اليابانيون يودعون حياة الرفاهية

غارقون في الديون ويسكنون منازل متناهية الصغر وتخلوا عن السفر للخارج

أكيكو أوكا التي تعمل بدوام جزئي في متجر للملابس منذ إفلاس متجرها الخاص عام 2002 تحسرت على فقدان بلدها الازدهار الذي كان يتمتع به («نيويورك تايمز»)
TT

شأنه شأن الكثير من أفراد الطبقة الوسطى في اليابان، كان ماساتو واي، يتمتع قبل عقدين من الزمن بمستوى من الثراء جعله موضع حسد العالم. فقد اشترى ماساتو، الذي يدير شركة صغيرة، شقة بقيمة 500 ألف دولار وكان يقضي إجازته في هاواي ويركب سيارة حديثة من طراز «مرسيدس».

لكن مستواه المعيشي انهار ببطء مع انهيار اقتصاد اليابان. اضطر، في أول الأمر، إلى تقليل عدد الرحلات الخارجية التي يقوم بها، ثم إيقافها تماما. وبعد ذلك اضطر لتغيير سيارته من طراز «مرسيدس» إلى أخرى محلية أرخص، وفي العام الماضي باع شقته بثلث المبلغ الذي دفعه لشرائها، وبأقل من المبلغ الذي لا يزال مستحقا عليه من باقي القرض الذي حصل عليه قبل 17 عاما لشراء الشقة.

وقال ماساتو، 49 عاما، الذي طلب عدم نشر اسمه كاملا لأنه لا يزال لا يستطيع سداد باقي القرض البالغ 110 آلاف دولار لشركة الرهن العقاري: «كانت الحياة في اليابان براقة ومبهجة، لكن على الجميع الآن أن يعيش حياة قاتمة تتسم بالتقشف».

والقليل من الدول في العصر الحديث شهدت تحولا في وضعها الاقتصادي كالذي شهدته اليابان. وفي واحدة من قصص النجاح الآسيوية، استطاعت اليابان تجاوز واحدة من كبريات الأزمات التي ضربت أسواق الأسهم والعقارات على مر العصور في ثمانينات القرن الماضي لتصبح أول دولة آسيوية تستطيع مواجهة الهيمنة الغربية على الأسواق العالمية. ولكن خلال الأزمة عادت للظهور مرة أخرى في أواخر الثمانينات وأوائل التسعينات من القرن الماضي، جعلت اليابان تشهد تراجعا بطيئا لكنه مستمر. ولما يقرب من جيل الآن، ظلت اليابان تشهد انخفاضا في النمو وارتفاعا في الأسعار، وهو ما يُعرف بالانكماش، وفي أثناء هذا الانكماش تحول العملاق الاقتصادي السابق إلى شيء أكثر قليلا من مجرد حالة طارئة في الاقتصاد العالمي.

ويمكن ملاحظة تراجع حجم طموحات اليابان في شوارع طوكيو؛ حيث أضحت «المساكن متناهية الصغر» تحظى بشعبية كبيرة وسط الشبان الذين لا يستطيعون حتى البقاء في مساكن آبائهم المكتظة، وغدوا يفتقرون إلى الاستقرار الوظيفي الذي يجعلهم يطلبون الحصول على قرض تقليدي يسدد على عشرات السنين.

وهذه المنازل، التي تشبه علبة الثقاب، مقامة على قطعة أرض بالكاد تكفي لوقوف سيارة رياضية، وعلى الرغم من ذلك فهي مكونة من ثلاثة طوابق ويحتوي كل طابق على غرفة نوم صغيرة، وحمام بحجم حقيبة ومطبخ صغير يشبه المطابخ الموجودة في الغواصات. ويقول كيميو كوندو، المدير العام بشركة «زوس»، التي تقوم ببناء المنازل متناهية الصغر، ومقرها طوكيو: «هذه هي الطريقة التي يمكنك من خلالها امتلاك منزل حتى لو كنت تشعر بالقلق من المستقبل».

وبالنسبة للكثير من اليابانيين الذين تقل أعمارهم عن 40 عاما، من الصعب عليهم إدراك الفارق البعيد بين الوضع الحالي وما كانت عليه اليابان في ثمانينات القرن الماضي، عندما بدا أن عملاق الصناعة الياباني، شركة «جابان إنك»، كانت مستعدة لمحو الصناعة الأميركية كاملة، من صناعة السيارات إلى صناعة أجهزة الكومبيوتر العملاقة. ومع ارتفاع قيمة الأسهم في سوق اليابان للأوراق المالية إلى 4 أضعاف وارتفاع سعر الين إلى مستويات لم تكن متخيَّلة، سيطرت الشركات اليابانية على التجارة العالمية، والتهمت شركات مثل استوديوهات السينما في هوليوود (يونيفرسال ستوديوز وكولومبيا بيكتشرز)، وملاعب الغولف الشهيرة (بيبل بيتش) ومبدع العقارات (مركز روكفلر).

وفي عام 1991، كان الاقتصاديون يتوقعون أن اليابان ستتفوق على الولايات المتحدة وتصبح أكبر اقتصاد في العالم بحلول عام 2010. وفي الواقع، لا يزال الاقتصاد الياباني بنفس الحجم الذي كان عليه في ذلك الحين: ناتج محلي إجمالي بقيمة 5.7 تريليون دولار بسعر الصرف الحالي. وخلال الفترة ذاتها، تضاعف حجم اقتصاد الولايات المتحدة إلى 14.7 تريليون دولار، وهذا العام تجاوزت الصين اليابان لتصبح الاقتصاد الثاني في العالم.

وقد غطت الصين على اليابان بصورة كاملة، حتى يبدو أن القليل من المثقفين الأميركيين هم الذين لا يزالون يكترثون باليابان حتى الآن، وقد غدت فصول تعليم اللغة اليابانية المزدحمة في الجامعات الأميركية خاوية. وقال كلايد في برستويتز، المفاوض التجاري السابق في إدارة الرئيس الأميركي الأسبق رونالد ريغان الذي أثارت كتاباته في ثمانينات القرن الماضي عن التهديد الياباني للولايات المتحدة قلقا في واشنطن، إنه يدرس الآن اللغة الصينية. وقال برستويتز: «لم أعد أذهب إلى اليابان الآن».

كان التراجع مؤلما بالنسبة لليابانيين؛ حيث خسرت الشركات والأفراد، مثل ماساتو، ما يعادل تريليونات الدولارات في سوق الأسهم، التي تصل قيمتها الآن إلى ربع قيمتها في عام 1989، وفي سوق العقارات، حيث متوسط سعر المنزل لا يزال هو نفسه كما كان في عام 1983. ويبدو المستقبل أكثر قتامة؛ حيث تواجه اليابان أكبر دين حكومي في العالم - نحو 200% من الناتج المحلي الإجمالي - ويتوقع انخفاض عدد السكان وارتفاع معدلات الفقر والانتحار.

ولكن ربما كان التأثير الأكبر هنا هو أزمة الثقة التي تشهدها اليابان، فقبل عقدين من الزمن فقط، كانت هذه الأمة حيوية ومليئة بالطاقة والطموح، وفخورة إلى حد الغرور ولديها الحماس لخلق نظام اقتصادي جديد في آسيا يعتمد على الين. واليوم، لم يعد لهذه الطموحات العالية وجود، وحل محلها التعب والخوف من المستقبل وجو خانق من الاستسلام للواقع. ويبدو أن اليابان اقتنعت بقبول انزوائها البطيء عن الساحة العالمية.

وشركاتها التي كانت نهمة تبدو الآن مستعدة لتسليم صناعتها واحدة بعد الأخرى إلى الشركات الكورية الجنوبية والصينية. والمستهلكون اليابانيون الذين كانوا يسافرون من قبل في رحلات للتسوق في مانهاتن وباريس، لا يغادرون اليابان الآن، ويحاولون ادخار بعض المال لمواجهة مستقبل غامض أو يلجأون إلى أساليب جديدة للتقشف من خلال شراء المنتجات منخفضة السعر مثل منتجات شركة «ينيكلو».

وعلى الرغم من أن هذه الآثار ظاهرة على الاقتصاد الياباني، فهي أكثر وضوحا في مناطق مثل أوساكا، ثالث أكبر مدينة في اليابان، أكثر من طوكيو المزدهرة نسبيا. وفي هذه المدينة التجارية، بذل التجار أقصى ما لديهم لإقناع المتسوقين المصدومين بشدة بالعودة إلى الإنفاق. ولكن هذه الجهود غالبا ما تأخذ شكل حروب أسعار وتؤدي في النهاية إلى زيادة دوامة الانكماش في اليابان.

وهناك آلات البيع التي تبيع المشروبات المعلبة بـ10 ين (12 سنتا)، والمطاعم التي تبيع البيرة مقابل 50 ينا والشقق التي تؤجر الشهر الأول بـ100 ين (1.22 دولار). وحتى حفلات الزواج معروضة للبيع؛ حيث تقدم قاعات الاحتفالات خصما لحفلات الزفاف لتصل قيمتها إلى 600 دولار، وهو ما يقل عن عُشر تكلفتها منذ 10 سنوات.

وفي سينبايشي، أحد شوارع التسوق في أوساكا، نظم التجار مؤخرا يوم بيع بـ100 ين، وقدم التجار الكثير من بضاعتهم بهذا السعر. وحتى في ذلك اليوم، كما يقول التجار، كانت النتائج مخيبة للآمال. وقالت أكيكو أوكا، 63 عاما، التي تعمل بدوام جزئي في متجر صغير للملابس منذ إفلاسها وإغلاق متجرها الخاص عام 2002: «إن الوضع يبدو كما لو أن اليابانيين فقدوا الرغبة في الظهور بصورة جيدة».

هذا الفقدان للنشاط يشعر به في بعض الأحيان في أماكن غير عادية. كيتاشينشي، منطقة الترفية المتميزة في مدينة أوساكا، حيث كان مجرد استئجار مقعد في أحد الأندية الليلية المنتشرة في ملعب يعود إنشاؤه إلى 3 قرون وتنتشر فيه مصابيح النيون، يتكلف 500 دولار. ولكن في السنوات الـ15 الماضية، تقلص عدد الأندية والصالات الموجودة من 1200 إلى 480 وظهرت الحانات وسلسلة مطاعم ذات أسعار منخفضة. ويقول النوادل: إن الزبائن هذه الأيام يدققون في التكلفة بصورة تمنعهم من إظهار التجاهل المدروس للمال الذي كان يميز زبائن هذه المنطقة لفترة طويلة.

وبعد سنوات من التراخي، يبدو أن اليابان بدأت تستيقظ لمعالجة مشكلاتها، وكما جرت ملاحظته في العام الماضي، فإن الناخبين الساخطين أنهوا الاحتكار شبه التام للسلطة بعد الحرب العالمية من قبل الحزب الديمقراطي الليبرالي. ومع ذلك، فإن هذه الخطوة بالنسبة للكثير من اليابانيين تعتبر متأخرة للغاية. وقد نشأ في اليابان بالفعل جيل كامل من الشباب الذين يقولون إنهم قد توقفوا عن الحلم بأنهم سيتمتعون باستقرار وظيفي أو بمستوى معيشة مرتفع، وهي الأمور التي كانت في الماضي حقا مكتسبا لكل اليابانيين.

* خدمة «نيويورك تايمز»