مؤتمر السياسة العالمية بمراكش ناقش جميع القضايا بـ«جدية».. ورسم صورة متشائمة لمستقبل العالم

إصلاح الأمم المتحدة يصطدم بعقبة تمسك «الدائمين» بمقاعدهم وصراع الراغبين في العضوية

TT

تحول فندق «المامونية» الباذخ في مدينة مراكش، بمناسبة احتضانه الدورة الثالثة لمؤتمر السياسة العالمية، إلى مكان لمناقشة قضايا فيها كثير من التشاؤم والقلق والحديث عن الفقراء، وهو الذي أعد لكي يكون مكانا مثاليا للاستجمام وراحة البال.

واتسمت المداخلات بجدية غير معهودة في مثل هذه المؤتمرات. وعلى الرغم من أن برنامج المؤتمر تضمن 6 جلسات، فإن النقاش تواصل أثناء تناول وجبات الطعام، حيث هيمن موضوع الأزمة الاقتصادية العالمية وداء الرشوة والفقر ومشكلات الجنوب وقضية الشرق الأوسط والمخاوف من التمدد الصيني في أوروبا وأميركا وضرورة إصلاح الأمم المتحدة على المناقشات.

وتحول الغداء والعشاء إلى «غداء وعشاء مناقشة» ألقى فيهما خبراء وسياسيون، أمثال جون كلود تريشيه رئيس البنك المركزي الأوروبي، وكريستوفر دي مارجوري المدير العام لشركة «توتال» الفرنسية، وفويونغ نائبة وزير الخارجية الصيني، وأمينة بنخضرا وزيرة الطاقة والمعادن والمياه والبيئة المغربية، ورجل الأعمال مو إبراهيم الذي خصص جائزة لمكافأة الديمقراطيين في أفريقيا، كلمات تقاطع فيها السياسي بالاقتصادي، وبين كل هؤلاء ظل تييري دو مونبريال، رئيس المعهد الفرنسي للعلاقات الدولية (إيفري)، يردد «لو كنت طبيبا أوكلت إليه مهمة وضع تشخيص حول وضعية الكون لانتابتني مشاعر الخوف والقلق».

وعلى مدى يومين، بدا كما لو أنه كان على المشاركين، في أشغال المؤتمر، الذي اختتمت أشغاله الليلة قبل الماضية، من المحسوبين على مجالات السياسة والاقتصاد والإعلام، أن يطرحوا ويناقشوا كل قضايا ومشكلات الكون دفعة واحدة، ولذلك حضرت الأزمة الاقتصادية العالمية، فضلا عن قضايا السكان والمناخ والصحة والطاقة والبيئة والأمن الغذائي والحكامة الاقتصادية والمالية العالمية، وحكامة الإنترنت، إضافة إلى فتح نقاش حول الحكامة في إطارها الراهن، مع تقديم رؤى متقاطعة حول مجموعة العشرين والقوى الصاعدة، في علاقة بالحكامة الدولية.

على صعيد التوجه العام للنقاش الذي خيم على الجلسات، طغى الاقتصادي على السياسي، ودافع الأوروبيون عن سياسة التقشف التي تثير جدلا، مشددين على استمرارها على الرغم من ضغط الشارع، داعين إلى ضرورة أخذ الدروس من الأزمة الاقتصادية العالمية، وقال جون كلود تريشيه، رئيس البنك المركزي الأوروبي، في هذا السياق: «ديمقراطيتنا الأوروبية لا تسمح بأن نتدخل مرة ثانية بنفس الطريقة لتجاوز الأزمة».

وحظي موضوع إصلاح منظومة الأمم المتحدة، في الشق المتعلق بالسياسة الدولية، بنصيب وافر من النقاش، خاصة فيما يتعلق بالعضوية الدائمة في مجلس الأمن.

ورأى البعض أن هناك مشكلة فيما يتعلق بآفاق تعديل العضوية الدائمة في مجلس الأمن، وهي آفاق يرهنها معطيان: «أولا: الأعضاء الدائمون مرتاحون في كراسيهم، وثانيا: المرشحون المفترضون يتصارعون حول من يمكن أن يحظى بالعضوية الدائمة».

وعلى الرغم من أن الجميع انتقد مجلس الأمن، في صيغته الحالية، وقالوا إنه افتقد العمل الفعال والإيجابي، وإن الأعضاء الخمسة الدائمين كانوا سلبيين ولم يعملوا بشكل جماعي، في وقت كان يتوجب أن يتم حل النزاعات بطرق ملائمة وإنسانية، فقد اتفقوا، مع ذلك، على أن الأمم المتحدة، على الرغم من كل عيوبها، تبقى ضرورية.

ولم يكن صوت أفريقيا غائبا عن أشغال المؤتمر، حيث شدد البعض على أن «القارة السمراء تلزمها حكامة جيدة وحكام جيدون»، وأنها «ليست في حاجة إلى الشعر والخطب، بل إلى الأفعال».

إلى ذلك، دعا المشاركون في جلسة السكان والمناخ والصحة إلى ضرورة إيجاد توازن بين النمو الديموغرافي والتغيرات المناخية والرهانات التي تطرحها الصحة العمومية، منوهين بالجهود التي تبذلها المنظمة العالمية للصحة، خاصة في ميدان الوقاية من بعض الأمراض المعدية، كالإيدز وحمى المستنقعات والملاريا، وشددوا على ضرورة العمل على تضافر جهود المنظمات الدولية والمختبرات الصيدلية ومعاهد البحث، داعين إلى النهوض بالبحث العلمي حتى يتسنى له الاستجابة إلى النمو الديموغرافي العالمي المتصاعد.

وأعرب المشاركون عن أسفهم لكون الملايين من الأشخاص في العالم لا يستفيدون من خدمات التعليم والصحة، معتبرين أن السكان يمكنهم أن يشكلوا، في بعض الحالات، «نحسا كونيا»، وطالبوا بضرورة إرساء نقاش عالمي بناء حول ظاهرة الهجرة، خاصة أن المهاجرين يساهمون بشكل إيجابي في اقتصاد الدول المضيفة.

وعلى صعيد الحكامة الاقتصادية والمالية العالمية، أكد المشاركون أن ارتفاع الديون في البلدان الغنية أفرز تحديات جديدة، جعلت النمو الاقتصادي أكثر هشاشة.

واتفق المشاركون على أن الديمقراطية لا يمكن أن توجد في مناخ يتسم بعدم الاستقرار والتوتر، وعلى أن الحكامة العالمية لا يمكن أن تختزل في مجرد البحث عن حل للصراعات، بل يجب البحث عن سبل لوضع حد لها.

وأما ما يتعلق بالتغيرات المناخية، فقد تضاربت آراء المشاركين بين من يدعو إلى إنشاء هيئة دولية تعنى بهذا المجال، ومن يرى ضرورة اعتماد جملة تدابير ملموسة، على اعتبار أن إحداث هيئة جديدة من شأنه أن يفاقم البيروقراطية.

أما فيما يتعلق بالتحديات الغذائية، فقد شدد المتدخلون، انطلاقا من ملاحظة ارتفاع الأسعار المسجل منذ 2008، على أنه سيكون من المطلوب، خلال العقدين المقبلين، مضاعفة إنتاج الأغذية، وكذا متوسط الإنتاج الفلاحي للأرض لتلبية حاجيات السكان المتنامية.

وبخصوص الحكامة النقدية والمالية العالمية، أعرب المشاركون عن أسفهم لضعف الرؤية وانعدام هندسة مالية مؤسساتية محددة، فضلا عن مخاطر التضخم المتسارعة الناتجة عن النمو مع تدفقات الاستثمارات على المدى القصير.

وأما ما يخص حكامة الفضاء الرقمي، فشدد المشاركون على أهمية إنشاء منظمة عالمية للتصدي للتهديدات التي يشكلها الفضاء الإلكتروني ومنح دينامية جديدة لتنشيط دور المجتمع المدني، مشيرين إلى أن الحكامة يجب أن تحمي الدول والأشخاص، في ظل التطورات السريعة التي يشهدها العالم، وأن التكنولوجيا لم تعد لها حدود، والجريمة في تزايد مستمر، والشركات في حاجة إلى خدمات الإنترنت، كما سلطوا الضوء على مساهمة الإنترنت في المعرفة التي لم تعد حكرا على أحد، مشددين على أن هذا الفضاء ما زال هشا، ويمكن أن يتطور وأن تتولد عنه تبعات، وأن يتسبب في الكثير من التهديدات، كما أكدوا على الحاجة الماسة إلى حكامة للإنترنت، تتطلب احترام حرية التعبير والخصوصية، كما ناقشوا قضايا الإرهاب والجريمة عبر الحاسوب، والحق في حماية المعلومات الشخصية.

وقال محمد شفيقي، الخبير الاقتصادي المغربي، في تصريحات لـ«الشرق الأوسط»، إن المؤتمر «تميز بتعدد المقاربات المطروحة حول الحكامة على المستوى الدولي، بعد الأزمة الاقتصادية العالمية»، مشيرا إلى أن «تعدد المقاربات شيء إيجابي لأن الوضع العالمي غير مستقر وفيه تعقيدات حسب المناطق، إذ أن ما يظهر هو أن الأزمة الاقتصادية العالمية أعادت هيكلة التوازنات الاقتصادية في العالم وطرحت إشكالية إعادة صياغة آليات الحكامة على المستوى الدولي التي ورثناها بعد الحرب العالمية الثانية».

ولاحظ شفيقي أن هناك إشكالا جديدا مطروحا، ولكن، في الوقت نفسه، الأسئلة العميقة للحكامة مطروحة، كذلك، من طرف الأمين العام للأمم المتحدة، وهي أسئلة تتلخص في أن «صياغة الأجوبة لخلق شروط حكامة جديدة متوازنة، تأخذ بعين الاعتبار التوازنات الجديدة، لا يمكن أن تتم على حساب ما سماه (المستضعفين) في العالم».

ورأى شفيقي أن كل هذا يطرح إشكالا في المقاربات وفي مدى انسجام الاقتراحات الموجودة، حاليا، لإصلاح النظام العالمي وقضايا أعمق، تتعلق بأوضاع جديدة من ضمنها قضايا التحول المناخي وآثاره وقضايا الأمن الغذائي والطاقة والتوزيع العادل للثروة في العالم، وعدم تهميش جزء من العالم، علما أن بعض المناطق التي كانت معروفة بأنها كانت في آخر القاطرة، مثل أفريقيا، تعرف، حاليا، تحولات كبيرة، على الأقل، إثر عشرية من الإصلاحات، وتوجد بها إمكانات حقيقية للتطور والنماء، وفي الوقت نفسه، فطبيعة الحلول، التي ستؤخذ، لا تدمج، على الأقل، هذه المكونات في المشاركة في الاختيارات».

وأشار شفيقي إلى إشكال آخر يتمثل في أن «البلدان ذات الدخل المتوسط لا تؤخذ بعين الاعتبار في النقاشات الحالية من ناحية الحكامة، لأن ما طغى على النقاش هو التوافق الممكن ما بين القوى التقليدية التي كانت مهيمنة والقوى الصاعدة، في حين أن العالم لا يمكن أن يختزل، فقط، في القوى التقليدية والقوى الصاعدة».