أكاديمي سعودي: من فجر سيارة وحصد أرواحا بريئة جنى على «الإسلام» جناية فادحة خطيرة

قال إن الجهاد شوه كثيرا وأصبح مصورا لـ«التدمير وقتل الأنفس وعدم احترام حقوق الآخرين»

الشيخ الدكتور عبد العزيز بن أحمد الحميدي
TT

أخذ أكاديمي سعودي على عاتقه تبيان فضل الجهاد في سبيل الله في الإسلام، كونه ذروة سنام الإسلام، وأعظم الأعمال وأزكاها وأيسر الطرق إلى رضوان الله - عز وجل - واستدل بقول الرسول، عليه الصلاة والسلام، في الحديث الشريف: «لولا أن أشق على المسلمين ما قعدت خلاف سرية».

وعاد الشيخ الدكتور عبد العزيز بن أحمد الحميدي، الأستاذ المساعد بكلية الدعوة وأصول الدين بجامعة أم القرى، للحديث عن «الجهاد» الذي يعتبر فريضة عظيمة، شوهت كثيرا خلال السنوات الماضية، حتى أصبح الجهاد مصورا بأنه التدمير، وبأنه قتل الأنفس، وبأنه عدم احترام حقوق الآخرين. وعرف الحميدي الجهاد في الإسلام، واعتبره «كلمة عظيمة وجذابة ومغرية، وهو ذروة سنام الإسلام، ولا يستطيع أحد مهما كان، أن يقلل من شأنه أو يحجمه، لكن الجهاد - كما ذكرت - شعيرة مشروعة تخضع كغيرها من التعبدات الكبرى لشرع الله وضوابطه وتحقيق مصالحه، فليس القتل، كقتل، مقصودا في الجهاد، فضلا عن التدمير والقتل العشوائي وإحداث الرعب، إنما هو وسيلة من وسائل إيصال الخير والهدى والحق للناس، وهذا الكلام لا أقوله أنا، وإنما هو الفهم بنص كتاب الله، عز وجل، في سورة الحديد، قال الله تعالى: (لقد أرسلنا رسلنا بالبينات والهدى وأنزلنا معهم الكتاب والميزان)، فـ(الميزان هو الشريعة) ليقوم الناس بالقسط، وقوله: (وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب إن الله قوي عزيز)».

في هذه الآية بين الله - جل وعلا - أنه أرسل الرسل والأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - وأنزل معهم البينات، وهي الحجج الواضحات البينات الدالة على صدقهم، والدالة على وجوب عبودية الله - جل وعلا - وأنزل معهم الكتب والشرائع والميزان ليوزن به الحق والباطل، والهدى والضلال، وليؤمن من يؤمن عن بصيرة، ويكفر من يكفر عن بينة ويحيا من يحيا عن بينة ويهلك من يهلك عن بينة، ثم أخبر - عز وجل - أنه أنزل الحديد، الذي هو آلة الحرب الأساسية ومنه تصنع جميع أنواع الأسلحة التي يتقاتل بها الناس ويتحاربون عبر التاريخ البشري كله، وأخبر أن هذا الحديد فيه بأس شديد وفيه منافع للناس وليعلم الله - سبحانه وتعالى - من ينصره ورسله بالغيب؛ لذلك يقول الشيخ ابن تيمية في هذه الآية كلاما عظيما - مذكورا في جزء الجهاد في مجموع الفتاوى - يقول: متى اجتمع الكتاب الهادي مع الحديد الناصر حصلت المقاصد العظمى في ظهور الحق ودفع الباطل، والضرر كل الضرر والخطر إذا افترق الكتاب الهادي عن الحديد الناصر، عندها يتحول الحديد ليس إلى ناصر للكتاب ومثبت للحق ودافع للباطل، وإنما آلة قتل وتدمير عشوائية لتفريغ أحقاد وإحن وثارات وغارات تلبس ربما بلبوس المقاصد الشرعية، يؤكد هذا المعنى إمامنا البخاري - رحمه الله - ونرجع له لأنه مصدر عظيم من مصادر العلم، وضع كتابا ضخما جدا ضمن كتبه الجامع اسمه كتاب «الجهاد والسير»، قال هكذا: كتاب الجهاد والسير، والسير جمع سيرة؛ لذلك يقول شرح الحديث كالحافظ وغيره: السير جمع سيرة ومنها سيرة النبي - صلى الله عليه وسلم - باعتبار أن الجهاد إنما يكون جهادا على منهاج الله ومراده، إذا كان على سيرة النبي - صلى الله عليه وسلم - ومنهجه وطريقته وما وضعه النبي من أهداف وغايات ومن وسائل محققة لتلك الأهداف والغايات، أما إذا افترق اسم الجهاد عن المنهج، كما افترق الحديد الناصر عن الكتاب الهادي، صار اسمه جهادا اسما، وهو في الحقيقة قتل عشوائي وتدمير وإثارة للأحقاد وتأليب لشعوب الأرض، لا معنى لاستعدائها إلا المزيد والمزيد من القتل من كلا الطرفين.

وصدر البخاري - رحمه الله - وهذه نقطة مهمة جدا، كتاب الجهاد والسير بآية من سورة براءة العظيمة التي تعتبر من أعظم الآيات الدالة على فضل الجهاد، قال الله تعالى: «إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعدا عليه حقا في التوراة والإنجيل والقرآن ومن أوفى بعهده من الله فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به وذلك الفوز العظيم»، ثم وصف هؤلاء المجاهدين.. من هم؟ قال: «التائبون العابدون الحامدون السائحون الراكعون الساجدون الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر» ثم قال: «والحافظون لحدود الله». لو لاحظنا سياق الآية في صفات هؤلاء الذين وصفهم الله، جميع الصفات ذكرت من دون حرف عطف، «التائبون العابدون الحامدون»، من دون ذكر الواو، إلا لما جاء عند «والحافظون لحدود الله» أدخل حرف العطف الواو، وهذا، كما يقول أهل التفسير، زيادة المبنى لا بد أن تدل على زيادة المعنى، فلابد هنا من معنى زائد وهدف قرآني في كلام الله - جل وعلا - لما أدخل حرف العطف عندما ذكر الحافظين لحدود الله، وإدخال حرف العطف الواو هنا له وجهان في التفسير كما ذكره أهل التفسير.

الوجه الأول: أنها عطف على الصفات السابقة، ولكن أدخل حرف الواو لينبه على عظم هذه الصفة، وأنها هي الضابطة وهي الموجهة لحفظ حدود الله وشريعته ومقاصد الشرع في فكرة الجهاد، وفي أعمال المجاهدين وفي أخلاقهم وتصرفاتهم وما يحقق هذه الحدود وهذه الضوابط دون ما لا يحققها، وأعجبني كلام للقرطبي؛ حيث قال: إنما جاء هنا بكلمة «لحدود الله» ولم يقل والطائعين لله مثلا، ليبين أن الجهاد كغيره محدود بحدود وضوابط وقواعد وشرائع.

فالجهاد عبادة مثل أن الصلاة عبادة ومثل أن الزكاة عبادة ومثل أن الصيام عبادة، والصلاة والزكاة والصيام لها شروط وحدود، فالجهاد من أعظم العبادات بلا شك، وشروطه هي حدود الله «والحافظون لحدود الله»؛ لذلك فالوجه الثاني من تفسير الواو قد يجيب عن بعض الأسئلة، وهو أنه أتى بالواو، لأنها ليست حرف عطف - كما اختاره بعض المفسرين - وإنما استئناف، ذكر الجهاد والمجاهدين في آية «إن الله اشترى..» وذكر شيئا من صفاتهم مثل التوبة، وكذا، ثم ذكر فئة أخرى هي القائمة على أعمال هؤلاء، هي الموجهة لها، المبينة لها، ما الحدود؟ وما الشروط؟ وهم الحافظون لحدود الله وهم العلماء الحافظون لشرع الله ودينه وشروط الأعمال التعبدية، كما حفظوا تفاصيل الصلاة وما ينقضها وما يبين صحتها، وأمور الصيام وأمور الحج، فإذا استرشد أولئك المجاهدون وضبطوا أفعالهم بتوجيه أهل الكتاب الهادي، الحافظين لحدود الله، حصلت المقاصد الكبرى، وهنا قضية مهمة جدا، أرجو أن نعطيها قدرا من التأمل: الإنسان كإنسان تتحكم فيه دوافع ونوازع، هكذا كان من أصل خلقته وجبلته، كما يقول علماء سابقون وأصحاب دراسات نفسية، وأيضا يؤكد ذلك من درسوا علوم النفس.. تتحكم في الإنسان دوافع تخرج وتتفرع من ثلاثة دوافع أساسية، يسمونها: القوة الشهوانية، والقوة الغضبية، والقوة العقلية. القوة الشهوانية، تعريفها: أن الإنسان مجبول على شهوات: يحب المال، يحب الشأو والظهور، يحب مثلا النساء، ويحب كذا ويحب كذا، هناك شهوات، فإذا استجاب لشهواته وتحكمت فيه هذه الشهوات صارت القوة الشهوانية مسيطرة عليه، فهذا في الغالب لا يرعى شرعا ولا يرعى أن هذا ما حرمه الله، وأن هذا حد من حدود الله؛ لأن القوة الشهوانية تدفعه إلى ذلك.

القوة الغضبية: هي التي تتعلق معنا بباب الجهاد، فالجهاد قتال وحرب وهو كره للنفوس «كتب عليكم القتال وهو كره لكم» فلا يتقدم له في الغالب إلا من هم مجبولون أصلا على الشجاعة والقوة، قوة القلب وقوة النفس؛ لأن به أهوالا عظيمة، فصارت القوة لمن يفعلون هذا الأمر هي القوة الغضبية، والقوة الغضبية إذا لم تنضبط بالحافظين لحدود الله، تصبح مثل القوة الشهوانية، تدفع إلى تجاوز حرمات الله وحدوده في هذا الباب، وبني على ذلك مقصد كبير من مقاصد الجهاد، الجهاد شرع لتكون كلمة الله هي العليا، شرع حتى لا يعبد إلا الله سبحانه وتعالى بشرع الله، شرع لاستنقاذ المستضعفين «ما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان»، شرع لمقاصد عظيمة فإذا كان القائمون به تغلب عليهم القوة الغضبية وتجتمع معها القوة العقلية في الإعجاب بالرأي، ليقود إلى القوة الغضبية، بالتالي سينغلق عليهم الهدف الحقيقي من الجهاد فتتحول نوازعهم النفسية إلى الانتقام والقسوة وإحداث أكبر قدر ممكن من الرعب وإثبات الوجود، وبالتالي إيقاع أكبر عدد من الضحايا. فالقوة العقلية تفلسف وتلبس هذه القوة الغضبية الشهوانية مقاصد شرعية يعجب بها، فينغلق عليه الصناع من غيره من الحافظين الحقيقيين لحدود الله من العلماء، وربما انقلب عليهم متهما لهم فتقع المفاسد الكبرى، ويتجه من الجهاد المرضي لوجه الله، ومن ذروة سنام الإسلام، ويحقق الغايات الكبرى إلى أداة قتل مع ما يجتمع على ذلك من التشويه العظيم وإساءة الظن بهذا الاسم العظيم الذي اسمه الجهاد؛ لأنه وظف في غير مكانه بدافع القوة الغضبية والقوة العقلية، بإلباس المقاصد الشهوانية والمقاصد النفسية الانتقامية وغيرها من لبوس المقاصد الشرعية، ويصبح في موضع التهمة، وفي موضع سوء الظن، سواء من كثير من أصحابه، أو من خصومه وأعدائه من الكافرين، فيلصق بالإسلام سوءا عظيما وشرا كبيرا، وقد يقول قائل، قد يسأل الشاب: هل يعقل أن شخصا يقدم على الحرب والوغى ويلقي بنفسه في مواضع الهلاك، وتكون له أغراض نفسية وشهوات ولا يكون مقصده الفعل العظيم؟ الحرب فيها إزهاق للنفوس.. القتل من أعظم الكبائر، نعم قد يتجرأ عليه، وهو قد يكون أكثر حماسا له ممن تدفعه القوة الغضبية، وليس هذا الكلام من فراغ أو كلاما خياليا، وإنما هو كلام واقعي ويصدقه الواقع، كما سأذكر أدلة على ذلك وقصصا واقعية من عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - ونزل القرآن الكريم ليبين هذا المقصد ليكون لنا نبراسا.. فكيف تنحرف مقاصد الجهاد العظمى وأهدافه الكبرى ووسائله العظيمة من وسيلة عبادية ترضي الله - عز وجل - وتحقق المقصود من إظهار أمر الله؟

فالجهاد اسم عام تدخل فيه فروع كثيرة، أولها وأساسها جهاد النفس في طاعة الله ومجاهدة النفس عن الوقوع في معصية الله.

وهنا سؤال: هل المفهوم الموجود الآن في المجتمع، عندما نقول إن الجهاد لنصرة الإسلام والمسلمين ولنصرة المستضعفين، لا يتجه مطلقا في فكر كثير من الناس إلا إلى القتال، إلى القتل بالذات ليس إلى القتال فقط؟ هذا مفهوم غير صحيح؛ لأن الجهاد كما قلنا جهاد النفس، كما قال عليه الصلاة والسلام: «المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه» مع أن الهجرة قد يفهم منها الانتقال من مكان إلى مكان، من دار الإسلام إلى مكان آخر، لكن من هجر ما نهى الله عنه هو مهاجر في حياته كلها إلى أن يموت، وما نهى الله عنه هو الشهوات في الغالب، كذلك ليس القتل من القتال في شيء قد يستوجب القتال لدفع عدو صايل، لدفع شر معين، لدفع فئة باغية بقدر ما يدفع الشر ويوقف، أما القتل العيني بالشخص ذاته فهو غير مقصود حتى في حروب النبي - صلى الله عليه وسلم - مع الكفار؛ حيث إنهم ما كانوا يجهزون على جريح، وما كانوا يقتلون أسيرا، وما كانوا يتبعون مدبرا في الغالب، وإنما اكتفوا بكسر شوكة الكفار عندما يصلون إليهم دون القتل العيني المقصود بذاته، والأبلغ من ذلك، وهو عبرة عظيمة تؤصل إلى ما تدعو إليه، أننا نعرف ما حدث للنبي والصحابة يوم أحد؛ حيث انقلبت المعركة رأسا على عقب عليهم، ووقعت مقتلة عظيمة لكبار الصحابة على رأسهم سيد الشهداء حمزة - رضي الله عنه - ووصل الأذى إلى شخص النبي - صلى الله عليه وسلم - حيث شج وجهه الشريف - عليه الصلاة والسلام - وكسرت رباعيته، ودخلت حلقتان من حلقات المغفر في وجنتيه، وجعل يمسح الدمع عن وجهه - هكذا في البخاري - هذا موضوع الشاهد، جعل يمسح الدمع عن وجهه، فأي بلاء أشد من أن يتمكن الكفار والمشركون من إيذاء النبي - صلى الله عليه وسلم - في شخصه حتى أسالوا دمه وكادوا يقتلونه لولا أن الله - عز وجل - حماه وحفظه؟ قال كلمة فقط فيها نوع - ما نقول انتقاما - فيها نوع من الحكم على هؤلاء الكفار؛ فهم كفروا وأشركوا وقتلوا المؤمنين، وكادوا يقتلون سيد المرسلين، فما بعد هذه الجريمة من جريمة، يمسح الدمع عن وجهه ويقول: «اللهم كيف يفلح قوم أدموا وجه نبيهم؟!» هذا حديث البخاري من رواية ابن عمر وغيره، فينزل القرآن عليه يعاتبه حتى في هذه - هذا من أغرب ما وقفت عليه، عجيبة جدا - فينزل عليه قوله تعالى: «ليس لك من الأمر شيء» يعني: حتى وأنت الرسول الكريم، حتى وقد بلغ الأذى إلى شخصك، لا تجعل لنفسك في هذا حظا مطلقا. فقد يتوب الله عليهم، يتوب على بعض هؤلاء الذين يقاتلونك أو يعذبهم، هذا أمره فيهم، فإنهم ظالمون، قد يعذب بعضهم، قد يسلم بعضهم، وهذا ما حدث؛ حيث قلب المشركون، بقيادة خالد بن الوليد، المعركة على المسلمين، ماذا كان منه بعد ذلك لما أسلم؟ كان سيف الله المسلول. الحكم والغايات الكبرى هذه تلغى فيها الحدود.

فهنا نريد أن نتحدث عن نقطة؛ كيف ترى الأمر عندما يكون المربي أمام طلابه وهو يربيهم على إنتاجية عالية للأمة على طلب العلم، العلم الشرعي، العلم الدنيوي، أيضا علم الطب، علم الهندسة، العلوم الأخرى التي تنقل الأمة من المرحلة التي هي فيها إلى مراحل متقدمة، بل تجعلنا نقف كما كنا سابقا، نقف عندما كانت الأمة تهتم بالعلوم.. العلوم التي جعلتها في مصاف الأمم، ألا تعتقد أنه عندما يأتي أهل التربية ليربوا الأبناء.. عندما يأتي الأب ليربي ابنه.. عندما تأتي الأمة لتربي ذاتها وأبناءها وأفراد المجتمع؛ بأن يجعل الجهاد في كل حركاتهم وسكناتهم في طلبهم للعلم.. في صناعتهم.. في إنتاجيتهم.. حتى التجارة، عندما يبتغي الإنسان بكل هذا نقلة إلى مقدمة الأمم وإلى مصاف الأمم، هو يستطيع أن يكون من المجاهدين، بل حتى لاعب الكرة قد يدخل في مفهوم الجهاد عندما يمثل أمته تمثيلا قويا في مصاف الدول لينقل الأمة إلى مصاف الأمم في قوتها، ألا تعتقد أن هذا المفهوم يشمل أيضا مفهوم الجهاد؟ هنا أريد أن أطرح الفكرة من جهة معينة وهي مفهوم التعبد، ومفهوم العبادة مفهوم واسع، ويستطيع المسلم أن يجعل كل ما يفعل وكل ما يأتي ويدع يدخل في باب التعبد والعبادة لله، ويحقق له أعظم الثواب والأجر عند الله سبحانه، حتى أفعاله التي يفعلها بحكم الطبيعة والجبلة البشرية كطعامه وشرابه ونكاحه ومعاشرته لأهله ونومه، فضلا عن ممارسته للتجارة وكسبه الرزق الحلال.

تعليم الجاهل وتطبيب المريض ونقل الأمة إلى مستوى من الوعي والتخلص من العالة والتبعية لغيرنا التي تعودنا عليها منذ سنين، مثلا في أمور الطب أو في أمور الصناعات أو في أمور الهندسة أو في غيرها من العلوم، هذا هدف شريف عظيم.. إذا كان نومك وطعامك ونكاحك تكتسب بها أجر الله وانضبطت فيها بشرع الله انقلبت كلها في حقك إلى عبادة عظيمة، فمن باب أولى، كما قال معاذ بن جبل لما قال له أبو موسى الأشعري، وقد بعثهما النبي إلى اليمن ليعلما الناس ويدعوا إلى الإسلام ويؤماهم في الصلاة، فأبو موسى - في حديث البخاري - يسأل معاذا: كيف تصنع في ليلك؟ فالنهار تقضيه في القضاء بين الناس والتعليم، وفي الليل ماذا تصنع؟ قال: قسمت ليلي نصفين: نصف أنام فيه فأجم نفسي وارتاح، وقسم أقوم فيه أصلي وأحتسب نومتي كما أحتسب قومتي.. وأبرع منه، وهو قائدنا النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: «وفي بضع أحدكم صدقة» قالوا: أيأتي أحدنا شهوته ويكون له أجر؟ قال: «أرأيت لو وضعها في الحرام - يعني في الزنا والفجور - أوما كان عيه وزر؟».

قالوا: بلى. قال: «كذلك لو وضعها في الأمر الحلال»، يعني انضبط بأمر الله يريد أن يعف نفسه، وفي هذه المقاصد تكون الشهوة المحضة التي قد لا يتصور فيها معنى التعبد، عبادة.

قد يكون لدينا قصور في أن نفهم الجهاد في كل مناحي الحياة، لأن مفهوم الجهاد هو الرقي بهذه الأمة والانتقال بها إلى مكمن العزة والنصرة، ولهذا أي فعل يؤدي إلى النصرة، إلى النصر، إلى القمة، هو من أفعال الجهاد - هذه نقطة مهمة - لكن دعني أشرح المفهوم الذي يتداول كثيرا في المجتمعات بأن الجهاد قتال.. عندما نقول: إن الجهاد هو القتال، هناك مفاهيم كثيرة نحاول أن نطرقها ونبينها ونسبر العمق فيها، لنجد هل هي متفقة مع النص الشرعي أم لا، يعني يقال إن الجهاد هو غاية بذاته، من دون النظر إلى النتيجة، بمعنى: أن الإنسان يريد أن يجاهد حتى لو أدى ذلك إلى إنهاء الأمة كلها، ما دام يجاهد، فهذا هو المراد.. ولذلك هل الشهادة غاية لذاتها؟ أو هل القتال؛ قتال الكفار، غاية بذاته؟ وهكذا.. هل هذا مصطلح شرعي؟ وهل هذا يندرج تحت النص الشرعي أو المفهوم الشرعي، أو الرأي للجهاد في سبيل الله؟ قد يكون هذا هروبا من العمل الكبير لتربية النفس والصبر على حدود الله والقيام بأمر الأمة، كل في مجاله، هروب - كما يقال هروب للأمام - يقول: أذهب وأقتل نفسي وأنتقل إلى هنا وأحصل على كذا، ليس هذا أبدا مقصودا، ومن يتأمل شرعية الجهاد في السنة النبوية يرى هذا ظاهرا، فالقرآن يقول: «قاتلوهم حتى لا تكون فتنة»، وانظر هنا «فإن انتهوا فلا عدوان إلا على الظالمين».

إذن، ليست القضية قضية القتل، نعم ليست قضية قتل.. لا للنفس، ولا لغيرها مقصودة. ولا الجهاد لذاته، لا.. أبدا، وخذ هذه القصة العجيبة: وحشي بن حرب، العبد الحبشي الذي قتل سيد الشهداء حمزة (عم رسول الله، صلى الله عليه وسلم) يوم أحد بأمر هند بنت عتبة انتقاما، لأن حمزة قتل أباها وعمها يوم بدر ولم يقتله فقط بل مزقه، ثم مثل به، قطع أذنيه وجذع أنفه وبقر بطنه واستخرجت هند كبده ولاكتها، يعني في فمها، يعني لو كان هناك أي مجال لأخذ الثار والانتقام فيكفي ما حدث هذا.

ذكر البخاري قصة وحشي مفصلة في الصحيح في باب حمزة في غزوة أحد، ولما فتح النبي - عليه الصلاة والسلام - مكة، خاف وحشي وقال: الآن سينتقم مني. فهرب إلى الطائف، وقال له بعض من كان في الطائف: إذا أردت أن تسلم فاذهب مع وفد سنبعثه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فذهب مع الوفد إلى المدينة، فلما رآه الصحابة استوقفوه، ثم قالوا للنبي: يا رسول الله هذا وحشي، أي: ماذا تأمر الآن؟ فقال عليه الصلاة والسلام: «دعوه»، قال: «وقد جاء يريد الإسلام؟»، قالوا: نعم، قال: «دعوه»، هذا عند الترمذي والطبراني وبأسانيد حسنة للحافظ وصححه في الفتوى.. «دعوه، فإن إسلام رجل واحد أحب إلي من قتل ألف كافر»، هذه قاعدة، قاعدة عظيمة، شرعية، المقصود: إسلام الخلق، المقصود: هداية الخلق لا قتلهم؛ بدليل أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو الموتور من قتل عمه من هذا الشخص، لو كان هناك مجال لأي غرض نفسي أو لاختصار القضية الكبرى وهو الآن المنتصر والظاهر، ومن ذا سيسأله إذا قتل عبدا حبشيا، أو سيسائله؟ لكن إسلام رجل واحد أحب إليه من أي شيء، لأنه بعث رحمة للخلق وهداية لهم. فالجهاد لم يكن يوما من أجل القتل والقتال لم يكن هدفا بذاته، وإنما هو وسيلة لغاية - كما قلنا في صدر آية الحديد - وهو لنصرة الكتاب الهادي لإبلاغه لمن يمنعه، ويحرم الناس منه، لا لقتل الكفار كقتل مقصود بذاته لأشخاصهم وأفرادهم. لذلك فإن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قرر أن الجهاد هو الجهاد في سبيل الله - عز وجل - وليس الذي يجاهد حمية، ولا انتقاما، ولا من أجل أغراض نفسية، ليقال إنه شجاع، ولا لأنه محترف للقتال، أو لأنه قوي.

كنت أريد العودة، وهذا عود على بدء، إلى قضية القوة الغضبية التي تغلف وتلبس، وإذا أردت أن أذكر شاهدين من السيرة النبوية على فساد المقاصد والنيات المغلفة بهذا الاسم الجذاب، الجهاد والقتل والشهادة وبلاد الكفار، بينما هي في حقيقة الأمر عند كثير من النفوس ليست لله ولا لرسوله ولا لدينه. ففي صحيح البخاري، أخرج البخاري حديث سهل بن سعد الساعدي، قال: التقى النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه مع المشركين وتحاربوا وتقاتلوا وكان في أصحاب رسول الله رجل لا يدع للمشركين شاذة ولا فاذة إلا تتبعها بسيفه، حتى قال الصحابة، وهم كبار المجاهدين وكبار الشجعان: يا رسول الله، ما أبلى أحد اليوم مثل ما أبلى فلان. فصعقهم النبي وفاجأهم بخبر ما يخطر على بال هذا المقاتل الصنديد والمجاهد العنيد مع رسول الله وتحت رايته الشريفة المباركة وبذل الجهد العظيم في قتال الكفار، يقول عليه الصلاة والسلام: «إنه من أهل النار». فصعق القوم حتى قال بعضهم - كما في بعض ألفاظ الحديث-: ومن سيكون منا من أهل الجنة إذا كان هذا من أهل النار؟ - وأنا قلت قبل قليل: قد يستغرب كيف يقاتل رجلٌ الكفار وتكون مقاصده فاسدة وقوة غضبية، ويغلف بهذا ويفلسف وهذا شاهد حي - فقال بعض الصحابة: لا بد هناك أمر سأتبع أمره، وأنظر ما شأنه، فتبعه وكان على حاله حتى كان من آخر النهار، أصابته جراح فوضع نصل سيفه في الأرض، فاتكأ فقتل نفسه، فمات منتحرا قاتلا لنفسه، فجاء ذلك الصحابي للنبي وقال: أشهد أنك رسول الله. قال: «وما ذاك؟»، قال: الذي قلت عنه في النار حصل له كذا وكذا، قال: «قم يا بلال فأذن في الناس إن الجنة لا يدخلها إلا نفس مؤمنة، وإنما الأعمال بالخواتيم»، وإن الرجل - وهذا موضوع شاهد عظيم - ليعمل بعمل أهل الجنة فيما يبدو للناس، وهو من أهل النار، وإن الرجل ليعمل بعمل أهل النار، فيما يبدو للناس، وهو من أهل الجنة.

ومثلها وأعظم منها في الدلالة ونزل القرآن يصدقها قصة محلم بن جثام الليثي، فيها عبرة استوقفتني كثيرا، قرأتها وجمعت أسانيدها وحللت فيها، وحقيقة دفعتني للنظر في هذه القضية الخطيرة وأبعادها العظيمة، فهي قصة عجيبة جدا، ولأنها عجيبة نزل القرآن فيها، الحديث أخرجه الطبري في التفسير بسند صحيح من حديث ابن عمر، وأحمد في المسند في حديث عبيد الله بن عبد الله الحضرمي الأسلمي، والقصة في صحيح البخاري أصلها من حديث ابن عباس، وهذا تخريجها، بعث النبي - صلى الله عليه وسلم - سرية قِبل أضم، ناحية من نواحي العرب في الحجاز، وكان فيهم في هذه السرية رجل من أصحابه اسمه محلم بن جثام الليثي - وهو أخو الصحابي صعب بن جثام الليثي المشهور - فنزلوا واديا، فمر بهم رجل اسمه عامر بن الأضبط الأشجعي وكان مسلما ولا يعرفون أنه مسلم، فسلم عليهم وقال: السلام عليكم، إني أخوكم المسلم - هكذا في الطبري وفي غير الطبري وعند إسحاق في السيرة - أشهد ألا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، يخبرهم بأنه مسلم، فالقوم كلهم لأنهم عقلاء، أهدافهم واضحة، كفوا عنه، أما محلم فكان بينه وبين هذا الرجل عامر بن الأضبط إحن وثارات في الجاهلية، فثارت عنده هذه القوة الغضبية الانتقامية لبعض إحن الجاهلية التي من المفترض أن الإسلام أبطلها وأفسدها، ويريد أن يستغل كونه الآن مجاهدا في سرية نبوية بعثها النبي - صلى الله عليه وسلم - وعقد رايتها بيده الشريفة، فمن الذي سيتهمه؟ ومن ذا الذي سيكشف خبيئة نفسه؟ فقام إليه فقتله وأخذ بعيره وما معه من متاع، ولما رجعوا وأخبروا النبي - صلى الله عليه وسلم - بقصة عامر بن الأضبط، أهم هذا الأمر هما عظيما.. لماذا؟ لأن أهل القتيل ما ذهبوا إلى محلم القاتل، وإنما ذهبوا إلى قائده وإلى رئيسه وإلى نبيه الذي عقد له الراية وبعثه مجاهدا، ليقولوا له هكذا: إن صاحبنا قتل تحت رايتك وباسمك - وبعض ألفاظ الحديث عند أبي إسحاق - هذا صار اتهاما للإسلام وليس للنبي، ولا النبوة، يعني هذا القاتل ما انضبط لأمر الله، غلبت عليه شهوته الغضبية، قالوا: أبعثت لقتل المسلمين؟ يعني نحن في حيرة من أمرنا، قال ابن عمر فأهم النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر هذه القضية هما عظيما، ودخله كرب شديد، وقد يسأل سائل: أين وجه الهم؟ وأين وجه الخطأ العظيم؟ لنجعلها جريمة قتل، وجريمة قتل رجل موجودة ومطروقة كثيرا، يعني لماذا هنا تقع القضية الكبرى؟ واهتم النبي - صلى الله عليه وسلم - وسينزل القرآن فيها، وسيقع لهذا محلم المصير المظلم كما سأذكر؛ لأنه حمل جريمته على اسم الشريعة، سيقول الناس كلهم: هذا قتله المجاهدون. لا يقولون قتله رجل من العرب لثارات عربية، قتل باسم الإسلام، قتله أصحاب النبي، قتل تحت راية النبي، هذا ما صنعه أهل القتيل؛ حيث جاءوا وقالوا: أبعثت لقتل المسلمين؟ فقبلوا الدية، وذهب ما في نفوسهم لما رأوا - كما يقول ابن عمر - مما وقع على النبي من الهم والكرب الشديد، فهنا تقع الكارثة العظيمة على هذا الذي أراد أن يحمل جريمته النكراء على اسم الشريعة الغراء، فجاء محلم - كما جاء في الحديث - وهو يلبس ثوبين، إلى النبي ليستغفر له، فلما رآه النبي قال: «اللهم لا تغفر لمحلم، اللهم لا تغفر لمحلم، اللهم لا تغفر لمحلم» ثلاث مرات، أنا في قراءتي البسيطة ما أعرف أن النبي دعا على رجل مما ينتسب للإسلام، وحتى لمن لا ينتسب بهذا الجزم، وهذه الصرامة بعدم المغفرة، وهذه القوة، حتى إنه كان يصلي على المنافقين كأبي واستخرجه من قبره وألبسه قميصه، وقال: «لو أعلم أن الله يغفر له لو استغفرت أكثر من سبعين مرة لاستغفرت له» إلا هذا، لا لأنه قتل فقط، لكن لأنه غلف جريمته باسم الإسلام ويدخل ضررا عظيما علي، وهو قتل شخص واحد، فقس على هذا من يركب سيارة ويفجرها في سوق أو في مجمع سكني ويحصد أرواح وخلائق من لا ذنب لهم من مسلمين ومسالمين وغيرهم، كم سيجني على اسم الإسلام واسم الجهاد من جناية فادحة وخطيرة وعظيمة، كم سيشوه صورة هذه الشعيرة العظيمة، لا تغفر.. ثلاث مرات يكررها، فقام محلم وهو يتلقى دموعه بثوبه، وعرف أنه خسر خسارة عظيمة ولم ينتهِ الأمر عند هذا الحد، يقول ابن عمر في هذا الحديث: فهلك بعد سبعة أيام. قضى الله أمره بعد سبعة أيام هما وغما، فذهبوا ليدفنوه فلفظته الأرض - الأمر العجب هذا - أكثر من مرة، فجاءوا وقالوا: يا رسول الله دفناه فلفظته الأرض، قال: «أما إن أبا فرية هو شر منه، ولكن الله أراد أن يعظكم». انظر إلى حرمة دم المسلم، وانظر إلى حرمة هذه الشعيرة حتى لا يعتدى عليها، وحتى لا يصور الإسلام بصورة غير شرعية. فالكوارث العظيمة تقع على الأمة والإسلام، بحيث ربما يظن الظان أن هذا من أعظم أمور نصرة لله، ونزل القرآن في هذا: «يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا» حتى لو كنتم باسم سبيل الله وباسم الجهاد تبينوا، انضبط بضوابط الشرع في مقاصدك وأعمالك، «ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنا تبتغون عرض الحياة الدنيا فعند الله مغانم كثيرة كذلك كنتم من قبل فمن الله عليكم فتبينوا» ولذلك أنا أقول: إنه نظرا لأهمية هذه الشعيرة، ولأنها تتعلق بفعل الجهاد والقتال وتتعلق بحرمات الناس ودمائهم، اشترط الفقهاء شروطا كثيرة في هذا الجانب؛ لأنه لتحقيق العبادة، من أهمها: وضوح الراية إلى ولي الأمر الذي هو صاحب الرأي، العالم بساحات القتال وإرهاصات القتال، واشترطوا أيضا وجود العلم بالنكاية، وغيرهما من الشروط..