مدن صينية تعج بالمباني.. وقليل من البشر

انتقادات لخطط بتحويل مساحات قاحلة إلى حواضر مزدهرة يستفيد منها سكان الأرياف

عامل يشتغل في موقع إنشاءات بمنطقة أوردوس التابعة لإقليم منغوليا في شمال الصين («نيويورك تايمز»)
TT

اعتمادا على الكثير من المقاييس، تشكل هذه المدينة الغنية بالموارد والواقعة في شمال الصين قصة نجاح رائع. فهي تتمتع بمخزونات هائلة من الفحم والغاز الطبيعي، واقتصاد يحقق نموا سريعا، وسوق عقارية شديدة النشاط لدرجة أن كل منزل يطرح للبيع هنا سريعا ما يتم اصطياده. ومع ذلك، يبقى أمر غائب بصورة عامة عن الضاحية المركزية الفاخرة الجديدة بالمدينة: الناس.

يبلغ عدد سكان المناطق الرئيسية الأصلية في أوردوس 1.5 مليون نسمة، لكن النسخة المستقبلية من أوردوس، المبنية من الصفر على قطعة أرض فضاء ضخمة تقع على بعد 15 ميلا جنوب المدينة القديمة، تخلو من البشر. ففي هذه الضاحية الجديدة، التي تدعى كانغباشي نيو إريا، تخلو الشوارع الواسعة من حركة المرور، وتبدو المباني الإدارية خالية. في الشوارع، لا تبدو سوى حركة مشاة ضئيلة. وبدأت الأعشاب في الظهور داخل مناطق الفيلات الفاخرة الخالية من السكان.

وقالت لي لي، وهي مديرة تسويق بأحد المطاعم الفاخرة داخل فندق «ليدو هوتيل» الخالي تقريبا من النزلاء في كانغباشي: «يشعر المرء بالوحدة هنا. ينتمي غالبية الأفراد الذين يفدون إلى مطعمنا إلى المسؤولين الحكوميين وضيوفهم. لكن ليس هناك أي سكان من المواطنين العاديين بالجوار».

كان الأمل قد راود قيادات المدينة، التي سعدت بالشركات الوافدة لتنفيذ مشروعات إنمائية كبرى، في أن تساعد هذه المشروعات في تحويل أوردوس إلى نسخة صينية من دبي، بحيث يجري تحويل مساحات شاسعة من الأراضي القاحلة إلى حاضرة مزدهرة، بل واستثمروا أكثر من مليار دولار في هذا المشروع الطموح.

إلا أنه بعد أربع سنوات من انتقال حكومة المدينة إلى كانغباشي، وبناء عشرات الآلاف من المنازل وعشرات المباني الإدارية التي أنجزت الآن، تعرضت المنطقة الممتدة على مساحة 12 ميلا مربعا لسخرية لاذعة من قبل صحيفة «تشاينا ديلي» التابعة للدولة باعتبارها «مدينة أشباح» تجسد الإسراف والتفاؤل الأعمى.

ومع دفع الاقتصاد الصيني المنطلق بقوة عجلة الازدهار العقاري بمختلف أرجاء البلاد، يشير نقاد إلى أماكن مثل كانغباشي باعتبارها دليلا على فقاعة عقارية يحذرون من أنها ستنفجر في النهاية، الأمر الذي سيثير موجات من الصدمة عبر القطاع المصرفي ببلاد ظلت على مدار العامين الماضيين المحرك الرئيسي لقاطرة النمو العالمي.

الثلاثاء الماضي، أدهشت الصين المحللين بإقرارها زيادة قليلة في معدل الإقراض الإرشادي، مما يبدو أنه محاولة لكبح جماح المضاربة في سوق العقارات. إلا أنه داخل الصين، يتشكك محللون في أن تنجح هذه الزيادة الضئيلة في معدل الإقراض في إبطاء التوسع الهائل في بناء المباني الذي يمتد حتى إلى الأقاليم القاصية، مثل أوردوس.

كان من المتوقع أن يصل عدد سكان كانغباشي إلى 300 ألف بحلول الوقت الراهن. من ناحيتها، تدعي الحكومة أن 28 ألف نسمة يعيشون في المنطقة الجديدة. إلا أنه خلال زيارة أخيرة للمنطقة، لم يشاهد مراسل تنقل بسيارة بمختلف أرجاء المنطقة لساعات برفقة اثنين من سماسرة العقارات سوى حفنة من السكان داخل مشروعات تنمية عقارية.

ويقدر محللون وجود قرابة 12 مدينة صينية أخرى مثل أوردوس، ملحق بها مدن أشباح تمتد على مساحات واسعة. فمثلا، في مدينة كونمنغ الجنوبية، أثارت منطقة تمتد على مساحة تقارب 40 ميلا مربعا تدعى تشينغونغ القلق بسبب ما تعانيه من ندرة السكان في شوارعها ومبانيها. وفي تيانجين، بشمال شرقي البلاد، أنفقت المدينة بسخاء على ضاحية ضخمة تزدان بملاعب الغولف وعيون مائية حارة وآلاف الفيلات التي لا تزال خالية بعد خمس سنوات من اكتمال بنائها.

وتبدو هذه المدن مرتبطة بالهدف الصيني الوطني المتمثل في نقل مئات الملايين من سكان المناطق الريفية إلى مدن كبرى على مدار العقد المقبل، أملا في خلق طبقة وسطى كبرى.

إلا أن تحديد ما إذا كانت جهود التوسع على غرار ما شهدته أوردوس وإعادة تصميم المدن القديمة يتحرك انطلاقا من تخطيط حصيف أم جنون يتعلق بالمضاربة، يعد بمثابة تحد رئيسي لصناع السياسة في بكين.

وخوفا من التفاوت واندلاع اضطرابات اجتماعية، ناضلت الحكومة الوطنية ببكين لكبح جماح أسعار العقارات المتزايدة بشدة والقضاء على خطر التضخم، رغم استمرار مسؤولين محليين طموحين في وضع مخططات لبناء مدن كبرى جديدة. وحتى إذا رفضت المصارف الحكومية تقديم قروض إدارية لشركات التنمية العقارية، فإن المقرضين العاملين بالسوق السوداء سيسعدون بفرصة أن يحلوا محلها.

وقال باتريك تشوفانيك، بروفسور إدارة العمال بجامعة تسينغوا في بكين، إن الازدهار بنشاطات البناء يقف وراءه مستثمرون متعجلون، وليس الاحتياجات السكنية لملايين العمال المهاجرين. وأضاف: «إن الناس يتعاملون مع العقارات كاستثمار، كمكان لتخزين النقد به، إنهم يعاملونها مثل الذهب. إنهم يخزنون وحدات خالية. ويحدث هذا الأمر داخل المدن بمختلف أحجامها».

هنا في أوردوس، في إقليم منغوليا الداخلية بشمال الصين، الذي يتسم بضآلة أعداد السكان، تسود وجهة نظر مختلفة، حيث تنتشر الرافعات بكل مكان، مع مضي أعمال التشييد والبناء قدما في بناء ضاحية مالية بتكلفة 450 مليون دولار في كانغباشي، وهو موقع يوجد به الآن ستة أبراج مكتبية شاهقة. وتتميز التنمية العقارية هنا بازدهار بالغ لدرجة أنه في العام الماضي وصلت المبيعات السكنية في أوردوس إلى 2.4 مليار دولار، بارتفاع عن 100 مليون دولار عام 2004. وخلال هذه الفترة، ارتفع متوسط سعر القدم المربع في العقارات التجارية والسكنية بنسبة 260%، لتصل إلى 53 دولارا. وقال لي هونغ، مسؤل حكومي، خلال جولة له مؤخرا في كانغباشي: «هذه مدينة المستقبل. سنحول هذه المدينة إلى مركز للنشاط السياسي والثقافي والتقني. هذا هو حلمنا».

إلا أن هذا المستقبل لم يتحقق بعد، رغم جهود لي بإقناع الزائرين بخلاف ذلك. وقال لي: «يمكنكم مشاهدة طاقة حقيقية هنا»، متطلعا نحو ميدان فسيح، رغم عدم وجود سوى عدد قليل للغاية من الأفراد بها - يعتقد أنهم عاملون حكوميون - داخل ميدان واسع يضم تماثيل من البرونز تكريما للمحارب المنغولي جنكيز خان. ومن بين المنشآت الخالية المحيطة بالميدان دار مسرح وأوبرا ومتحف للفنون.

ربما يعتمد تفاؤل قادة المدينة على العائدات المالية الضخمة التي حققتها أوردوس في السنوات الأخيرة لما تتميز به كواحدة من أكبر احتياطيات الفحم في العالم، والذي شهدت أسعاره ارتفاعا هائلا مع الارتفاع الشديد في الطلب على الطاقة داخل الصين. وبينما كانت المنطقة تعاني من الفقر من قبل، تضم المدينة حاليا أعدادا متزايدة من المليونيرات المعنيين بمجال الفحم، إضافة إلى أكبر إجمالي ناتج داخلي بالنسبة للفرد على مستوى البلاد (19.679 دولار)، مع تحول سيارات «لاند روفر» إلى رمز بارز لثراء أوردوس الجديد.

وقال زهانغ شوانغوانغ، 66 عاما، رئيس «ييتاي غروب»، واحدة من أكبر الشركات الخاصة العاملة بمجال استخراج ونقل الفحم: «بدأت شركتي عام 1998. وقبل ذلك، كنت مسؤولا حكوميا بسيطا. في ذلك الوقت، كان معي فريق من المعاونين. ومنحتنا الحكومة 7500 دولار وأقرضتنا 60000 دولار، وقالت لنا: افعلوا ما يحلو لكم. ونحن اشترينا منجما للفحم».

بعد عقدين، أصبح زهانغ مليارديرا، وتتودد «وول ستريت» لشركته البالغ قيمتها 4 مليارات دولار لمساعدة واحدة من شركاتها في إعداد جدول أسهم عام.

في عام 2004، مع امتلاء خزانة أوردوس الضريبية بأموال الفحم، وضع مسؤولو المدينة خطة توسع جريئة لإقامة كانغباشي، على بعد 30 دقيقة بالسيارة من مركز المدينة القديمة على أرض متاخمة لواحد من الأماكن القليلة بالإقليم التي تضم مخزونات فحم. ولأن المناقصات على الأراضي تمثل مصدرا كبيرا للدخل في الصين، تمثل جزء من جاذبية الخطة في إمكانية رفع قيمة الأراضي داخل منطقة تعاني من تراجع مستوى التنمية العقارية.

وخلال فترة نشاط أعمال البناء التي أعقبت ذلك، تكالب مشترو المنازل على كانغباشي ومشروعات التنمية السكنية بها والتي حملت أسماء مثل «إكسيكوزيت سيلك فيليدج» و«كانغي إليزيه» و«إمبريال أكاديميك غاردينز».

* خدمة «نيويورك تايمز»