في مفترق الطرق (الحلقة الأخيرة): برهم صالح: لم أشعر بالندم لعملي في السياسة فقد أعطتني فرصة لمعايشة أحداث مهمة

رئيس حكومة إقليم كردستان يروي مذكراته لـ«الشرق الأوسط»: نتحدث أنا وزوجتي في السياسة دون أن تتدخل في عملي

برهم صالح لدى تفقده ــ أيام كان نائبا لرئيس الوزراء العراقي ــ أعمال إعادة إعمار شارع المتنبي في بغداد الذي دمرته تفجيرات («الشرق الأوسط»)
TT

يختتم برهم صالح، الذي لم تغيره جميع المواقع التي عمل بها، والسلطة التي يتمتع بها، حديثه في هذه المذكرات، قائلا: «إن لم يحتط الإنسان من السلطة فستكون مفسدة، وعلى الأقل أذكر نفسي بأن كرسي السلطة لن يدوم لأحد، في النهاية والأهم ماذا ستعمل في السلطة؟ وكيف تستخدمها؟ هناك من يتملقون المسؤول ويبعدونه عن أجوائه الحقيقية، لكن الحقيقة هي أن شرعيتنا مستمدة من الناس، وأنا لا تغيرني الأوصاف أو الألقاب ولن تغير في طباعي أي شيء».

وكانت واحدة من أبرز خطوات حكومة صالح في الإقليم هي تخفيض أو التحرش بميزانية الأحزاب السياسية، خاصة مخصصات الحزبين الرئيسيين، حزبه، الاتحاد الوطني الكردستاني والحزب الديمقراطي الكردستاني الحليف لهم، إذ كانت هذه المخصصات تعتبر مقدسة ولا يمكن المساس بها، لكن صالح أقدم بجرأة على هذه المغامرة بـ«دعم كبير من قبل رئيس الإقليم مسعود بارزاني»، حسبما يشير، مؤكدا أن «ما قمنا به من إصلاحات كان جزء منه باتفاق سياسي داخل الحزبين.. وكان هذا مثبتا في البرنامج الانتخابي للقائمة الكردستانية، وكان هناك دعم من قبل الرئيس مام جلال، الأمين العام للاتحاد الوطني الكردستاني، والأستاذ مسعود بارزاني رئيس الإقليم، والتأكيد على تنفيذ الوعود التي قطعناها للمواطن في الإقليم». ويشدد هنا «على أهمية المحافظة على ما تحقق من إنجازات في السابق، فما تحقق خلال العشرين سنة الماضية من عمر الحكومة الكردية ليس قليلا، والحكومة السابقة برئاسة زميلي وأخي نيجيرفان بارزاني قدمت الكثير وكذلك الإخوة الذين سبقوه، وفي ظل ظروف بالغة الصعوبة، ويجب أن نقيم ما تحقق، وحماية المكتسبات التي تحققت، ولكن بلا شك هناك مشكلات في وضع إقليم كردستان من حيث الأداء الحكومي والشفافية ووجود مكامن للفساد، وقد بادرنا من أجل المضي بهذه السياسة الإصلاحية التي هي نتاج سياسة ودعم الحزبين الرئيسيين في الحملة الانتخابية، وليست سياسة شخص واحد. نعم، عندما نمضي في تنفيذ برامج الإصلاح ستكون هناك مصالح تتضرر، وهناك من لا يروق له ذلك. ولكن الخط العام هو دعم هذا البرنامج الطموح؛ لأنه التزام أخلاقي علينا، كما أنه خارطة طريق مأمونة للنجاح، وخدمة للشعب».

واحدة من أكثر المشكلات أو المصاعب تعقيدا في إقليم كردستان التي جابهت صالح هي حالة التداخل بين ما هو حكومي وحزبي فالأحزاب الكردية، خاصة الحزبين الرئيسيين، يعتبرون أن الحكومة ملكهم ولهم، بينما جاءت توجهات رئيس الحكومة الجديد الإصلاحية على الضد من هذا التوجه، ويوضح قائلا: «حالة التداخل بين الحزب والحكومة موجودة، وهي موروثة نتيجة الاقتتال الداخلي وانشطار الإدارة، ولكننا عندما نقوم بفصل الحكومة عن الحزب يجب أن نضعها في سياقها الصحيح، ونحول الحكومة إلى حكومة المواطنة، وليست حكومة هذا الحزب أو ذاك. معالجة حالة التداخل الحزبي مع الحكومة يجب أن تكون ببعد نظر، ووفق سياقات إدارية متأنية ليس من بينها التحول الدراماتيكي. أنا أقول إن الحزب تضرر نتيجة هذا التداخل؛ لأن كل مشكلات الحكومة انعكست سلبا على الحزب. ولكن في أي نظام ديمقراطي يقرر الحزب الفائز في الانتخابات، وهو في كردستان القائمة الكردستانية، سياسة الحكومة، حكومة المواطنة التي يجب أن تراعي أسس الكفاءة في اختيار المواقع الحكومية، وليس من خلال التزكية أو المحاباة الحزبية، ويجب أن يكون هناك تكافؤ فرص لكل المواطنين، ولكن فصل الحزب عن الحكومة لا يعني ألا يكون للحزب أي دور في الحكومة، بل على العكس يجب أن يرسم الحزب سياسة الحكومة، حتى يكون مسؤولا عن نجاحها أو إخفاقها أمام الجماهير في الانتخابات الدورية، فأنا عضو قيادي في الاتحاد الوطني، واختياري لهذا الموقع، رئاسة الحكومة، يأتي ضمن الحسابات السياسية. وفي كردستان، وبسبب ظروف الاقتتال الداخلي والحالة التي عشناها، حصل تداخل بين الحزب والحكومة، ويجب تنظيم هذه العلاقة وفق الآليات القانونية».

من يسبر المجتمع الكردستاني سوف يلمس، ربما مثل الكثير من المجتمعات في الشرق الأوسط، فروقات في الثقافة والتقاليد والعادات بين أهل مدنه، وفي حالة الإقليم تتركز هذه الاختلافات بسبب الموروث السياسي الذي عاشه أنصار الحزبين، والذي كان قائما على التناحر على السلطة، والاقتتال الداخلي، وكان متوقعا أن يواجه صالح، القيادي في الاتحاد الوطني، وابن مدينة السليمانية، مشكلة تقبله من قبل أهالي مدينة أربيل، عاصمة الإقليم، الذين يشكل جزء كبير منهم جمهورا للحزب الديمقراطي الكردستاني. فعندما تولى نيجيرفان بارزاني رئاسة الحكومة في الإقليم، تقبل الأربيليون ذلك، كونه ابن مدينتهم وقياديا في حزبهم، وحفيد زعيم ثورتهم الخالد ملا مصطفى بارزاني، ونجل أحد رموز الثورة الكردية، إدريس بارزاني، لكن برهم صالح لم يجابه مشكلة قبوله أو تقبله في أربيل بوضوح، وإن كانت هذه الإشكالية موجودة وبتستر بالغ، حتى إنه يشاع أن بارزاني كان يهتم بإجراء الإصلاحات والبناء في مدينتي أربيل ودهوك، بينما يصب صالح اليوم جل اهتمامه على مدينته السليمانية»، ويقول صالح: «لا يمكن لي سوى أن أشكر إخواني في الحكومة الذين يتواصلون معي من أجل إنجاز برنامجنا الإصلاحي، والسيد رئيس الإقليم، مسعود بارزاني، حقيقة كان ولا يزال داعما لهذا البرنامج الإصلاحي. نعم الظروف لم تكن سهلة، بدءا بتداول السلطة والظروف التي رافقت ذلك في داخل الاتحاد الوطني، لكن، والحمد لله، الأمور تجري بصورة جيدة، وأنا أتعامل مع الأمور كحكومة، وليس كحزبي، وهنا في خدمة الناس ومصالح الحزب، ويتمثل ذلك في تعزيز التعاون بين الحزبين الرئيسيين»، منبها إلى أن «الأخ نيجيرفان بارزاني كان رئيسا لحكومة الإقليم، وأنجز شيئا مهما، ألا وهو توحيد حكومة الإقليم بعد عقد من تقسيم الإدارة، وقدم إنجازات كبيرة لإقليم كردستان، وأنا أعتز بصداقته وبما أنجزه خلال الفترة الماضية، طبعا ظروفي تختلف عن ظروف بارزاني، وحرصي على دهوك وأربيل يجب أن يكون نفسه على السليمانية وهذه حقيقة متجسدة، لكن السليمانية تعرضت في الفترة الماضية إلى مشكلات داخلية بسبب الصراع الداخلي في الاتحاد، وهذا ليس فقط موقفي شخصيا، وإنما موقف الحكومة ككل. وكما أن دهوك وأربيل بحاجة إلى دعم؛ فإن السليمانية بحاجة إلى الدعم نفسه لتجاوز إشكاليات الماضي، فأنا حريص على دهوك التي زرتها مرتين، كما أني حريص على كل مدن وقرى الإقليم».

لكن المعركة الأهم التي يخوضها صالح، وحسب تأكيده هي أن «الفساد آفة في هذا البلد، وعلينا ألا نبالغ في ذلك، فمحاربة الفساد لا تتم من خلال الخطب الرنانة في التلفزيون أو وسائل الإعلام للتشويش على إنجازات الحكومة الكردستانية. ومن دون أن ننفي وجود فساد في الإقليم، لكننا نتعامل مع هذا الملف بصورة قانونية، وضمن سياقات إدارية، إذ قدمنا للبرلمان الكردستاني مشروع قانون هيئة النزاهة، وسيتم توحيد ديوان الرقابة المالية في الإقليم بعد فترة قليلة، في ضوء ما تم الاتفاق عليه مع البرلمان، وصارت هناك مراجعة للعقود وآليات التعاقد الحكومي، وأملي أن هذه المبادرات المؤسساتية، والتفاعل بين الحكومة والبرلمان، وتعزيز الدور الرقابي سوف يساعدنا في هذا الاتجاه».

ولا يتردد صالح في الإقرار بأن المسؤولية تضامنية في الإخفاقات والإنجازات، ويقول: «أنا كنت ضمن منظومة الحكومة الاتحادية. أعتقد أن المسؤولية تضامنية سواء لجهة المنجز أو لجهة الإخفاقات. هناك منجزات كثيرة تحققت يمكن أن تشكل قاعدة صلبة لإطلاق الجهود في الإصلاح والتطوير. كما هناك تحديات لا يُستهان بها تواجهنا في الفترة القادمة على الصعد كافة. الدرس البليغ من التجربة الحالية، أن العراق بحاجة إلى حكومة أكثر تجانسا وانسجاما ورفض المحاصصة، على الأقل فيما يتعلق بمفاصل خدمية واقتصادية حيوية وأتمنى أن تكون حكومة منسجمة ومتفقة على برنامج واضح وصريح لخدمة المواطن، حكومة ترفض نهج الاستئثار والإقصاء، وترفض أيضا هذا النمط من المحاصصة التي كانت أشبه بتقاسم السلطة والذي بات معرقلا للقرارات المطلوبة للتعاطي مع التحديات السياسية والأمنية والاقتصادية».

ومع ذلك، يتفاءل صالح بقوله: «أرى المستقبل واعدا، ليس للعراق من خيار إلا أن ينجح، وأنا أقول إن إرهاصات السنوات السبع الماضية ومشكلاتها تملي علينا وتدفعنا باتجاه النجاح، لا يمكننا أن نقبل بالفشل على الرغم من أنها مليئة بالتحديات والمشكلات لكنني واثق من أن مستقبل هذا البلد واعد وسيوفر للعراقيين وللمنطقة نموذجا جيدا إن شاء الله».

ولعل أبرز ما حققه صالح من خلال موقعه في الحكومة الاتحادية، هو إطلاق «مبادرة العهد الدولي» والتي هي ميثاق للالتزامات المتبادلة بين العراق والمجتمع الدولي لمساعدة العراق في الإيفاء بالتزاماته في بناء عراق ديمقراطي اتحادي مزدهر آمن مع نفسه ومع محيطه الإقليمي والدولي، وتوطيد علاقاته مع المثقفين العراقيين من خلال تأسيسه ورئاسته لهيئة أمناء الملتقى العراقي، كما تعود لجهوده، الفضل الأول والأخير في إعادة إعمار شارع المتنبي ببغداد بعد أن تم تدميره بحادث تفجير إرهابي فظيع أدى إلى مقتل العشرات وحرق مكتباته التاريخية وهدم أبنيته التراثية.

واحدة من الظواهر التي تشكلت في إقليم كردستان، هي ظهور النجم السياسي الذي يتفوق على النجم الرياضي والفني والثقافي، ويعد صالح أحد أبرز وجوه هذه الظاهرة، فأينما ذهب تجد الناس يتحلقون حوله لالتقاط الصور التذكارية معه والحصول على توقيعه، وتتكرس هذه الظاهرة بوضوح عندما يكون بين طلبة جامعات إقليم كردستان التي عرف عنه اهتمامه بها وبطلبتها، ومع نهاية العام الحالي ستكون هناك 11 جامعة في الإقليم، ومع أن هناك نسبة عالية من البطالة وغالبيتهم من خريجي الجامعات، فإن صالح يدافع عن حق الشباب في التعليم، يقول «أنا أعتز بشبكة علاقاتي مع الشباب والقوى الفاعلة في المجتمع سواء في الإقليم أو على مستوى العراق كله، ودائما أحاول أن أستمد الرؤى والأفكار والعزم من هذا المنبع الأصيل. وليس هناك من مشروع سياسي يحمل رؤى طموحة للمستقبل لا يشكل الشباب عماده وأساسه. كنت وسأظل أدعم المشاركة الشبابية في مواقع المسؤولية والمشاركة كافة، وبما يتوفر لدي من إمكانات وفرص لتمكين الشباب والمرأة. ولكن أقول لهم جميعا إن الفرصة لا تطرق الأبواب، بل يجب انتزاعها بالمثابرة وتطوير القدرات والتمكن من الفرص التي يجب تهيئة أسبابها، وإن شاء لله سأكون دوما من دعاة التجديد والمشاركة الفاعلة للشباب في المجالات المختلفة»، مشيرا في ذات الوقت إلى أنه «مع ترشيد التعليم العالي، وأن يتمتع الخريجون بمؤهلات علمية عالية من حيث اللغة والاختصاص، نعم عندنا في العراق أعداد كبيرة من الخريجين، لكن مستوى التعليم ليس بالمستوى المناسب. هذا جانب، في الجانب الآخر ليس لنا أن نمنع الناس من التعلم تحت ذريعة أنه ليس هناك فرص عمل لهم، المطلوب هو أن تجد فرص تعليم عال متطور، وفي الاختصاصات التي نحتاجها وتحتاجها السوق المحلية، وإيجاد فرص عمل للخريجين، وهذه مهمة الحكومة، وتفعيل القطاع الخاص، ومعالجة مشكلة البطالة لا يعني أن نمنع الناس من التعلم، وإبقاءهم في مستويات تعليم محدودة، بل علينا أن نعمل على تأهيلهم ورفع مستواهم العلمي والمهني، وذلك من خلال المعاهد والمدارس المهنية أيضا. نعم مشكلة بطالة الشباب كبيرة، وعلينا أن نفعل النشاط الاقتصادي الخاص، فمثلا مشاريع الإسكان في الإقليم وفرت أكثر من 150 ألف فرصة عمل، وهناك مشاريع صناعية وزراعية وسياحية، وهذا هو الطريق لمعالجة مشكلة البطالة»، منبها إلى أنه «من مؤسسي الجامعة الأميركية في السليمانية ورئيس هيئة الأمناء فيها ولدينا قسم دراسات الكومبيوتر. فقبل سقوط النظام السابق كنت أتمنى افتتاح الجامعة الأميركية في السليمانية لتأتي بالنمط الدراسي الأميركي، ابنتي تدرس في أميركا، وابني درس هناك أيضا، أنا درست في بريطانيا، بتصوري أن هذا النمط من الدراسة متطور ولا نستطيع أن نرسل كل الطلبة إلى أميركا للدراسة، لكننا نستطيع أن نأتي بالجامعة إلى بلدنا وأن تكون بمثابة المحفل الذي يجتمع فيه كفاءات المستقبل. وهذه الجامعة على نمط ما موجود في بيروت واسطنبول والقاهرة، وفي كثير من الدول الأخرى، وأردتها أن تكون جامعة أميركية في العراق وليس فقط في كردستان وأبوابها مفتوحة لطلبة العراق من مختلف المحافظات، من جنوب وغرب ووسط وشرق وشمال العراق، كي يختلط هؤلاء مع إخوانهم الكرد، فهؤلاء نواة مستقبل وتطور البلد، والجامعة قطعت أشواطا مهمة وناجحة وأتمنى أن تكون تجربة رائدة في عموم العراق. لدينا مشروعا (واعدون) و(هيوا «الأمل») لمساعدة طلبة الجامعات للنهوض بمستقبل البلد والتأكيد على المشترك بين شباب العراق في كل مكان وهذا المشترك هو التفوق وخلق شبكة تواصل بينهم، أنا أعتز بشريحة الطلاب وارى أن من واجبي خدمة الجامعات لأهميتها في المجتمع».

ومن المؤكد أن اهتمام صالح بالجامعات وبأهمية أن يحصل الشباب على تحصيل علمي عالي المستوى له علاقة بتفوقه الدراسي منذ طفولته وحتى حصوله على شهادة الدكتوراه في تطبيقات الكومبيوتر العملية، وهو مولع باستخدام الكومبيوتر، إذ لا يتنقل من غير أن يكون معه في سيارته، أو مكتبه، وفي بيته بالتأكيد، أنواع من أجهزة الكومبيوتر المتطورة، يقول: «اللاب توب، والآي باد، والآي فون، أصدقائي المفضلون الذين يرافقونني دائما، اكتب فيها كل شيء وكذلك أتصفح الإنترنت، أنا أحب التكنولوجيا، وعندي ولع بأجهزة الهاتف الجوال وأغيرها باستمرار مع ظهور أي هاتف حديث في تقنيته، حاليا أنا استخدم الآي فون ففيه ألعاب فكرية مسلية، عندي اهتمام بالتكنولوجيا وأعتبرها مهمة جدا وهي عامل مهم في تطوير الناس وخدمتهم ولدينا الآن مركز كبير للتقنيات في الإقليم، ونحن بصدد توسيع المكتبات الرقمية، ولدينا مشروع في مضمار الحكومة الإلكترونية نريد تطويره في بعض الوزارات لتسهيل أمور الناس».

يتمنى صالح، أن يكون يومه أكثر من 24 ساعة لإنجاز برامجه الحكومية والحزبية، ويقول: «أنا أحب العمل، لا شيء يسعدني مثل العمل، وأفضل العمل خارج حدود المكتب، فالحركة بين الناس تسعدني وتمنحني طاقة إضافية». لهذا هو يعتبر ميدان عمله الحقيقي خارج بناية رئاسة الوزراء، متنقلا بين وداخل مدن الإقليم بعدد محدود للغاية من السيارات، اثنتين وفي أكثر الحالات ثلاث، ويحرص على قيادة سيارته بنفسه كي يتحرر بعض الشيء من جلوسه وراء المكتب، من دون أن ينسى أن يشرب الشاي هنا، أو يتناول قطعة خبز هناك وسط السوق وبين الناس، فهو الأشهر بين المسؤولين العراقيين بحبه لشرب الشاي ويقول: «ذات يوم شربت أكثر من 60 استكان (قدح) شاي، وذات مرة كنت أتجول في السوق، بعد أن صرت رئيسا للحكومة، قال لي أحد المواطنين: كان الله في عونك، وكان الله في عون أعدائك».

ويشرح صالح برنامجه اليومي، قائلا: «يوم عملي طويل، طويل جدا، ومع ذلك لا أشعر بأنه يكفي لمعالجة ملفات الحكومة والحزب، هناك تداخلات حزبية كبيرة في العمل الحكومي في كردستان، وهذه واحدة من أكبر المشكلات التي تتعرض لها الحكومة وهي من مخلفات الصراع الداخلي بين الحزبين الكرديين، وهذه الحكومة مطالبة بإصلاح هذا التداخل، ونحن بصدد وضع إصلاحات هي ليست سهلة لكننا نعمل عليها»، منوها بأن «العمل السياسي والحكومي يأخذ جل وقتي، وأحاول بعد الساعة العاشرة مساء أن أتفرغ لمشاهدة الأفلام الأجنبية في التلفزيون، أو ما يبعثه لي أبنائي من أفلام على الاسطوانات المدمجة، في الأقل أخصص ثلاثة أيام في الأسبوع لمشاهدة الأفلام السينمائية، كما أنني قارئ نهم لكتب التاريخ خاصة، كانت آخر مرة قرأت فيها رواية عندما كان عمري 17 سنة، وقبل فترة قرأت كتابا عن تاريخ جنكيز خان واكتشفت أن حياته مختلفة عما قرأناه في المدرسة، فهذا الرجل قام بتغيير في موازين القوى والعلوم العسكرية، أقرأ التاريخ الإسلامي، وكذلك العلوم الاجتماعية فقد أعدت قراءة (علي الوردي ولمحاته الاجتماعية) لأكثر من ستة مرات حتى الآن، وسأعيد قراءة الجزء الخامس الذي يتحدث عن بدايات تأسيس الدولة العراقية الحديثة التي فيها الكثير من المقاربات مع الوضع الحالي، كما أقرأ للكاتب حسن العلوي وأنا معجب بأسلوبه السردي وسبره للقضايا الاجتماعية والسياسية بشجاعة نادرة، غير هذا هناك 50 دقيقة رياضة يوميا وعلي علاج روحي للتنفيس عن ضغط العمل اليومي». ويشكو صالح من ضيق وقته وازدحام أعماله اليومية، قائلا «عائلتي ليس لها إلا الوقت القليل للأسف وهم زوجتي وابنتي وابني، إنهم يتحملونني كثيرا، يشكون من ذلك لكنهم يتحملونني وأنا أشكرهم على ذلك. أما أصدقائي فألتقي بهم كل خمسة أشهر، نجتمع عائليا مع زوجاتنا ونتحدث في أمور شتى، وعلى الرغم من حرصي على ألا نتحدث بالسياسة إلا أن غالبية أحاديثنا هي عن السياسة والناس، هؤلاء أصدقائي منذ أيام الدراسة الثانوية». ويهتم صالح، ، منذ فتوته، وحسب إفادات أصدقائه ومعلميه، بمظهره وأناقته، وبقي هكذا حتى اليوم، ويقول: «أنا أتولى اختيار وشراء ملابسي وأحيانا تساعدني زوجتي في ذلك، كما تختار لي ابنتي بعض القمصان أو أربطة العنق الأنيقة».

وتسود عائلة صالح أجواء من المحبة والتفاهم، فتشنجات العمل السياسي لا تدخل معه إلى بيته، وهذه العلاقة نتيجة سنوات طويلة من التفاهم حيث تداخل فيها العمل السياسي بالاجتماعي، لكنه لم يؤثر سلبا على الحياة العائلية، وأتذكر، كنا نسجل هذه المذكرات عندما اتصلت به ابنته هاتفيا من أميركا معلنة عن حزنها الشديد لعدم حضور والدها، الشخص الأكثر قربا إلى حياتها وروحها، حفل تخرجها في الجامعة، فهي تعرف أن برهم صالح والدها، ومن حقها أن تتعامل معه كابنة، وأن يهتم هو بها كأب، مع أنها تعرف ضغوطات عمله الحكومي والسياسي، حدث هذا بينما كان يتهيأ للسفر إلى السليمانية للمشاركة في أعمال المؤتمر العام للاتحاد الوطني، أشاح صالح وجهه حيث فرت دمعتان من عينيه كونه لم يكن في تلك الساعة إلى جانب ابنته في أهم مناسبة بحياتها الدراسية، ثم علق: «من حقها أن تعتب وتحزن، فهي بالتالي تنظر إلى كاب أولا وأخيرا، لكن عليها أن تدفع ضريبة عمل والدها وانشغالاته السياسية». ويستطرد قائلا: «ابنتي هي أفضل أصدقائي، والعائلة تستخدمها للتأثير علي، أما ابني فعلاقتي معه هي علاقة أب وابن لكن اهتماماته الآن بالبيئة والصحافة جعلتنا نقترب أكثر لنكون أصدقاء، ومن الصعب المفاضلة لكن ابنتي هي صديقتي.واستمع لآراء زوجتي السياسية وأنا أثق في آرائها، لكن هذه الآراء لا دخل لها بعملي، أستمع إليها باعتبارها مجرد آراء ليس إلا، فهناك اتفاق أنه لا تداخل بين حياتي العائلية وعملي السياسي. وأنا اشدد على عدم تدخل العائلة في عملي أو في الشأن السياسي لأن هذا التدخل في شرقنا مضر جدا، وأنا اشكر زوجتي لعدم تدخلها، وهذا لا يمنع من أن أشاطرها (زوجته) أسراري السياسية وأتحدث معها عن مشكلاتي من غير أن تتدخل. وأنا لا أتدخل في توجهات ابني واعتقد أنهما لا يحبذان التورط في العمل السياسي لما عاشاه من معاناة بسببي، وسياسي واحد في العائلة يكفي».

كان لتأثير الاسم الذي منحته عائلة زوجته لابنتها، سرباخ، والذي يعني في اللغة الكردية (الزهرة الزاهية في الحديقة)، وربما هذا ما دفعها بوعي، أو من دونه، لأن تختار دراسة الزراعة والاهتمام بالزهور والأشجار، لكن من المؤكد أن السبب الأهم هو إدراكها لأهمية الزراعة في كردستان التي كانت جبالها زاخرة بأشجار البلوط والكروم وأنواع من الأشجار المثمرة قبل أن تحترق بنيران الحروب التي شنت على كردستان لعشرات السنين، ويقول صالح: «زوجتي مهتمة بالزراعة وتحمل شهادة دكتوراه في البستنة وربما أثرت علي في تقديري لأهمية الزراعة والبيئة، ورغم ذلك فهي لا تعمل في الحكومة وما دمت موجودا في منصبي فلا أتمنى لزوجتي أو أبنائي أو أي من أفراد عائلتي تبوء أي منصب رسمي».

ويشير صالح إلى أنه يدون كل ما يمر به من أحداث، ويقول: «أنا أكتب يوميا على اللاب توب مذكراتي وكل ما يجري في يومي، وفيها الكثير من الأسرار التي ستنشر يوما ما في كتاب بعد تقاعدي».

ومع كل ذلك، يعترف صالح قائلا: «حتى اليوم لم أشعر بندم لعملي في السياسة، السياسة وفرت لي معايشة أحداث مهمة، فأنا شهدت سقوط النظام السابق وكنت في حمأة تهيئة العراق للوضع السياسي الجديد، لا أشعر بالندم بل أشعر أني محظوظ وأني لعبت دورا مهما لشعبنا وبلدنا»، مؤكدا أبانه يخطط بدقة لمستقبله بقوله: «أنا اخطط لمستقبلي لكن أهم درس في السياسة، وبالذات في السياسة العراقية هو أنك لا تستطيع أن تخمن ماذا سيحدث في الغد فهناك الكثير من المتغيرات. والآن أنا منهمك في أداء واجبي في حكومة إقليم كردستان، ولي طموح أن أبقى ناشطا وفاعلا في المجال السياسي والثقافي مستقبلا. وعندي طاقة لخدمة الناس، طموحاتي كبيرة على الرغم من اعتقادي بأني محظوظ إذ توفرت لي فرص لم تتوفر لغيري».

ويعرب صالح عن أنه مدين لدراسته وتجاربه في العمل والتي أضافت له الكثير من الخبرات العملية التي أعانته في النجاح بعمله الحكومي، ويقول: «درست الهندسة وعملت باحثا في تطبيقات الكومبيوتر في مجال الإحصاء وحصلت على شهادة الدكتوراه في هذا المجال»، منبها إلى أن «منهجية البحث العلمي مهمة في العمل الإداري، لكن أهم تجربة لي كانت عملي مهندسا استشاريا في شركات بريطانية رصينة، تعلمت من خلالها فنون الإدارة وأساليبها وما تزال هذه التجربة مفيدة لي في عملي الإداري».

أما عن سر توازنه فقد بين أنه يبقى برهم صالح، كما نشأ وبنى نفسه أخلاقيا ومبدئيا وعلميا، وكما عرفه أهله وأصدقاؤه دون أن تغيره السلطة ومغرياتها، فيقول «إن لم يحتط الإنسان من السلطة فستكون مفسدة، وعلى الأقل أذكر نفسي بأن كرسي السلطة لن يدوم لأحد، في النهاية والأهم ماذا ستعمل في السلطة؟ وكيف تستخدمها؟ هناك من يتملقون المسؤول ويبعدونه عن أجوائه الحقيقية، لكن الحقيقة هي أن شرعيتنا مستمدة من الناس، وأنا لا تغيرني الأوصاف أو الألقاب ولن تغير في طباعي أي شيء».