إضرابات فرنسا: تاريخ حافل يتداخل فيه السياسي بالمهني

ميول الفرنسيين إلى الاحتجاج و«الثورة» أدخلت حكوماتهم على الدوام في مآزق

TT

في عام 1953، أي قبل عامين من مولد الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي، عرفت فرنسا إضرابات صاخبة طالت 4 ملايين شخص طيلة شهر كامل وشهدت مظاهرات جرارة. وسبب ذلك كان عزم الحكومة الفرنسية، التي كان يرأسها جوزيف لينيل، على تأخير سن التقاعد تماما كما هو الحال اليوم. ووصف رئيس الحكومة الأسبق بيار منديس فرانس ما حصل وقتها بالقول إن الإضرابات الأخيرة «ليست سياسية ولا هي مهنية بل إنها تعبير عن الحزن وفقدان الأمل والإحباط».

من هذا المنظور لا تبدو إضرابات فرنسا ومظاهراتها المتكررة أنها تحمل جديدا في بلد عرف مواطنوه بالنزوع إلى الاحتجاج والتململ، لا بل الثورة. وليس من قبيل الصدف أن تكون فرنسا عرفت أول ثورة في التاريخ الأوروبي الحديث، وقلبت الملكية، وأرسلت لويس السادس عشر وزوجته النمساوية ماري أنطوانيت إلى المقصلة في ساحة الكونكورد في باريس، وعرفت بعده عهد الترهيب مع روبسبير وخلفائه.

ويعود أول إضراب للعام 1539، حيث أضرب عمال المطابع في مدينة ليون طيلة 4 أشهر للمطالبة برفع رواتبهم التي قالوا إنها لا تتوافق مع الـ15 ساعة عمل يومي. وبالفعل نجحوا في تعطيل صدور أي مطبوعة خلال 4 أشهر وبالتالي لبيت مطالبهم.

وعرفت مدينة ليون نفسها ثاني أكبر إضراب في تاريخ فرنسا هو إضراب عمال مصانع الحرير عام 1831. وبعد 15 عاما اندلعت إضرابات ومظاهرات عام 1848 وهو ما عرف بالثورة الفرنسية الثانية التي جرت في فبراير (شباط) من ذلك العام. وكالثورة الأولى كان مسرحها مدينة باريس التي نجحت في دفع الملك لويس فيليب إلى التنازل عن العرش لأحد أحفاده. وفي عام 1864 اعترف القانون بحق الإضراب لينتهي القرن التاسع عشر بإضرابين شهيرين في قطاع المناجم أغرقتهما قوات الأمن بالدم.

وجاء القرن العشرين، وأفل على سلسلة طويلة من الإضرابات التي كان محورها الغالب المطالبة بتحسين أوضاع العمل والشؤون المعيشية. وتبعت «ثورة» مزارعي الكرمة جنوب فرنسا عام 1907 إضرابات قطاع المناجم ثم عمال السكك الحديدية وهما القطاعان اللذان شكلا رأس الحربة في الحركة المطلبية النقابية الفرنسية. وما كادت الحرب العالمية الأولى تضع أوزارها حتى اندلع إضراب واسع وشامل في هذين القطاعين وفي قطاع النسيج (شمال فرنسا) ليلحقه عام 1936 إضراب «عفوي» عقب فوز «الجبهة الشعبية» اليسارية في الانتخابات. وكانت نتائج هذه الحركة الشعبية استثنائية، إذ أدت إلى إيجاد العطل المدفوعة وزيادة المرتبات بنسبة 20 في المائة. غير أن هذا التطور الاجتماعي لم يكن كافيا إذ أضربت مصانع «رينو» للسيارات عام 1947 للمطالب نفسها.

غير أن «المرجع» في إضرابات القرن العشرين يتمثل بلا شك فيما سمي «ربيع الطلاب» أو الثورة الطلابية التي اندلعت انطلاقا من جامعة نانتير ليس فقط احتجاجا على نظام الجنرال ديغول إنما بشكل أساسي رفضا لقيم المجتمع البورجوازي، وتعبيرا عن توق الشبيبة للتحرر. وعرفت ثورة الربيع احتلالا للجامعات وإضرابات شاملة ومعارك شوارع مع قوات الأمن وعصيانا مدنيا وإقامة متاريس في جامعة السوربون والحي اللاتيني. ووصلت الثورة إلى حد تهديد نظام الجنرال ديغول الذي طرح الاستفتاء طريقا للخروج من الأزمة. وبما أنه خسره، فقد استقال وانعزل مع زوجته إيفوم في قريته «كولومبيه لي دو زيغليز» (شمال فرنسا) حيث يوجد قبره.

وخلال الأربعين عاما الأخيرة، عرفت فرنسا إضرابات موسمية بغض النظر عن هوية النظام القائم يمينيا كان أو يساريا. فتحت حكم اليسار، نزل اليمين إلى الشارع عام 1983 للاحتجاج على خطط الحكومة الاشتراكية لإضعاف المدارس الخاصة الدينية الصبغة والانتقائية الهوى. وعلى الرغم من يسارية نظام الرئيس ميتران، فقد أضرب عمال السكك الحديدية والعمال احتجاجا على التسريحات الجماعية وعلى خطط إعادة هيكلة الصناعات الثقيلة التي كانت وقتها في عهدة الدولة. وأضرب الطلاب إبان ترؤس الرئيس جاك شيراك الحكومة ما بين 1986 و1988 احتجاجا على مشروع إصلاح الجامعات وفرضوا عليه التراجع. وعندما أصبح شيراك رئيسا للجمهورية عام 1995، لم يتأخر الطلاب في إعلان إضراب مطلبي أتبعته النقابات بإضراب شامل احتجاجا على مشروع إصلاح الضمان الاجتماعي. وكان الإضراب قاسيا إلى درجة شلت معه الحركة في البلاد وتراجع الحكم وقام بخطوة تكتيكية للخروج من وضعه الصعب بالدعوة إلى انتخابات عامة. غير أن اليمين خسرها ووصل الاشتراكي ليوينل جوسبان إلى رئاسة الحكومة طيلة 5 سنوات انتهت عام 2002.

ولم يكن عهد شيراك الثاني «أهدأ» من عهده الأول، إذ أثار مشروع رئيس الحكومة في قطاع العمل تحفظات النقابات وتعبئة عمالية تصاعدت شيئا فشيئا عام 2006 لتعرف معها فرنسا إضرابات واسعة وأعمال عنف وفوضى كانت محصلتها تراجع الحكومة عن مشاريعها. ويومها، كان الرئيس ساركوزي وزيرا للداخلية. وقبل ذلك، عرف عهد شيراك أعمال عنف واسعة خريف عام 2005 بعد مقتل قاصر متحدر من أصول مهاجرة شمال باريس، وهو يهرب من رجال الشرطة. وخلال أسابيع، عرفت المدن والضواحي الفرنسية أعمال شغب واسعة وإحراق سيارات بالمئات ما ألزم الحكومة إعلان حالة الطوارئ.

وفي عهد الرئيس ساركوزي الذي وصل إلى السلطة في ربيع عام 2007 مع العزم على «إصلاح» فرنسا وإخراجها من سباتها، يبدو مشروع إصلاح نظام التقاعد الأكثر رمزية وعليه يتوقف مصيره السياسي. فإذا تراجع فقد أي حظ له في الفوز بولاية ثانية وإذا أصر وتدهورت الأمور يكون أيضا قد قامر بمصيره وباستقرار البلاد. لذا فإن هامش المناورة ضيق أمامه وستكشف الأيام المقبلة كيف سيحاول الخروج من هذا المأزق.