الحريري يفضل «جمود» العلاقات مع سورية على «تقهقرها» ويدرك أن ثمة متضررين من علاقته الجيدة مع الأسد

مصادر عربية لـ«الشرق الأوسط»: معالجة ملف «شهود الزور» لبنانيا ومذكرات التوقيف سوريا تفتح الباب أمام زيارته دمشق

TT

عندما بدأ الحديث عن احتمال زيارة رئيس الحكومة اللبنانية سعد الحريري إلى دمشق بعد سنوات من القطيعة السياسية، التي أعقبت اغتيال والده رئيس الحكومة الأسبق رفيق الحريري عام 2005، قال مرجع لبناني قريب من دمشق، مراهنا زواره، إن نفوذ الحريري في سورية سيفوق نفوذ حلفائها حتى إنهم سيضطرون إلى «طلب وساطته هناك».

ويبدو أن رئيس الحكومة بات يدرك الآن أن ثمة من هو «متضرر» من العلاقات التي نسجها مع الرئيس السوري بشار الأسد منذ زيارته الأولى إلى دمشق، وهو يشعر حاليا بخطورة التشويش القائم على هذه العلاقة من خلال تسريبات إعلامية تتزايد يوما بعد يوم وفيها كلام عن استياء سوري من الحريري وعن قطع طرق التواصل وعن طلبات لم ينفذها الحريري، وأن سورية مستاءة من أن الحريري لم يكمل في السياق الذي بدأه في حديثه الشهير لـ«الشرق الأوسط» الذي اعترف فيه بوجود إساءة إلى سورية، بسبب الاتهام السياسي وما اصطلح على تسميته «شهود الزور» في قضية اغتيال والده.

وعلى الرغم من أن الحريري كان يجيب عن كل سؤال عن هذه التسريبات التي تنشر في صحف لبنانية مقربة من سورية نقلا عن مصادر في دمشق، فإنه تعامل معها على أنها مجرد «تشويش خارجي» على هذه العلاقة، مفضلا تجاوزها وعدم الرد عليها. لكن عندما أتت صدمة مذكرات التوقيف السورية بحق أقرب معاونيه وفريق عمله، بالإضافة إلى قيادات أمنية وقضائية لبنانية، شعر الحريري بأن الأمور تسير في اتجاه «غير جيد للعلاقات بين البلدين»، ففضل عندها أن «تتجمد العلاقة على أن تتقهقر» وتتراجع، لأن وجهة نظر الحريري - كما تنقلها لـ«الشرق الأوسط» مصادر قريبة منه - تقول إن الأفضل أن تتجمد الأمور بدلا من أن تسير نحو الأسوأ، ولا يتم البناء على أخطاء من شأنها أن تحرف العلاقات عن مسارها في نهاية المطاف، كما يؤكد النائب في كتلته عقاب صقر لـ«الشرق الأوسط».

ويقول صقر إن الحريري مرتاح لنتيجة القمة السعودية - السورية التي انعقدت في الرياض الأحد الماضي لأنها ثبتت خطين أحمرين، هما «الاستقرار والحكومة»، وقال: «إن أهم ما صدر عن القمة السورية - السعودية هو أن الاستقرار خط أحمر لا يجب أن يُمَس، وأن الحكومة لا يجب أن تمس الاستقرار، وأن الحكومة والاستقرار خطان أحمران عربيان... وكل النقاش والجدل يناقش تحت سقفهما من دون ملامستهما، لأن ملامستهما تمس بالصيغة اللبنانية، وهذا أمر ممنوع ».

وانطلاقا من «ارتياح الحريري»، تقول مصادر عربية واسعة الاطلاع لـ«الشرق الأوسط» إن الأمور تتركز الآن على معالجة ملف «شهود الزور» في مجلس الوزراء اللبناني بما يضمن إيجاد مخرج لأزمة مذكرات التوقيف السورية، وبما يمهد لزيارة جديدة يقوم بها الحريري إلى دمشق.

وفي السياق نفسه، تعترف المصادر القريبة من الحريري بأن العلاقات مع سورية مصابة بالجمود وبأن الاتصالات متوقفة بين الحريري ودمشق، لكنها تشدد على أن هذا لا يعني أن العلاقات مقطوعة. وشددت المصادر على أن «الحريري - منذ بداية العلاقة - لم يطلب شيئا من سورية وهي لم تطلب منه شيئا، وكل ما طلبه هو من تحت سقف المؤسسات، وكل النقاش الذي دار بينهما هو في السياسة وتحت سقف المؤسسات.. ولم يعتمد سياسة التشكي وطلب أشياء من الآخرين عبر سورية»، مشيرة إلى ما عبر عنه «أحدهم» بالقول: «إن الرئيس الحريري لديه مشكلة، هي أنه لا يطلب حتى تعرف ماذا يريد».

وشددت المصادر على أن كل ما قيل عن «طلبات سورية» من الحريري يأتي في إطار الاختلاقات. وقالت: «ليس صحيحا أن الرئيس الأسد كانت لديه لائحة مطالب من الرئيس الحريري، ولم يطلب منه أحد أن يقول ما قاله لـ(الشرق الأوسط)، مشيرة إلى أن الرئيس الأسد لمح ذات مرة بأن أحدا لم ينصف سورية في الإعلام ومع هذا فلا مشكلة لديها، وانطلاقا من هنا قال الرئيس الحريري ما قاله لإنصافها».

ويبدو أن الحريري يضع الآن قضية «البروباغاندا» الإعلامية الموجهة ضده في مقدمة أولوياته المطلوب معالجتها من قبل سورية «لأن ما يقال يوحي بأنه موقف سوري ونحن لا نعتقد هذا»، كما يشدد النائب صقر، الذي يقول: «نحن نلاحظ أن الأجواء الإعلامية التي تنقل تعارض ما ينقل من على أعلى المستويات، من كلام هادئ كالذي قاله رئيس مجلس النواب نبيه بري من سورية، والمناخات التي نقلت عن القمة السعودية - السورية بما يدل على أننا أمام عملية تشويش منظمة». ويضيف:«وفي كل الأحوال، فأن توقف هذه (البروباغاندا) أصبح أمرا حيويا، من أجل خدمة المصالح اللبنانية - السورية، فوقفها أصبح جزءا لا يتجزأ من عملية مد الجسور وبناء الثقة، لأن البروباغاندا لم تعد أمرا تفصيليا، بل جزءا لا يتجزأ من عملية هدم العلاقات بين البلدين. ولم يعد الآن جائزا أن نقول إن ما يقال هو مجرد كلام إعلامي، فما ينقل ينقل عن مصادر كبيرة (في سورية) وهو يشنّج العلاقات، ولذلك أصبح من الضروري وضع هذه الدعاية على جدول أعمال عملية تصحيح العلاقات بين البلدين. أضف إلى ذلك أننا ننطلق الآن في سياق تمحور عربي يخلق دينامية مختلفة، والكلام الذي يؤثر على العلاقات اللبنانية – السورية يؤثر على كل هذا المحور العربي، لأنه ينقل رسائل كبيرة تجاوزت حدود لبنان. وإذا استمر ترك العنان له، فسيصبح من المنطقي القول إن هناك سببا لتركها وإنها متروكة برضا، وهنا مكمن خطورتها. فهناك صحافيون يذهبون إلى دمشق وسياسيون هامشيون وهم جميعا يستغلون هذه الزيارات لبناء جسر من اللاثقة، كما أن كلامهم مستفز وخطورتهم تكمن في إيحائهم بأنهم في قلب مصدر القرار وينقلون عنه. إن الجميع - في لبنان وسورية - أصبح على بينة مما يقومون به، وترْك الحبل لهم على الغارب سوف يدخلنا في سياق مضر جدا، مما يجعلنا نطلق صافرة إنذار كبيرة للإشارة إلى هذا الخطر، ونحن لن نترك الأمور على حالها لأن تراكم هذه الأمور يأخذنا إلى أماكن لا نرغب فيها في ما يخص العلاقات اللبنانية - السورية. فإذا تركنا الانحراف في العلاقة من البداية فسنصل إلى مكان يصبح فيه أمرا مستفحلا. ولهذا، لا بد من توضيح الأمر للرأي العام من جهة ووضع حد لهم من جهة أخرى، خصوصا أن معظم هؤلاء السياسيين يدعون أنهم يضربون بسيف السلطان وينطقون بلسانه، علما أن 90 في المائة مما يقولونه مختلق ومفتعل ويعود إلى مصالح شخصية ضيقة. والأدهى أن هؤلاء يلجأون إلى ملفات أمنية بالغة الخطورة أحيانا، ويرمون معلومات خاطئة تحدث بلبلة».

وشدد صقر على أن «المطلوب من سورية أن تضع لهم حدا، لأن من ينقل رسالة مسيئة من جانبنا نحن نضع له حدا، ونحن نقوم بالرد على هؤلاء بدلا من الجانب السوري، لكننا نتمنى من الجانب السوري أن يرد عليهم ويضع لهم حدا. فالناس بدأ يتشكل لديها رأي في الموضوع، فإذا قلنا إن ما ينقل إشاعات، يردون علينا بأن هذا الشخص يكتب من سورية وينقل عن مصادر كبيرة وذلك السياسي كان في سورية والتقى قياداتها. ففي مكان ما، يذهب هؤلاء إلى سورية لأخذ شرعية اللقاء مع السوري ويأتون إلى لبنان ليصرفوها بناء لأجندتهم الشخصية أو الإقليمية، وهم يذهبون إلى سورية ومعهم وجبة تقارير ملغومة يشكل منها رأي عام خاطئ».

ونقل صقر عن الرئيس الحريري أنه «اعتبر في البداية أن كل ما قيل إعلاميا هو جزء من حملة تشويش خارجية لضرب العلاقة ولم يرد أن يردَّ عليها، فلو اعتبرها رسالة سورية لكان ردَّ عليها أو فاتح القيادة السورية فيها. لكن بما أن الماكينة تكبر يوما بعد يوم، فلا بد من الرد عليها لأنها تشكل رأيا عاما سلبيا وتضفي (ضبابية) حول العلاقة». وقال: «هناك ملاحظات من الطرفين على الأداء، وهذه الملاحظات يبديها الطرفان في اللقاءات المباشرة، وعندما صدرت مذكرات التوقيف السورية كان هناك رد واضح وعلني من الرئيس الحريري بالقول إن فيها (مشكلة)». وأشار صقر إلى أن «العلاقة أصيبت بالجمود لأن الرئيس الحريري كان مصمما على عدم العودة بها إلى الوراء. وفضل أن تتجمد الأمور لأخذ الأنفاس والتفكير بدلا من إعادتها إلى الوراء»، مشيرا إلى أنه «قبل المذكرات السورية التي أصابت العلاقة بالجمود، كانت العلاقة تسير على نحو ممتاز، والدليل أن كل الكلام الآخر كان حشوا. وقبل ذلك، لم يكن ثمة ما يؤشر إلى خلل، وكانت الأحاديث متبادلة بين الطرفين». وقال: «تقديرنا أن ما يحصل هو عبارة عن ماكينة إعلامية لمقربين من سورية، وهؤلاء إما يمارسون ابتزازا أو تشويشا على العلاقة، وفي كل الأحوال هم يسيئون إلى العلاقة»، معتبرا أن هذه التسريبات أساءت إلى العلاقة وخلقت ضبابية حولها، واستنفرت جمهور «14 آذار» إلى حد كبير ضد هذه العلاقات، وحرضت جمهور «8 آذار» وأعطته معنويات كاذبة، وخلقت مناخا يوحي بعودة العلاقات السابقة (قبل عام 2005). وقال: «العلاقات جامدة منذ صدور المذكرات من جهتنا، لإعادة النظر والتقويم والتصويب. فلو تركنا الأمور تمر دون محاولة تصحيح، نكون قد عدنا للتأسيس لخلل في هذه العلاقة، وتراكم الخلل يؤدي إلى انحراف في العلاقة بشكل كامل. الرئيس الحريري لديه قرار بعدم جعل أي شائبة تشوب علاقته مع القيادة السورية، ولا يريد أن (يختم الجرح وفيه التهاب). وفي المقابل، فإن القيادة السورية وقفت بدورها لاستكشاف الأمور. والرئيس الحريري لا يزال يتعاطى مع سورية بكل إيجابية وانفتاح. وتوقف الاتصالات سببه وجود مشكلة يجب أن تعالج، لكن هذا لا يعني أن العلاقة مقطوعة بين الطرفين. وبالنسبة إلينا، فإن العلاقات السعودية – السورية مظلة أمان يجب أن ندعمها في كل الأحوال والأوقات».

وعن الدور الذي يمكن أن تلعبه القمة السعودية - السورية، قال صقر: «تستطيع السعودية أن توسع الجسور بين لبنان وسورية، لكن إذا وضع أحد ما مكعبات إسمنتية فيها فلن يمكن السير عليها، ولهذا يجب أن نزيل هذه الجدران للانطلاق بهذه العلاقات، وهذه الحواجز هي المسائل الموضوعية التي تعيق العلاقة، وأي خلل يطرأ على هذه العلاقة يوقف السير على هذا الجسر. ولهذا، نقول بوجوب تذليل العقبات الموضوعية، ومنها قضية المذكرات وقضية الضخ الإعلامي القائم»، مشددا على أنه «لا يمكن إلغاء المحكمة الدولية التي هي في مجلس الأمن، فالمسألة ليست مسألة عشائرية بين آل الحريري و(آل القتلة). التوهم بأن الحريري سيلغي المحكمة هو عبارة عن (خيال علمي). ما يمكن فعله هو الكلام عن كيفية مواجهة تداعيات القرار الظني وخلق شبكة أمان لبنانية». وقال: «لا السوري وصل إلى مرحلة يطلب فيها إلغاء المحكمة، ولا الرئيس الحريري يمكن أن يمر عليه مثل هذا الطلب من دون أن يستغرب، ولا المملكة العربية السعودية قادرة على إلغائها. وعلى أي حال، قال الرئيس الحريري في استباق لهذا القرار، إن أي قرار ظني فيه شبهة لشاهد زور هو قرار مرفوض من أساسه. وأي دليل فيه إسرائيلي واحد مرفوض، وأي قرار ظني يريد أن يلف حبل المحكمة على عنق المقاومة لنزع سلاحها مرفوض، وأي قرار ظني مسيس لضرب حزب الله مرفوض. وهذه التطمينات يجب أن تكون قد طمأنت حزب الله بشكل كامل، وأي فتنة قد يخلقها القرار الظني. فإن أكثر من يتأثر بالقرار هو الرئيس الحريري ومشروعه العام القائم على الاستقرار والازدهار، وآخر المتأثرين به هو حزب الله الذي يعيش دورة اقتصادية وأمنية خاصة ويزداد قوة في اقتصاد الحرب. والرئيس الحريري حرصا على مصالحه السياسية والشخصية، بالإضافة إلى حرصه على مصلحة البلد، سيرفض أي قرار مسيس، وهذا ما يجب أن يطمئن حزب الله. الحريري يحاول أن يقول لحزب الله إنه لا يبني علاقة مع سورية على حساب الحزب، بل انطلاقا مما كان يطالب به الحزب من السعي إلى علاقة طبيعية وسوية بين البلدين. سورية اتُّهِمت سياسيا وبُرِّئت سياسيا، أما حزب الله فلم يتهم سياسيا حتى تتم تبرئته وهو ليس في موقع الاشتباه بالنسبة إلينا».

وفي الإطار نفسه، يؤكد عضو كتلة الحريري النائب زياد القادري أن «العلاقة بين رئيس مجلس الوزراء سعد الحريري والرئيس السوري بشار الأسد لا تزال قائمة، وهي علاقات قائمة على مبدأ الندية من دولة إلى دولة»، موضحا أن «العمل جار للحفاظ على العلاقات العربية - العربية وعلى الطائف، والتأكيد على العيش المشترك بين المسيحيين والمسلمين في لبنان، والاستمرار في الحوار بين بعضنا البعض والعمل لمصلحة البلد». ورأى أن «القمة السورية - السعودية الأخيرة في الرياض أعادت الزخم إلى القمة الثلاثية التي عقدت في لبنان»، مؤكدا أن «سقفنا العدالة والاستقرار في البلد»، مشددا على أن «لا مجال للمساومة على المحكمة الدولية في أي قمة عربية»، آملا أن «تستكمل المحكمة الدولية عملها وتستمر التحقيقات لنصل في النهاية إلى العدالة، لأن تحقيق العدالة هو الذي يثبت الاستقرار».