أكاديمي سعودي: تراجعي عن أفكار «متشددة» عودة إلى الحق وابتعاد عن «مزالق الضعف»

أطل للمرة الخامسة.. وأكد أن الشريعة الإسلامية صالحة لجميع الحلول والمستجدات وقضاياها لا تتناقض ولا تتقابل.. بل تتكامل

حرص التلفزيون السعودي على إبراز تراجعات الدكتور الحميدي لإسهامها في انجلاء بعض من الأفكار المتطرفة في أذهان «المتشددين» دينيا في المملكة («الشرق الأوسط»)
TT

ما أجمل أن يتحدث شخص عن رجعة إنسان أو عودته إلى الحق، فهذا شيء جميل يدل على الفقه، ويدل على الخير، وما أجمل أن تنجلي بعض الشبهات التي تمس شيئا من أدق تفاصيل حياة المجتمعات - والحديث هنا عن المجتمعات التي تسير وفق أطر شرعية تستمد من القرآن والسنة - وتمس أمنها واستقرارها.

بهذه السطور والكلمات ذات الدلالة الواضحة والكافية الوضوح، خرج أكاديمي سعودي، يعمل في إحدى الجامعات السعودية، للمرة الخامسة، متراجعا عن بعض أفكاره المرتبطة ببعض من الأصول والاجتهادات الدينية التي أسهمت ظروف معينه في أن ينجلي بعض تفاصيلها، وتختلط بعض تشريعاتها على بعض المتحمسين، إلى أن قسمت من يسير في أطرها لجناحين، الجناح الأول معني بالسير وفق الأطر الشرعية التي لا تستوعب حدوث أي من أنواع الإفراط أو التفريط، والجناح الآخر معني بذات الضوابط، لكنه مختلف عن الأول كونه فضفاضا، يتغير بتغير الظروف الحياتية.

أكاديمي سعودي متخصص، يرى أن الشريعة الإسلامية التي تسير بلاده وفق ضوابطها، صالحة في تطبيقها لكل زمان ومكان، وليست خاصة فقط بعهد النبوة دون الأزمنة والعهود الأخرى.

وجاء الشيخ الدكتور عبد العزيز بن أحمد الحميدي، الأستاذ المساعد في كلية الدعوة وأصول الدين بجامعة أم القرى، للحديث عن بعض المعارضين الذين يأتون إلى مسألة التطبيقات ويعترضونها، معتبرين مسألة الولاء والبراء تتعارض مع تطبيقات تختص بالعقود التي تمنح إلى أهل الذمة، خصوصا في بلاد جزيرة العرب، أي في السعودية.

ويستند الحميدي إلى كون الشريعة الإسلامية مقدمة للحلول لكل المستجدات ولكل الظواهر، بل إن قضايا الشريعة لا تتناقض ولا تتقابل بل تتكامل، إن أخذ بعين الاعتبار الحرص على عدم حدوث خطأ في الفهم الذي قد يؤثر على بعض المفاهيم.

ودعا الأكاديمي سعودي، الذي يعمل في تدريس الشريعة الإسلامية وأصول الدين بجامعة أم القرى في مكة المكرمة، إلى إبراز مكامن القوة في المجتمع المحلي، وإبعاد مزالق الضعف، على اعتبار أنهما نقطتان تعبران بشكل أو بآخر عن مكامن المجتمعات الخاصة، التي تعبر إما عن قوة أو ضعف.

وأطل الحميدي للمرة الخامسة في محطة تلفزيونية سعودية رسمية، لتفنيد بعض الادعاءات التي قد تكون مستندا فقهيا لدى البعض، لكنها تحتاج في الوقت نفسه إلى تشريع ينفض عنها بعض الضبابية التي لحقت ببعض الاجتهادات الشرعية، وبات بعض من الفئات المجتمعية يستند إليها لتنفيذ آيديولوجية معينة، ربما تبتعد كل البعد أحيانا عن مصادرها الأساسية في الشريعة.

وأخذ رجل الدين السعودي على عاتقه مهمة الحديث عن مكامن القوة في المجتمعات الحضارية من وجهة نظره، التي تتطلب في ذات الوقت ما أسماه بـ«توعية المجتمعات عن المنزلقات»، التي قد يقع فيها مجتمع يصبح بعدها ضعيفا، أو يعاني من «زلات»، أو يعاني من مزالق ضعف قد تلبس لباس الدين وتعرض على شباب الإسلام وكأنها من باب الغيرة على دين الله ونصرة الإسلام والمسلمين.

وأكد الحميدي أن شرع الله المنزل، الذي تسير عليه الأمة التي أرادها الله أن تكون خير أمة أخرجت للناس، راعى في تأسيسه مقومات القوة لهذه الأمة جانبين اثنين، جانب تأسيس الحق، وجانب آخر هو الدفع لما يخالفه، وهو ما يسمى بـ«الشبهة» التي تعتبر من أعظم مداخل شياطين الإنس والجن، على حد سواء، لإضعاف دين العبد وانتمائه لأمته، وإطالة أمد الضرر وأمد الباطل، ومن هذا المنطلق اتفق العلماء على أن مرض الشبهة أخطر بكثير من مرض الشهوة، لأن صاحب الشهوة يرتدع، وفي الغالب لا يكون ضرره إلا على نفسه، لكن الشبهة، وبخاصة إذا تملكت واستحكمت ولم تجد الطبيب المعالج العارف بعمق المرض وحقيقته، فإن ضررها عظيم أولا في إطالة أمدها، وثانيا في عظيم ضررها، لأن صاحب الشبهة يضر نفسه ويضر غيره.

واستدل الشيخ الحميدي بالقول: «لو لاحظنا انحراف إبليس، عدو الله الأول، وما بعد ذلك، لوجدناه سبب شبهة وخطأ، ولذلك فرق العلماء بينه وبين الخطأ الذي وقع فيه أبونا آدم عليه الصلاة والسلام، فإن سببه كان الشهوة لأجل الأكل من الشجرة، وكانت توبته سريعة وندمه قريبا وعفو الله - سبحانه وتعالى - عنه أيضا عظيما وقريبا. أما خطأ عدو الله إبليس، فكان بسبب الشبهة التي جرته إلى مستوى أن يعترض على أمر الله بل ويخطئ الله ويقول: (أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ)، ولذلك كان ضررها عظيما، وكان صاحبها هو إبليس، أعظم مثال للضلال والفساد عبر التاريخ، وجعله الله أساس كل ضلال وفساد، ولذلك لو تدبرنا القرآن الكريم لوجدنا إجابة لإشكالات وتساؤلات وكشفا لشبهات، ولذلك يعجبني كثيرا قول شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - ليس لصاحب شبهة ولا بدعة من دليل إلا وفي ذات دليله، إذا كان يتعلق أو يستمد من النص الشرعي، ما يبطله، لكنه يعمى عنه بسبب أنه ما أراده وما قصد الحق لذاته، وإنما قدم نتيجة بالباطل وأراد أن يحمل عليها النص الشرعي، وهذا هو الفرق بين طالب الحق والباحث عنه، ومن يريد الفساد والضلال، فإنه يقدم النتيجة، ويعقد عزمه وقلبه عليها، ثم يتلمس هنا وهناك من الأدلة وعمومياتها ومتشابهاتها ما يسوق به هذا الباطل، ولذلك ربما يكون في ذات ما يريده ما ينقض باطله، ولكن يعمى عنه ويعمى عنه أيضا كل من أشرب باطنه».

ورأى الأكاديمي السعودي أن بعض الشبهات التي تصور المجتمع في أعين أفراده بأنه مجتمع انخرط في الفسق والفجور والكفر - وبعض هذه الشبهات توجه إلى المجتمع، إلى القضايا، إلى القوانين، إلى الأنظمة والتشريعات التي يحكم بها القضاء - يكون اسمها قوانين أو أنظمة أو تشريعات، وهي بالتالي ليست وليدة الشريعة الإسلامية، وهذا أعظم مدخل لخلخلة النسيج الاجتماعي لأي أمة، وهو القدح في مقدساتها التي بها تصل الحقوق وتدفع المظالم، بل هناك بعض الشبهات التي تتوجه إلى المجتمع، ويهدف منها إخراجه من دائرة الإيمان والإسلام والاجتماع والصف الواحد، ومنها ما يتوجه إلى القضاء في هذا المجتمع، بعضهم يقول إن القضاء لا يستند فقط على القضاء الشرعي، وإنما على الشريعة الإسلامية، فهذه شبهة ضعيفة، بل ومنحلة فاسدة من جهتين اثنتين واضحتين، الجهة الأولى النظام أو القرار الذي استند إليه بناء القضاء الشرعي في بلادنا هذه، فالنظام الذي بني عليه القضاء، مستقى من نصوص صريحة وواضحة، وإن القضاء في هذه البلاد (المملكة العربية السعودية) قضاء مستقل ليس لأحد سلطة عليه، إلا الشريعة الإسلامية، وحتى لا يكون الحديث نظريا، فقد أحضرت معي مادة، هي المادة الأولى في نظام القضاء، تقول إن القضاة مستقلون، لا سلطان عليهم في قضائهم لغير أحكام الشريعة الإسلامية والأنظمة المرعية، وليس لأحد التدخل في القضاء، وحتى لا يكون لأحد مدخل على قضية الأنظمة المرعية، فربما يبني عليها شبهة أخرى، يأتي نظام المرافعات ليفصل الأنظمة، بأنها تطبق على القضايا المعروضة أمام المحاكم الشرعية الإسلامية، وفقا لما دل عليه الكتاب والسنة، وتتقيد في الإجراءات المنظورة بما ورد في هذا النظام.

ويضيف الحميدي «هذا من جهة المرجعية النظامية أو الأساسية أو القرارية التي استند عليها البناء الشرعي في هذه البلاد، فهل يفهم من هذه المادة أنه إذا وجد نظام يتعرض للشريعة الإسلامية لا يطبق في المحاكم؟ والجواب: لا يطبق، لأن النظام الأساسي للحكم يعطيهم الاستقلالية، وليس عليهم سلطان إلا الشريعة الإسلامية، والجهة الثانية وهي أيضا مهمة، الواقع المعيش والعملي في هذه البلاد منذ أن قامت من نحو مائة سنة، القضاة هم خريجو دراسات شرعية متخصصون في أحكام الشريعة الإسلامية، يخضعون لاختبارات وإلى دراسات واسعة جدا في أحكام القضاء الشرعي الإسلامي، ويدرسون جميع أبواب الفقه التي يُحتاج إليها في باب القضاء، ويمارسون ذلك عيانا بيانا في محاكمهم لا سلطان لأحد عليهم، بل أزيد وأقول، ديوان المظالم وجد ليكون حاكما الجهات الحكومية والوزارات أيضا، والأجهزة الحكومية التي ربما يتظلم منها أي مواطن عادي فلها أنظمة داخلية، إذا شعر أي مواطن أنه تعرض للظلم، هناك جهة قضائية تستند إلى الشريعة، وكل يترافع إليها، ربما فرد واحد من أبناء المجتمع وربما جهاز كامل ومؤسسة كاملة من مؤسسات الدولة، وإذا أردنا أن نكون منصفين وواقعيين في طرح هذه القضايا، فلا سلطان لأحد عليهم إلا لمرجعيات الشريعة الإسلامية وأحكامها، مع ملاحظة نقطة مهمة جدا، وهي أن القضاء الشرعي عموما منذ فجر الإسلام للقاضي، وللحاكم مساحة معينة من الاجتهاد في جهتين اثنتين منصوص عليها ومعمول بها في كل أنظمة القضاء الشرعية في تاريخ الإسلام كله، منذ تكون الدولة الإسلامية أيام النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين».

وأكمل رجل الدين السعودي: «هناك قضايا كثيرة لا يمكن أن تجد لها نصا صريحا في الكتاب ولا في السنة، فيحتاج الحاكم أن يجتهد، وهذا مذكور في القرآن، ولذلك الإمام البخاري، عندما نرجع إليه، ألف كتابا كاملا سماه (الأحكام) ووضع بابا فيه بعنوان (باب متى يستوجب الرجل القضاء)، ويتحدث فيه عن صلاحيات القاضي، وأورد أثرا رائعا جدا عن الإمام التابعي المشهور بالحسن بن يسار البصري، يقول: لما نظرت في قوله تعالى (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ) ونظرت في قوله تعالى (وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ * فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آَتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ)، فقال الحسن: فعذر داوود في اجتهاده الذي لم يكن موافقا لمراد الله، وأثنى على سليمان بإصابته للحق، وهذا في أمور ليست من المنصوص عليها في كتاب الله، فلو كانت منصوص عليها عند داوود، لما حسن أن يجتهد فيها، بخلاف ما هو منصوص عليه عنده في الشريعة المنزلة عليه».

وفي قضية أخرى ثانية، مهمة جدا، وهي قضية الاجتهاد في تطبيق الحدود، يرى الشيخ الحميدي أنه إذا أدخل الاجتهاد في تطبيق الحدود، فهناك مسألتان قد يتعرض لهما في هذا الجانب، الأولى في الأنظمة التي بين أيدينا، أليست قوانين؟ وألسنا ندعو إلى أن لا يحكم بها؟ إذن لماذا توضع هذه الأنظمة التي هي قوانين لتحكم طرق المرافعات وطرق القضاء؟ والثانية هي أن القوانين إذا كانت تحكم الشريعة الإسلامية، في المادة الأولى من نظام الإجراءات الجزائية لنظام المرافعات، إذن فلنذهب إلى الأنظمة القوانين، وما دمنا نحكم بالشريعة الإسلامية فلماذا نأتي ونضع مواد ونحكم بها، فهي قوانين إجرائية وتنظيمية، سواء في باب المرافعات أو في باب مدى حقوق المترافع، ومدى حقوق صلاحيات المحامي مثلا، ومدى حقوق وصلاحيات القاضي وفق القواعد العامة، فهنا ماذا نقول؟ يقول الإمام مالك «يحدث للناس»، ومعنى يحدث أي يوضح بقدر ما أحدثه من إجراء، لا بد من ذلك، سواء سميناها «وضعية» أو سميناها «يحدث» أو غير ذلك، وهذه مساحة شرط، ووضعوا شرطا واحدا ضبطوه به الفقهاء، لا تتصادم ولا تتعارض مع حكم منصوص عليه.

وزاد: «في سنن أبي داوود صحابي مشهور اسمه أبو شريح الخزاعي كان اسمه أبو الحكم الخزاعي قال النبي – صلى الله عليه وسلم – لماذا كنيتك أبو الحكم؟ قال إن قومي وثقوا في، فكلما اختصموا في شيء احتكموا إلي فيه، فحكمت بينهم فقبلوا حكمي، قال أحسنت، ولا تخالف ما أمر الله أو هكذا قال. فالجواب في باب الإصلاح أو في باب ردع من اعتدى على أحد، بشرط أن لا يقع في حكمك وفعلك شيء يتصادم مع أمور صريحة واضحة في كتاب الله وفي سنة شرع الله المنزل، فأعطاه مساحة وصحح فعله وسدده، ثم قال الحكم هو الله وكرره، وقال له مَن أكبر أبنائك؟ قال: شريح، قال: أنت أبو شريح أحسن من أبي الحكم، لأن الحَكَم والحق هو الله سبحانه وتعالى، فيقول ابن القيم في (أعلام الموقعين) حيث ما تقع المصلحة وتدفع المفسدة، ويصل الحق وينصر المظلوم، فثم شرع الله، نص عليه أو لم ينص عليه هذا هو الأمر، وإلا لضاقت الأمور، وما وجدت أحدا يتصدى للقضاء وضيقت عليه واسعا والحادثات كثيرة، فعندهم الأصول كلية عامة، وعندهم أحكام شرعية عامة، وعندهم مصالح كبرى، وعندهم أمور يجب أن تصل حسب الاجتهاد، وعندهم مساحة من الاجتهاد، ولا يتصادم ذلك مع حكم ثابت لله، هذا هو القبول في القضاء منذ أن أقيم القضاء في الإسلام».

وعن الأنظمة القضائية التي يعمل بها، يصنفها الحميدي بأنها أنظمة وضعية منطلقة من الشريعة الإسلامية، وأن هذه الأنظمة إذا وجد فيها ما يتعارض فإن المحاكم الشرعية لا تطبق هذه المادة أو هذا الجزء من المادة التي تتعارض مع الشريعة الإسلامية، فالسؤال هنا إذن: لماذا نضع هذه الأنظمة إذا كنا نريد أن نحكم بالشريعة الإسلامية؟ فالمقصود تحقيق المصالح وتحقيق المصلحة بمختلف أنواعها على تقسيمات الفقهاء المشهورة. ويحدث الناس في الأحكام بقدر ما يحدثوا في القضايا والأمور، حتى قال شيخ الإسلام ابن تيمية عن المصالح المرسلة، إنها من محاسن مذهب الإمام مالك. ومراعاة المصالح من أعظم ما يمكن اعتباره في الأمور الشرعية، بل ربما يحق لولي الأمر والقاضي، ولا نقول القاضي يعطل أو يؤخر تنفيذ بعض الأمور الشرعية لمصلحة ظهرت عنده فاقت تطبيق قضية عينية، ولو كانت شرعية لحكم أكبر وأعظم، وهذه سنجدها عندما سنتحدث عن قضية الحدود، وكيف أنه حصل في عهود الخلفاء الراشدين إيقاف لبعض الحدود بحسب ظروف معينة اقتضت المصلحة - بحسب تقديرهم الاجتهادي وهذه قضية مهمة جدا – إيقافها. ويجب مراعاة المصلحة لأن المقصود من الأحكام، والمقصود من الحدود، إيصال الحقوق وردع المجرم والآثم والمتعدي، فهذه مصلحة كبرى عامة، فمتى حصلت - وسنذكر شواهد عندما نتحدث عن الحدود، لأن الحدود هي صورة واضحة تظهر فيها قضية المصالح - فثم شرع الله، كما قال ابن القيم في تحقيق هذه المصالح سواء كانت مصالح معتبرة أو المصالح المرسلة، وهي دائرتها أوسع وأرحب بكثير، على طريقة الإمام مالك التي اعتبرها الشيخ ابن تيمية من محاسن مذهبه. فهناك، ما دمنا ذكرنا مسألة الحدود، بعض الشبهات تتوجه إلى هذه المسالة، أن الحدود في هذه البلاد لا تقام كلها، وإنما يقام بعضها، والبعض الآخر لا يقام، نظرا لأن هذه الحدود تقع من بعض الوجهاء أو بعض أصحاب النفوذ، ويضربون بعض الأمثلة مثل الزنى، يقول: لم نسمع على مر الزمن أنه يوجد شخص أقيم عليه حد الرجم، وأعلن عن ذلك، وكذلك حد قطع اليد في السرقة، فكيف نستطيع أن نرد عليهم، نرد عليهم من عدة أمور أو أوجه، الوجه الأول لا يلزم من عدم سماعك عدم الوقوع – كما يقال – كما لا يلزم الحاكم ولا القاضي ولا ولي الأمر إذا أقام حدا أن يعلنه لكل فرد، ولكل قاص ودان، وأن يتم من باب أن يشهد عذابها طائفة، ولو شهد أربعة أشخاص من أصحاب الحقوق أو من الذين عليهم الجناية يكفي ذلك، ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لعبد الله بن أنيس: «اذهب يا أنيس إلى امرأة هذا، رجل واحد، فسألها فإن اعترفت فارجمها»، فذهب واعترفت ورجمها ولم يجمعوا جمعا عليها من أهل المدينة، وقالوا عدم العلم ليس علما بالعدم، عدم علمك لا يعني عدم وقوع هذا الحد أو ذلك الحد، أو أن ولي الأمر عطله بالكلية وألغاه وأزاله، أما الأمر الثاني: القاضي والحاكم وولي الأمر في باب الحدود بالذات، إذا رفعت إليه وبلغته ووصلته. وتشوف النبي صلى الله عليه وسلم إلى درء الحدود حتى بأدنى الشبهات، وكان عليه الصلاة والسلام يخاطب الناس خطابا عاما ويقول: «تعافوا» الحديث في أبى داوود: «تعافوا الحدود فيما بينكم ما أمكن» مهما أمكنت، وتتعافى الحدود ولو بشيء من الصلح الذي يجبر الخواطر قبل وصولها وبلوغها إلى الحاكم والسلطان والقاضي، وفي لفظ للحديث «إن الله يحب العفو فتعافوا الحدود فيما بينكم ما أمكن»، رواه أبو داوود والنسائي. هناك أمور منصوص عليها في الشريعة يجب أن يراعيها الحاكم والقاضي والوالي قبل إقامة الحد، سواء حد الزنى أو حد السرقة أو حد القصاص، فلا كل من قيل له أو شهد أي شاهد أو كان مطعونا في شهادته ونحو ذلك، أنه فعل ما يستوجب قيام الحد عليه.

ويؤكد أستاذ الفقه أن هناك موانع وشروطا يجب إن تتوفر وعندها نقيم الحد، وأن تنتفي الموانع من الشروط، واستيفاء الشهادة بشهادة العدول، أو وقوع الاعتراف التام بغير جنون ولا ضغط، ولا إكراه، كما جاء شخص إلى النبي، فقال زنيت فأقم علي الحد فقال: «لعلك قبلت..» لعلك غمزت لعلك كذا، إلى آخر الحديث، فالرسول صلى الله عليه وسلم يلقنه ما يتراجع به، وقال الحافظ بن حجر في بعض كلامه: «وأجمع العلماء على جواز تلقين صاحب الحد ما يدرأ به الحد عن نفسه، أي يلقن من القاضي لا من غيره».

ويرى الأستاذ المساعد في كلية الدعوة وأصول الدين بجامعة أم القرى أن هناك موانع من تطبيق الحد، ومثال ذلك حد السرقة عام الرمادة في المصنفات وغيرها، أوقف عمر بن الخطاب رضي الله عنه حد قطع يد السارق، ولا يستطيع أحد أن يقول إن عمر عطل الشريعة ولا ألغى الحدود أو أوقفها، لماذا؟ لأن من شروط إقامة حد السرقة أن لا يكون السارق مضطرا جائعا منهكا، فالجوع به حد الاضطرار، فسرق لكي يدفع عن نفسه ضرر الجوع، كما يضطر لأكل الميتة، ولأكل لحم الخنزير.

فعند إزالة المانع يرجع مرة أخرى إلى تطبيق الحدود، وكذلك إقامة الحدود في دار الحرب، كما اتفق على ذلك الصحابة المهاجرون، فلما كان عمر وعثمان يبعثون السرايا والجيوش للفتح، فلو أن أحد الجنود وهو يحارب في أحد الثغور ارتكب موجب الحد، زنى أو سرقة أو شرب المسكر، لا يحد حتى يرجع إلى دار الإسلام ثم ينظر هل فعل ذلك اضطرارا، ثم هل يقام عليه الحد أو لا يقام، وهناك اعتباران قضائيان، الأول: ربما لو أقيم عليه الحد وهو في دار الحرب يجعل المسألة تكبر في ذهنه ويقول أنا أقاتل ثم يحدون علي، وربما يرتد، أو يسيء الظن بالمسلمين وتقع مفسدة أعظم في الثغر الذي هو فيه. والثاني: حتى لا يطمع أهل الكفر فيهم، ويقولون انظروا إن المجاهدين الذين يجاهدون معهم وجنودهم يضربونهم ويقطعون أيديهم، هذا دين ربما يكون فيه صد حتى عن سبيل الله، فمن الحكمة أنهم أخروا ذلك، طبعا نحن نقول ذلك لتقريب المسألة، وأريد أن أنبه هنا إلى أنه لا يجب أن نتجه إلى الفهم السلبي في مثل هذه القضايا، وأنا شخصيا قرأت لبعض الكتاب اليساريين - مما يسمون أنفسهم كتاب اليسار الجديد – أنهم ذكروا مثل هذه الشواهد وبنوا عليها قضية مرحلية الحدود، وأن الحدود ليست قضايا شرعية دائمة، وإنما هي مرحلية، فلما رأى الصحابة أن لا حاجة لها ألغوها، فليس بهذه الطريقة ينظر إلى هذه القضايا، وإنما هم أوقفوها لعدم استيفاء شروطها، كما حصل في عام الرمادة، أو لمصالح أكبر، كعدم إقامة الحد في دار الحرب، حتى يعود الجنود إلى ديار الإسلام، ثم ينظر القضاة والحكام في موجبات إقامة الحد، فإذا أتمت أقاموه، وإذا لم تتم درأوها بأدنى شبهة.

ويقول الحميدي: «أقول هذا الكلام وغيري يقوله لا تبرير للعاصي ولا تهوين في حدود الله ولا تسويغ لأحد أن يعطل حدود الله، بل يجب على كل حاكم وقاض بأن يقيم حدود الله ويجتهد في ذلك ما أمكن، ولكن نقوله تقريرا للحق ولكي ندرأ منكرا أعظم، وأنا شخصيا كانت مشكلة عندي تعطيل الحدود».

ويضيف: «أنا شخصيا كنت أقول أنه لا يجب أن نوقف حدا من حدود الله لقوله تعالى: (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ)، وكنت أظن ذلك أنه يتناول كل شيء وكل حادثة بعينها دون النظر إلى أي اعتبار، وبالتالي نقع في حكم أخطر وأضل، وفي البداية كانت دفعتنا الغيرة على حدود الله، لماذا لم يطبق ولماذا لم يفعل، فوجدت لما رجعت إلى تفاسير الآية (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ)، جمعتها ودرستها باستفاضة، وما أقول ذلك مدحا، ولكن لأزيل شيئا عن نفسي أنا قبل غيري، ولكن أسوق هذا ليستفيد منه من يستفيد، فالنبي - صلى الله عليه وسلم – يقول: (السعيد من وعظ بغيره) ولا بأس بذلك، ولا عندي مانع أن أقول هذا الكلام عن نفسي إذا كان غيري سيستفيد منه، هذا يسعدني ويفرحني، ولو قيل عني ما قيل في ذلك، لأنه يدرأ شرا كثيرا حتى رجعت - والعلم عند الله - إلى مخطوطات في هذا الجانب، وجدتهم لا يخرجون عن ثلاثة أقوال في نظرتهم هذه، فمنهم من يراها خاصة باليهود والنصارى ولا يقاس عليها غيرها، وهذا قول قتادة، ومن لم يحكم، ومنهم من يراها كفرا دون كفر، وظلما دون ظلم، وهذا مروي عن ابن عباس، وقد سماه كفرا ولكنه، كما قال عليه الصلاة والسلام: (اثنتان في أمتي فيهما كفر: الطعن في النسب، والنياحة على الميت)، والقول الثالث أعجبني كثيرا، قال إمام مشهور وهو الإمام أبي إسماعيل القاضي في كتاب له اسمه (كتاب أحكام القران) هذا عالم متقدم من أصحاب الإمام مالك - رحمه الله - نظر في هذه الآية ونقل الخلاف فيها، ثم قال: ويظهر مما قاله العلماء أن هذه الآية لا تنطبق إلا على من اخترع حكما يضاهي به حكم الله ويصادمه ويلغيه، ثم جعله دينا يتدين الناس به ويعملون به ملغيا لذلك دين الله».

ويستخلص الشيخ الحميدي أن الإنسان قد يحكم بشيء ويكون مخطئا ويكون في ذلك معارضة لحكم الله ولكنه جاهل، لأنه أخطأ وما انتبه وما استوفى الأدلة، لكن المضاهاة لأحكام الله وجعل الحكم دينا يدين الناس به، فهذا قول إسماعيل القاضي، فصارت الآية بعيدة عن النظر في تطبيق الحدود، وحتى لو وصلنا إلى أسوأ الاحتمالات، وهو عدم إقامة الحد على شخص ما كمحاباة أو مجاملة، فلا يدخل ذلك في حكم الآية «وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ»، لا من قريب ولا من بعيد، وهذا اطمأننت له اطمئنانا كاملا بعد استيفاء هذه القضايا، وهذا الباب معني بالبحث الطويل، مثل هذه الأمور عبرة لمن يعتبر.