باريس «تتنصل» من تصريحات السفير الفرنسي في بيروت عن القرار الظني

قلق من انهيار التهدئة في لبنان.. والجسر لـ«الشرق الأوسط»: نرفض تهديدنا بالحرب

TT

تحفظت باريس على المعلومات التي تناقلتها الصحافة اللبنانية والجدل الذي أثارته استنادا إلى ما اعتبر تصريحات للسفير الفرنسي دوني بييتون، نقلتها عنه صحيفة «النهار» اللبنانية قبل يومين، والتي جاء فيها أن تدخلات فرنسية وسعودية لدى المحكمة الدولية ساهمت في تأخير صدور القرار الظني للمحكمة الدولية الخاصة بجريمة اغتيال رئيس الوزراء اللبناني الراحل رفيق الحريري من سبتمبر (أيلول) إلى نهاية السنة «على الأرجح».

وقالت الخارجية الفرنسية في المؤتمر الصحافي الأسبوعي، أمس، إن المقال المشار إليه لا يعبر «بأمانة» عما قاله بييتون الذي لم يعطِ مقابلة صحافية لـ«النهار»، كما أنه «لا يعكس موقفه» ولا موقف فرنسا من موضوع المحكمة. وأشارت الخارجية إلى أن الكلام الوارد عن لسان السفير بييتون «لا يقوم على استشهادات مباشرة»، بل هو «كلام منقول»، ما يعني ضمنا أنه يفتقر إلى الدقة.

وعادت باريس للتذكير بأنها «دعمت بشكل ثابت ودائم المحكمة الدولية الخاصة بلبنان»، وأن موقفها منها «لم يتغير، حيث إنها تدعم عملها واستقلاليتها». وخلصت الخارجية إلى القول إن السفير بييتون «يعبر عن هذا الموقف في كل لقاءاته مع السلطات اللبنانية أو مع الصحافة اللبنانية».

وجاء الكلام المنسوب إلى السفير الفرنسي في بيروت ليغذي جولة جديدة من الجدل. وما يلفت النظر في الكلام المنسوب إليه أنه إن صح فإنه يؤكد مقولة الذين يعتبرون أن المحكمة مسيسة، وأنه يمكن التأثير على قراراتها وأحكامها من خلال الضغوط. والحال أن باريس أبلغت الوسطاء اللبنانيين والعرب الذين جاءوا إليها ليطلبوا منها التدخل لدى المحكمة باعتبار أنه كان لها دور كبير في إنشائها والترويج لها وتمويلها، وأن قرارات المحكمة «مستقلة» وبالتالي «من الصعب التدخل فيها»، فضلا عن أن شخصية المدعي العام دانيال بلمار «لا توفر الفرصة لمداخلات كهذه». وتصر باريس على القول إن التدخل في شؤون المحكمة يعني «ضربة قاصمة بحق العدالة الدولية» التي تروج لها فرنسا. وقالت مصادر فرنسية رسمية لـ«الشرق الأوسط» إن هذا الكلام أبلغ للنائب اللبناني وليد جنبلاط الذي جاء إلى باريس لينبه من المخاطر التي ستلم بلبنان بسبب قرار ظني يوجه التهمة إلى حزب الله في موضوع اغتيال الرئيس رفيق الحريري.

ومنذ عدة أسابيع تتساءل المصادر الفرنسية رفيعة المستوى عن الأسباب التي يمكن أن تدفع بحزب الله إلى رد فعل عنيف إذا تضمنت مطالعة بلمار اتهامات إلى «عناصر» من حزب الله وليس للحزب كحزب. وكانت باريس تريد التواصل المباشر مع حزب الله على «أعلى المستويات» لإيصال هذه الرسالة. غير أن هذه الفرصة «لم تَحِن»، وهو ما قد يفسر كلام السفير بييتون الذي شدد، كما جاء في موضوع «النهار»، على أن توجيه الاتهام إلى عناصر من حزب الله لن يغير شيئا في تعامل فرنسا معه ولا لجهة لرفض وضعه على لائحة الإرهاب الأوروبية، وهو ما اعترضت عليه في الماضي وستعترض عليه في المستقبل إذا ما طرح مجددا.

وتراقب باريس عن كثب تطور الأحداث في الداخل اللبناني وعينها على الجنوب وقوة اليونيفيل التي تساهم فيها بـ1500 جندي. وتختلط في حساباتها المسائل السياسية الداخلية وعوامل التفجير في الجنوب. وحتى الآن، ورغم القلق الذي يساور المسؤولين الفرنسيين من مسار التطورات في لبنان، فإنها ما زالت مطمئنة إلى أن «المظلة العربية» ما زالت فاعلة وأن «لا مصلحة لأحد» في الوضع الراهن في تفجير الوضع. غير أن هذه الطمأنينة تبدو «محدودة المدى» زمنيا ولا تشكل «بوليصة» تأمين للمستقبل، ما يدفع فرنسا للتكثيف من اتصالاتها مع الأطراف اللبنانية، بمن فيهم حزب الله، ومع الدول الإقليمية الفاعلة وعلى رأسها السعودية وسورية. ووفق الحسابات الفرنسية فإن إدخال سورية في معادلة السلام، الأمر الذي جسدته زيارة المبعوثين الأميركي جورج ميتشل والفرنسي جان كلود كوسران إلى دمشق، غرضه «طمأنة» سورية لجهة «عدم استبعادها» من مسار السلام رغم أنه لا جديد تقدمه لها العاصمتان المعنيتان حتى اليوم غير الوعود واستكشاف الممكن.

وفي أي حال، ترى مصادر فرنسية واسعة الاطلاع أن اتفاق سلام بين سورية وإسرائيل لا يمكن عزله عن «ترتيبات» تتناول الواقع اللبناني، وتحديدا موضوع حزب الله. لكن هذه اللحظة ما زالت، كما ينظر إليها من باريس، بعيدة المنال.

من جهة أخرى استدعى الحديث الذي أدلى به رئيس تيار المردة، النائب سليمان فرنجية، وقال فيه: «إن المحكمة الدولية ما هي إلا أداة لمحاصرة حزب الله، وإن أي قرار ضد الحزب يعني وقوع الحرب»، وسؤاله: «إذا كانت المحكمة قرار فتنة في لبنان فلماذا لا تلغى؟»، استدعى مواقف رافضة من فريق «14 آذار» وتحديدا تيار المستقبل ورئيس الحكومة سعد الحريري الذي أكد أن «لا مساومة على المحكمة، وهذا الكلام لا يغير شيئا في موقفنا»، وهذا ما أثار القلق حول تداعي التهدئة التي بشرت بها الأطراف اللبنانية، بعد عاصفة من السجال والتأزم اللذين كانا سمة الأيام الخمسة الماضية.

وأسف عضو كتلة المستقبل، النائب سمير الجسر، «لكلام فرنجية الذي يظهر في طياته نوعا من التصعيد»، وقال في اتصال أجرته معه «الشرق الأوسط» أمس: «نحن نرى أجواء ضبابية انطلاقا مما نسمعه ونشاهده، خصوصا أن هناك من يبشر بحرب في لبنان إذا ما صدر القرار الاتهامي أو في حال استمرت المحكمة في مهمتها»، وسأل: «ضد من يلوحون بالحرب؟ هل ضد الذين يتمسكون بالمحكمة؟ وهل المطلوب أن يرضخ اللبنانيون لإرادتهم وإلا سيواجهون الحرب؟ هذا المنطق نرفضه لأنه لا أحد في لبنان أو خارجه له سلطة على المحكمة، أو يمكنه أن يغير في مسارها، هذه المحكمة أنشئت بقرار دولي ولا تتوقف إلا بقرار دولي»، وأضاف: «من جهتنا في تيار المستقبل لا أحد يستطيع سواء على المستوى الشخصي أو العائلي أو الوطني أن يطلب وقف هذه المحكمة لأنها المؤسسة القضائية الوحيدة التي ستظهر حقيقة من اغتال الرئيس الشهيد رفيق الحريري وباقي الشهداء». وردا على سؤال حول ما يحكى عن اتصالات ومساعٍ للتخفيف من وطأة القرار الاتهامي أو تحييده عن اتهام حزب الله، سأل الجسر: «أولا كيف علم هؤلاء مسبقا إلى من سيوجه الاتهام؟»، ورأى أن «من يقدم طرحا كهذا ويروج لمثل هذه التسويات يكون لديه قلة اطلاع على عمل المحاكم الدولية، باعتبار أن المحكمة والقرار الاتهامي سينطلقان من تحقيقات ومستندات وقناعات، ولا أحد يستطيع أن يطلب من المحكمة أن تغير في قناعتها، هذه طلبات غير معقولة، والكلام عن تسويات أو تغيير في مسار المحكمة ووجهة الاتهام أمر غير مقبول، وهذا بحد ذاته تسييس للمحكمة وعملها»، مذكرا بأن «المحكمة هي مؤسسة قضائية وليست مجلسا سياسيا».

وشدد نائب الجماعة الإسلامية، عماد الحوت، على أن «اللبنانيين اليوم في سفينة واحدة، وبعض من في السفينة مستعد أن يُحدِث فيها خرقا ليحقق مصالحه وهو يظن أن السفينة تبقى وهو لا يعلم أنه بذلك يعرض نفسه قبل غيره للغرق». وأكد أنه «لا ينبغي الاستسلام لمحاولات التخويف من الفلتان الأمني، فجميع الفرقاء يعلم أن أي فلتان أمني لن يكون ضرره محصورا على فئة دون أخرى»، معتبرا أن «ما حدث في الأيام الأخيرة لا ينبغي أن يُنسي اللبنانيين أنهم محكومون بالتعايش في ما بينهم مهما اختلفت انتماءاتنا السياسية أو الطائفية أو المذهبية».

في المقابل أكد عضو كتلة لبنان الحر الموحد (التي يرئسها النائب سليمان فرنجية)، النائب سليم كرم، أن «لا أحد يطالب بإلغاء المحكمة، ولا أحد ضد معرفة الحقيقة»، مشيرا إلى أن «هناك إصرارا على اتهام فريق معين باغتيال الرئيس رفيق الحريري بشتى الوسائل»، وقال: «نحن مع مطلب الرئيس سعد الحريري في معرفة من اغتال والده، إلا أن هذا الأمر يحتاج إلى إثباتات، فليس هناك من أحد مستعد للقبول باتهامه من دون أدلة، وقد طرح الرئيس الحريري ضرورة معرفة الحقيقة خلال زيارته للنائب سليمان فرنجية الأخيرة، وقد أبدينا وقوفنا معه في هذا المطلب المحق».