم بلا هوية بعدما ولدتهم نساء أرغمن على الزواج من متشددين اختفوا

TT

لا تزال زهرة تتعلم المشي بخطوات قصيرة متقطعة، وتلبسها أمها فستانا قرنفلي اللون. ومع ذلك، فإنها كائن لا وجود له من وجهة نظر الحكومة.

زهرة، ابنة أحد مسلحي تنظيم القاعدة في العراق الذي أجبر والدتها على الزواج به، وبعد أن أصبحت أُما اختفى فجأة، تعد واحدة من مئات بل وربما آلاف الأطفال الذين ولدوا في خضم الفوضى وأعمال العنف التي ارتكبها المتمردون بالعراق ولم يسجلوا رسميا قط.

ومن دون توفر أوراق رسمية تثبت بنوتها لرجل عراقي وأن والديها ارتبطا بزواج شرعي قبل مولدها، تفتقر زهرة وآخرون مثلها لأي حقوق كمواطنين عراقيين، حسبما أوضح خبراء قانونيون، وذلك لافتقادهم لشهادات ميلاد أو جوازات سفر أو بطاقات هوية وطنية، مما سيحرمهم من ارتياد المدرسة وتقلد وظائف حكومية.

وبذلك يتضح أن هؤلاء الأطفال، الذين يشكلون ميراثا لا تلحظه الغالبية للحرب التي استمرت 7 سنوات، يدفعون ثمن خطايا آبائهم. وأعرب أحمد جاسم، مدير «مؤسسة نور»، وهي منظمة غير حكومية تعمل على تحسين حياة أبناء المسلحين في محافظة ديالى الواقعة شمال شرقي البلاد: «هذا أمر خطير لأنهم في المستقبل ربما يقدمون على إيذاء المجتمع الذي ألحق بهم الأذى».

يعد هؤلاء الأطفال نتاجا للفترة التي سيطرت خلالها «القاعدة» في العراق على قطاعات واسعة من البلاد بعد الغزو الذي قادته الولايات المتحدة. آنذاك، انهار النظام القانوني وتوقفت مؤسسات الدولة عن العمل واشتعلت حركة تمرد بالبلاد. ووفرت بعض المجتمعات السنية الملاذ للمتورطين في التمرد، من عراقيين وعرب أجانب، انطلاقا من اعتقادهم بأنهم سيساعدونهم على التخلص من جيش أجنبي، لكن سرعان ما تكشف وجه «القاعدة» الوحشي في العراق، وتغلبت على الجماعات المتمردة الأخرى، معلنة قيام دولة إسلامية وفرضت تفسيرا قاسيا للشريعة الإسلامية.

وتسبب ذلك في تأليب المجتمعات ببطء ضد التنظيم، وتعرض رجال «القاعدة» بالعراق إما للسجن أو القتل، أو عمدوا إلى التخفي والاختباء. والآن، بلغ الأطفال الذين خلفوهم وراءهم ما بين الواحدة والرابعة من العمر.

وأشار جاسم إلى وجود 12 أسرة على الأقل في ديالى وحدها تضم أطفالا نتجوا عن علاقات زواج بالإكراه بين رجال بـ«القاعدة» ونساء في العراق. وتجهل الكثير من النساء هوية أزواجهن الغائبين الحقيقية، ويخشين إن هن أقدمن على النضال من أجل حقوق أطفالهن، أن يجلبن على أنفسهن وأقاربهن من الرجال العار أو السجن لصلتهم بمنظمة غير قانونية.

ومما زاد الأوضاع سوءا الفراغ السياسي الذي تعانيه البلاد، فبعد أكثر من 6 شهور على إجراء انتخابات برلمانية وطنية، لم تتشكل الحكومة بعد. والملاحظ أن الكثير من النساء اللائي يواجهن هذه المعضلة من العرب السنة، مما يثير في نفوسهن المخاوف من ألا تبدي حكومة يقودها الشيعة تعاطفا معهن، وربما تعتبرهن متواطئات في الجرائم التي اقترفها الأزواج الغائبون.

من ناحيتهم، قال مسؤولون بوزارة الداخلية مكلفون بمساعدة ضحايا حرب العراق إن هؤلاء النسوة لا يعتبرن ضحايا اغتصاب، ورغم أوضاعهن المؤسفة ليس هناك ما يمكن للمسؤولين تقديمه لهن.

وبرر فاضل الشويلي، مسؤول بالوزارة مكلف بالتعامل مع ضحايا الحرب، هذا الموقف بقوله: «تقديم العون لهن سيساعد (القاعدة) في العراق».

وأشار خبراء قانونيون إلى أن الحل الأيسر لهذه المشكلة نقل الأطفال إلى دور أيتام أو تزوير شهادات ميلاد لهم بأسماء زائفة للآباء.

من جهتها، تعهدت ناهدة زيد منهل، عضو البرلمان عن القائمة العراقية المدعومة من قبل السنة، بالنضال نيابة عن هؤلاء الأطفال بمجرد تشكيل الحكومة. وأضافت «هؤلاء الأطفال لم يقترفوا ذنبا».

ويعتمد هذا السرد لمولد زهرة وحياتها على مقابلات أجريت مع والدتها - التي تشتهر باسم أم زهرة - وجدتها وأقارب آخرين، لكن تعذر التحقق من المعلومات التي ذكروها على نحو مستقل. كما أنهم لم يسمحوا بالكشف عن أسمائهم كاملة خوفا من التعرض لتداعيات سلبية. بجانب مشكلاتهم القانونية، أعربت أمهات مثل أم زهرة عن شعورهن بالنبذ في ثقافة تنظر إلى إنجاب الأطفال خارج إطار الزواج باعتباره من المحظورات الكبرى.

وفي إحدى ليالي صيف عام 2008، اقتحم 6 مسلحين مسكن أم زهرة في بهرز، على أطراف بعقوبة. كان العرب الشيعة قد أجبروا بالفعل على الرحيل عن الحي أو لقوا حتفهم على يد أعضاء «القاعدة» أثناء الحرب الأهلية بين عامي 2005 و2007. تملك الذعر سكان المنطقة لدرجة أعجزتهم عن التصدي لـ«القاعدة» بالعراق، رغم انحسار نفوذها بأجزاء أخرى من البلاد. وأخبر رجل عرف نفسه باعتباره أبو زهرة فحسب شقيق أم زهرة بأن أمامه ثلاثة خيارات: إما الانضمام إليهم أو القتل أو منحهم والدته، أم حسن، وشقيقته الصغرى التي لم يتجاوز عمرها حينذاك 18 عاما. وأذعنت المرأتان وأجريت مراسم الزواج على يد أحد المسلحين، لكن من دون توقيع عقد زواج. بعد ذلك، أجبر أبو زهرة الفتاة المراهقة على معاشرته. وعلى مدار ثلاثة أشهر لاحقة، كان هو والرجال الآخرون يفدون إلى المنطقة في وقت متأخر من الليل، حسبما ذكرت المرأتان. وكانوا يغادرون دائما قبل شروق الشمس. ولم يفصح زوج أم زهرة قط عن اسمه الحقيقي، حسبما أكدت الأسرة. وقالت أم زهرة إنها لم تر قط وجه الرجل الذي سلبها عذريتها. وقالت: «إنني أكرهه، فقد جردني من أعز ما تملكه المرأة في حياتها».

عندما أصبحت حاملا، فكرت المرأة الشابة في إجهاض نفسها أو الانتحار، لكنها قالت إنها تؤمن بالله وإن الإسلام لا يجيز أيا من العملين. بحلول موعد الولادة، كان والد الطفلة قد اختفى منذ شهور من دون أثر. لكنها أطلقت على الطفلة اسم زهرة تحسبا لعودته.

الآن، تعيش عائلة أم زهرة في بعقوبة، عاصمة ديالى. وأخبروا جيرانهم الجدد بأن الطفلة يتيمة ضموها إلى كنفهم. ومع ذلك، تدرك أم زهرة أن الجيران يتهامسون عن الطفلة ويتساءلون عن سبب مناداتها لها بـ«ماما».

ولا تنوي أم زهرة اللجوء إلى المحاكم لضمان حقوق طفلتها، البالغة الآن عاما ونصف العام، لما يساورها من قلق من أن يلوم الناس على زواجها وإنجابها الطفلة، حسبما ذكرت.

إضافة إلى ذلك، فإنه ليس في مقدور أسرتها توفير ما بين 100 و300 دولار لتزوير شهادة ميلاد ووضع اسم زائف للأب بها. ونظرا لمقتل زوجها، تتطوع أم حسن، جدة زهرة، في العمل بالمستشفيات وتعيش على أموال البقشيش، فإذا نالت بقشيشا تمكنت الأسرة من الطعام، وإذا لم تحصل عليه عانوا من الجوع.

* خدمة «واشنطن بوست» خاص بـ«الشرق الأوسط»