بلدات إندونيسية تعاقب سكانها بالنبذ مدى الحياة

عائلات تعيش «النفي الداخلي» والحرمان من الخدمات تطبيقا لتقاليد قديمة جرى إحياؤها بعد سوهارتو

TT

يتسم ميد راي ببنية ضعيفة وشعر هزيل تملكه الشيب، وله عينان تلمعان بوميض مهتز. ويقدر راي أنه في الثمانينات من عمره. وعلى الرغم من أنه متقدم في العمر بدرجة بالغة لا تسمح له بأن يسرد بثقة كيف بدأ الخلاف بين عائلته وهذه القرية الواقعة في منطقة بالي، فإنه يبقى مدركا تماما للعواقب المترتبة على الخلاف. عندما يتحرك بعيدا عن المجمع الذي تقطنه عائلته، يشيح الجيران بوجوههم بعيدا، ويرفضون الحديث إليه. كما أنه ممنوع من زيارة معابد القرية، التي تعد مركزا للحياة الروحية الهندوسية في بالي، بل وعندما يتوفى، سيرفض أهل القرية دفن جثمانه بمقابر القرية.

أما أحفاد راي الذين كانوا يلهون بالقرب من قدميه، فنادرا ما يقدمون على الخروج من المجمع الخاص بالعائلة ويعانون من «تأثيرات نفسية» جراء الموقف القائم، حسبما ذكر راي. وعلى الرغم من أن هؤلاء الأطفال لم يكونوا قد ولدوا بعد عندما بدأ النزاع، فإنهم الآن محرومون من ارتياد مدرسة القرية، وطبقا للقواعد التي أقرها سكان القرية، فإنه محظور عليهم تبادل أطراف الحديث مع الأطفال الآخرين الذين يلهون في شوارع القرية.

يعد راي والعشرات من أقاربه ضحايا لـ«كاسيبيكانغ»، وهو نمط تقليدي للعقاب يقوم على النبذ والنفي. وفي مجتمع ترتبط فيه دورة الحياة والدين برمتها بقرى عتيقة، فإن «كاسيبيكانغ» يصبح أشبه بحكم الإعدام الاجتماعي والروحي. وقالت ابنة شقيق راي، نغوراه سومادي أريوان: «عندما نسأل القرية ما الخطأ الذي اقترفناه، يتعذر عليهم الرد. هل سيتعين علينا طلب اللجوء بسبب هذا الوضع؟ إننا إندونيسيون، فأين ينبغي أن نذهب؟».

والملاحظ أن ممارسة «كاسيبيكانغ» تنامت في إطار حركة إحياء لأنظمة القانون العرفي القديمة على مستوى البلاد منذ تنحي سوهارتو عن السلطة عام 1998 بعد أكثر من 3 عقود من الحكم الديكتاتوري. وفي الوقت الذي ركز النظام القديم السلطة في جاكرتا وقمع مراكز السلطة المنافسة، فإن إندونيسيا بوجهها الديمقراطي الجديد سمحت بقدر أكبر بكثير من الاستقلال الذاتي للأقاليم وإبداء احترام أكبر لأنظمة القوانين التقليدية.

في بعض أجزاء هذا البلد ذي الأغلبية المسلمة نجحت عناصر إسلامية محافظة في إدخال عناصر من الشريعة في الكتب. وفي مناطق أخرى، حلت الولايات القضائية التقليدية للقرى وأنظمة العدالة التابعة لها محل القوانين الوطنية، وإن كان على نحو غير رسمي.

في بالي، حيث تهيمن الهندوسية على الحياة العامة، يجري النظر إلى هذا التحول باعتباره يعزز نظاما دقيقا يمزج منذ أمد بعيد بين التقاليد الدينية والثقافية والتنظيم الاجتماعي. كل فرد من أبناء بالي يرتبط بعائلة، وهي بدورها مرتبطة بمجلس ضاحية، أو «بانجار»، وقرية. ويجبر أبناء بالي بصورة متكررة على التبرع بأموال والعمل لحساب الاحتفالات في المعابد والبقاء مرتبطين بقراهم التي ينتمي إليها أسلافهم وجدودهم، حتى فيما بعد الموت.

ويتعرض أي فرد ينتهك القانون العرفي لأنماط متنوعة من العقاب على يد المجتمع المحيط، تبدأ بالغرامات، مرورا بالفضح العام، ووصولا إلى «كاسيبيكانغ». وقال ديغونغ سانتيكارما، عالم الأنثروبولوجي في بالي، إن المجتمع في بالي يبدو «منظما، لكنه في حقيقة الأمر قمعي. في بالي، تسيطر الثقافة على الأفراد».

ما زال المدافعون عن «كاسيبيكانغ» يعتبرونه الطرف الأخير في نظام ضروري للحفاظ على ممارسات قديمة في مواجهة العولمة والتنمية الاقتصادية وحركة السياحة الواسعة. ما زال النقاد يرون أن العكس هو الصواب، حيث يعد تطبيق هذا العقاب نموذجا لإساءة استخدام حديث للتقاليد على نحو يشكل عدوانا على الحقوق.

وأشار وايان وينديا، باحث في القانون العرفي بجامعة أودايانا في دينباسار، عاصمة إقليم بالي، إلى أن حالات تطبيق «كاسيبيكانغ» عادة ما تتخفى وراء قناع، لكن منشأها عادة ما يكون خلافات ذات طابع دنيوي. وأضاف: «ما يظهر على السطح عادة قضايا تقليدية، لكن وراءها تقف عوامل اقتصادية وسياسية وأخرى تتعلق بالطبقة الاجتماعية».

حاليا، لا تزال هناك 4 خلافات «كاسيبيكانغ» على الأقل في بالي، لكن مثلما هو الحال مع غالبية مثل هذه الصراعات على مدار العقد الأخير، يتمثل الدافع وراءها في تنافسات وعداءات محلية. وقد جرت تسوية خلافات أخرى، في أفضل الحالات، عبر التفاوض أو سداد غرامة، وفي الأسوأ عبر طرد العائلات المنبوذة. في أحد الخلافات التي وقعت في غرب بالي العام الماضي، عوقب 16 فردا من «بانجار»، واحد بـ«كاسيبيكانغ»، لرفضهم تأييد مرشح للحكومة المحلية، مما يفترض أنه شكل انتهاكا لتقليد صنع القرار الجماعي. وجرت تسوية هذا الخلاف لاحقا عبر التفاوض.

بوجه عام، تبدو قرية سولانغ أشبه بمستعمرة مكتظة بالسكان تتألف من مجمعات سكنية ومعابد حجرية، تحيطها حقول أرز وتلال تغطيها غابات. ويتسم الخلاف القائم هنا بجذور غامضة تستعصي على الفهم سوى على عدد محدود للغاية من سكان القرية. في عام 1972، دخل الزعماء الرجال لخمس عائلات، بينهم راي، في صدام مع زعامات أخرى بالقرية بعد أن أصروا على مخاطبتهم بلقب التبجيل «غوستي»، الذي يشيع استخدامه لأعضاء طبقة التجار «ويسيا» الاجتماعية. وقال قرويون آخرون إنهم يحاولون عن غير حق القفز لمرتبة أعلى في الهرم الطبقي الاجتماعي وأصروا على أن تجري مخاطبتهم بلقب «سي»، وهو لقب «ويسيا» أدنى.

على مدار العقود الثلاثة التالية تفاقمت التوترات، حسبما ذكر أهالي القرية، مع سلسلة من الإهانات والخلافات. لكن بعد رحيل سوهارتو وحصول بالي وأقاليم إندونيسية أخرى على قدر أكبر من الاستقلال الذاتي، عاود القانون العرفي الظهور، حسبما ذكرت سومادي، ابنة شقيق راي. وفي عام 2000، خلال اجتماع لمجلس القرية العرفي تم رسميا إعلان إنزال عقاب «كاسيبيكانغ». وفي أبريل (نيسان) الماضي، وبعدما اعتبره زعماء القرية سلسلة أخرى متصاعدة من التجاوزات، صوتت القرية لصالح إقرار موعد زمني نهائي غايته عام واحد للعائلات المنبوذة لترحل عن القرية أو تتعرض للإجلاء قسرا.

وقال نغوراه باغوس بوترا، رئيس المجلس التقليدي للقرية: «كشخص عطوف، أشعر بالأسى من أجلهم، لكن التقاليد أهم. وإذا وقفت إلى صفهم، يمكن أن أتعرض أنا الآخر للنبذ».

ما زال الخلاف يدور حول مسألة ما إذا كان هذا العقاب التقليدي جزءا جوهريا من الميراث بمنطقة بالي أم لا. فمثلا، انتقد باريسادا هندو دهارما أعلى سلطة هندوسية بإندونيسيا، «كاسيبيكانغ» علانية، مشيرا إلى تعارضه مع التعاليم الدينية. وبينما أمسك بيده وثائق تعود إلى الحقبة الاستعمارية تساند ادعاءه بأحقيته في الحصول على لقب «غوستي»، قال سومادي، شقيق راي، إن «كاسيبيكانغ» منع أسرته من التمكن من التقدم للحصول على بطاقات هوية حكومية جديدة، التي يتعين توافرها لدى الإندونيسيين لإبرازها لتنفيذ مهام إدارية أساسية مثل الحصول على ترخيص قيادة والحصول على طعام مدعوم ووظائف. ومع التزام أهل القرية بالحظر الذي يفرضه «كاسيبيكانغ» على الحديث إلى العائلات المنبوذة، فإن أفرادها عجزوا عن استخدام المستشفى والمدرسة والمكتب الإداري بالقرية.

قوبلت مناشدة وجهت إلى حكومة المقاطعة مؤخرا للتدخل بالرفض، على أساس أنه من المتعذر عليها التدخل في تطبيق القانون العرفي. وطبقا لما ذكره سومادي، فإن هذا الوضع لم يكن ليحدث قط في ظل حكم سوهارتو الذي عمد بصرامة إلى وضع القوانين الوطنية في منزلة أعلى من الأخرى العرفية. وقال: «في بالي، تتخذ كل مشكلة طابعا تقليديا، كي تعجز القوانين الوطنية عن المضي قدما. إنه انتهاك صارخ لحقوق الإنسان».

* خدمة «نيويورك تايمز»