عالم دين سعودي: توظيف النصوص ومقومات الدين لفرقة أو خلاف شرعي يعطي «متدثرين» دافعا لـ«القتل وإراقة الدماء»

نكث للمرة التاسعة استنادات «ضعيفة» للتغرير بصغار سن سعوديين.. وحذر من رسالة بعنوان «معالم الطائفة المنصورة في عقر دار المؤمنين» لاحتوائها فكرا أخطر من توجهات الخوارج

الحميدي يعتبر أحد الأكاديميين السعوديين الذين عايشوا تصحيحا لمفاهيم كادت تؤدي بهم إلى قوائم من يصفهم الدكتور «متدثرين» بين صفوف مجتمعه («الشرق الأوسط»)
TT

سدد عالم دين سعودي، حاصل على الدكتوراه في علوم الفقه وأصول الدين الإسلامي، ضربة جديدة موجعة، لتيارات متطرفة منتشرة في العالم العربي والإسلامي، خصوصا في بلاده السعودية، بعد أن عاد ونكث وفضح عددا من الدوافع التي كان يعتنقها في مرحلة من عمره مضت بالتوافق مع تلك الفئات المتطرفة، واعتبر عودته وانكفاءه على تلك التيارات عودة «لجادة الصواب والحق، وابتعادا عن مزالق الضعف»، وبات يتعامل مع تلك المرحلة الماضية على اعتبارها «خداعا وتدليسا على الأمة» تكتنفه دعوات لـ«تشتيت الأمة، بل تشظيها وتمزيق صفها».

وخرج لإيضاح ما يكتنف الغلو والتزمت والتشدد والتطرف دينيا، وما يتحقق عنه من الأمور والأهداف، شريطة القيام بما سماه أكاديمي ورجل فقه سعودي «توظيف النص الشرعي ومقومات الدين» بهدف إحداث فرقة أو خلاف شرعي في قضايا دينية، ما يندرج في إطار استغلال العاطفة الدينية، وهو أمر يسهل على من نعتهم بـ«المتدثرين» أن يستغلوه في أمور تخدم آيديولوجيا متشددة ربما تقود لدرجة القتل وإراقة الدماء، وهو أخطر ما يمكن حدوثه.

ويعيد الأكاديمي السعودي «الغلو أو التشدد والتطرف الديني» سنوات طويلة للوراء، باعتباره ظاهرة عانتها الأمة قديما، وتعاني حديثا، وأخطر ما في تلك الظاهرة «توظيف مقومات الدين والنص الشرعي واستغلال مكامن التدين والعاطفة الدينية لدى الناس وتوجيهها لتصبح سيئة الظن منعزلة، وهو ما ذكر آنفا، والأمر الذي لا يمكن أن يتحقق الغلو من دون وجوده، وهو «إحداث شرخ داخل الجماعة المسلمة - المجتمع المسلم - لتحقيق انقسام داخل صفوف ذاك المجتمع، ليصبح جزءا من أفراده بمثابة شوكة في خاصرة الأول، تكون مهمتها إضعاف المجتمع وإتعابه».

فهذان الأمران لا يمكن أن يبلغ فيهما الإنسان درجة الغلو الديني أو التطرف الديني بكل ما تعنيه الكلمة من معنى، من دون توافر هذين العنصرين المهمين، اللذين لا يمكن أن يقترنا بمحور غير «محور الشر» في الظن أغلبه، إن لم يكن جميعه. أما الانقلاب على النفس والذات ومحاولة التصحيح بمراجعة ونكث بعض المعتقدات الخاصة، فلن يتحدث عنه بصدق من لم يعش تلك الحالة أو التجربة، أو كما في حالة الشيخ الدكتور عبد العزيز بن أحمد الحميدي، الأستاذ المساعد بكلية الدعوة وأصول الدين بجامعة أم القرى بمكة المكرمة، الذي انكفأ على نفسه مصححا فكرا أدى بالعديد إلى أن يصنفوا بـ«المتدثرين» كما حلا له وسماهم في بداية الحديث.

فالاطلاع على تجربة تطرف ديني أمر ربما يكون مفيدا من الناحية «الاستخباراتية على المستوى العملي، أو من حيث التأصيل الشرعي لمعتقدات تستند عليها آيديولوجيات تخدم أهدافا تعتمد على نبذ الآخر، هنا الفائدة ستكون على المستوى العلمي، وأن تطلع على كيفية إدارة العقول المتشددة لشخصيات البعض منها خاوية من الداخل، لا تملك علما ولا فكرا، كل ما في أمرها أنها ذهبت ضحية الحماسة في الاستماع وتركت الإدارة للمتحدث»، هنا الحديث عمن يلقي بعقله لتيارات متشددة تقود في النهاية العقول لتحقيق مصالحها الخاصة لا مصالح الأمة، أو كما يزعم البعض منهم «مصالح الأمة الإسلامية».

الأكاديمي السعودي، بكل جرأة وتجرد، يعود لمكاشفة نفسه أمام الملأ، في إحدى الفضائيات السعودية للمرة التاسعة على التوالي، في برنامج حواري صريح، يحوز ساعتين من البث أحيانا، من ساعات البث المباشر الخاصة بالتلفزيون السعودي.

الـ9 حلقات الماضية كانت سببا لأن يخرج أحد عن صمته، ليهاجم الحميدي الذي كان من «الرفقة القديمة له»، بل كان من «المؤيدين لفكره»، وبات الآن نشازا تجب محاربته من النواحي الفكرية والعقائدية، فتحققت مقولة «من كان صديق الأمس، بات اليوم عدوا»، ويظهر بقدر رد الفعل أن للشيخ الدكتور عبد العزيز الحميدي مكانا بين تلك الجماعة في السابق، يبدو أن المكانة تلك لا تعطى إلا للكبار من المؤيدين، كما هو الحال المنطبق على قصة رجل الفقه السعودي العائد لجادة الصواب، وتجلى وضوح تلك المكانة في رد من هاجمه الحميدي من «المنظرين العرب» فيما مضى من حلقات سابقة.

فسمعت صرخات ونفحات البعض ممن كان يتفق معهم الرجل في السابق، واختلف هذا الأمر في الوقت الراهن، فشهد عدد من المواقع الإلكترونية الأصولية «المتطرفة» على شبكة الإنترنت صيحات كان آخرها قبل أيام قليلة أطلقها متطرف عربي، هاجمه الدكتور السعودي في حلقة ماضية، بعد أن عرف وعلم ذاك المتطرف الذي خول لنفسه مهاجمة المجتمع السعودي المحافظ، فيما يسميه «فتاوى شرعية» لا يقبلها ويوافقها إلا متطرف مثله، ولا ترغب «الشرق الأوسط» بنشر اسم أو معلومات عن ذاك المتطرف العربي، كونه ليس معروفا إلا لدى «حفنة من المتطرفين المتسكعين المراهقين» ولا ترغب بأن تتجاوز رفقته تلك الـ«حفنة».

فالحميدي، الذي نشرت «الشرق الأوسط» حلقاته على مدى 9 أسابيع، لم يسلم من رشق متطرفين عرفوه في مرحلة ماضية من التشدد والأصولية الدينية، أي قبل عودته لجادة الصواب كما يرى، بعد أن كاشف الأكاديمي السعودي ونكث كثيرا من الاستنادات الشرعية «الـضعيفة» التي يستخدمونها للتغرير بصغار السن من أبناء مجتمعه - المجتمع السعودي - لخدمة مصالح آيديولوجية متشددة لفئات مندسة هنا وهناك، وكان حديث الدكتور السعودي عن كتاب يسمى «الكواشف الجلية» بات يرى أنه كتب لزعزعة الأمن والاستقرار وشق الصف وتفريق وحدة المجتمع السعودي، مستندا على احتواء الكتاب دعوات لتشتيت الأمة، بل «تشظيها وتمزيق صفها»، في إشارة منه إلى جماعات متطرفة، تعمل على تأويل بعض الأدلة من القرآن والسنة النبوية المطهرة لما يخدم أجندتها.

ويبدو أن انقلابا آخر أقدم عليه الأكاديمي السعودي لرفقة الماضي، فشملت سهامه هذه الحلقة خلال حديثه عن كاتب رسالة ربما تكون منتشرة في بعض الأوساط الشبابية، تحت عنوان «معالم الطائفة المنصورة في عقر دار المؤمنين» فتحوي الرسالة أفكارا مهمة، ويلحظ قارئ الرسالة أنها مصبوغة بصبغة إسلامية، وبصبغة إنقاذية للمجتمع المسلم من الكفر نحو الإيمان، ولكنها رمت كثيرا من الأفكار التي توجه نحو فكر المجتمع، فعلى سبيل المثال، فكرة كبيرة جدا وهي توجه فكرة التكفير للمجتمع الإسلامي ككل، وتكاد تلك «الرسالة الصغيرة» تتحدث عن نقطة مهمة، وهي مسألة انتشار الردة في المجتمع، والكفر منتشر، والحاكم مرتد، والجماعات والعلماء فيهم ردة، تحوي من أولها إلى آخرها تشنجا شديدا، وتقف خلفها نفسية متأزمة بشدة، تريد أن تظهر هذه الأزمة النفسية تحت ذريعة «إنقاذ ما يمكن إنقاذه من الأمة التي ضاعت وارتدت».

وينظر الحميدي للرسالة المنتشرة بين أوساط الشباب وصغار السن بعين تؤكد أنها «سلكت مسلك التكفير بالعموم من دون استثناءات، وألغت جميع ضوابط التكفير، يكفر بمطلق الفعل الذي يتصور هو، أي صاحب الرسالة ليس النص الشرعي الحقيقي، أنه ردة وكفر من دون أعذار، لا بإكراه ولا بتأويل، ولا بفهم ولا استيعاب، وهذا من أخطر ما يمكن حدوثه وأشده غلوا، بل لاحظت في الرسالة مظهرا مغاليا جدا، يكاد يفوق الكثير من طوائف الخوارج القدماء، فما رأيت تكفيرا بهذا العموم من دون أي استثناء مثل ما في هذه الرسالة، فهي فعلا صغيرة وعديمة المنهجية أصلا، لا توجد فيها منهجية علمية، كنت أتوقع استعراضا واسعا للآيات القرآنية وتفاسيرها، واستعراضا واسعا للأحاديث النبوية، فأعددت نفسي لدراسة واسعة، فإذا بها رسالة تكفر جميع مجتمعات المسلمين، وجميع خطباء الجمع، وجميع المشايخ والقضاة، وجميع الحكام وكل من رضي بهم، ثم لا تجد فيها إلا آيتين أو ثلاثا، بعضها محرف».

وبعد التحول الجذري للدكتور عبد العزيز الحميدي، في «رحلة التصحيح»، بات يرى أن الغلو سبب لإضعاف المجتمع المسلم والأمة المسلمة، ويصبح آلة هدم في المجتمع، ومن المقاصد الشرعية أن نكون أمة واحدة، وكل الخطابات في القرآن جاءت بخطاب الجماعة، كما يقول الله سبحانه: (وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان) فيجب الاستفادة من جميع المواهب وجميع الطاقات، النبي - عليه الصلاة والسلام - كان يطبق هذه الآية، فإذا دخلت هذه الظاهرة، أساءت الظن عند عموم الناس في القضايا الشرعية والدينية، كما هو ظاهر اليوم، أصبحت مظاهر التدين مخيفة للناس؛ لأنهم يتوقعون أن وراءها «تطرفا أو غلوا وتكفيرا»، فتصبح القضية الشرعية بسوء سلوك طائفة من الغلاة، متهمة في ذاتها، أو مخيفة للناس، ويتقون خشية أن تفرز عن هذا الداء العظيم والخطر الكبير، أما من الناحية الأخرى فنجد دعاة هذه النحلة، أو الفئة، لا يعمدون إلى الشخص الذي عنده نوع من التفريط في دينه مثلا أو نوع من التساهل في الأحكام الشرعية، إنما يعمدون للشخص الذي فيه بوادر الخير ومظاهر التدين وعنده العاطفة الدينية طيبة ويرتاد المساجد ويحب الناس ويريد أن ينفعهم، فتستغل في هذه المسلك بتوظيف صاحب الغيرة الدينية، ويتحول إلى «متجهم متقطب» سيئ الظن في الناس فيتحول إلى عنصر هدم، فيشغل نفسه ويحمل هذا كله على المجتمع، فيصبح داء، وأي داء يصيب أي جسم مهما كان إذا ترك سيفسد الجسم ويتعبه ويكربه، فكيف إذا كان داء بهذا المستوى في توظيف القضية الشرعية الدينية وتوظيف كلام العلماء السابقين وتوظيف كثير من العواطف الشرعية الدينية وتحويلها أهواء، هي في الحقيقة ضغائن، وهذا هو وجه الخطورة في ظاهرة الغلو.

ويرى الحميدي أن «العطن الفكري أو الفكر المشؤوم على المجتمعات ككل، إنما ينطلق من الغلو في أغلب أحيانه، وينطلق من الجهل أيضا، لكن الغلو انطلاقته كبيرة جدا، وقد تحدثنا في لقاء مضى عن بعض مظاهر الفكر الذي يحوي غلوا، ويخرج بالمجتمع بعيدا عن دائرة النص الشرعي. وتحدث الدكتور الحميدي العائد لجادة الصواب منبها المجتمع إلى ألا يقع في براثن أفكار تبعده عن النص الشرعي وأهدافه».

ويعتبر «وجه الخطورة في تحقيق ما تعود المسلمون أن يوجه الغزو إليهم، بالشهوات مثلا، أو بالأهواء أو بالفكر الغربي والنظريات الغربية، فصار عند المسلمين حساسية في نواح كثيرة، من بينها: فكر غربي، خلاصة ثقافته وأصوله ونتائجه غريبة تماما عن الفكر الإسلامي وقواعده وأصوله ونتائجه، وهنا مكمن الخطورة، طبقا لرؤية الحميدي وفلسفته، ويستغل تلك الثقافة أفراد أصبحوا معروفين، لا يستقبل كلامهم في الغالب بالترحاب، وإن كان الغزو الفكري قد أثر في فترات كبيرة، لكن رده ودفعه أمر سهل وميسور، لكن عندما يأتي الأمر من داخل الأمة، هنا تكون المشكلة أكبر».

ويقول: «تأملت قضية مهمة جدا، فلو نظرت إلى جميع البدع الكبرى التي ظهرت في الإسلام، مثل بدعة نفي القدر، وعموم مذاهب القدرية قديما وحديثا، ومذاهب الجهمية ونفي الصفات وتعطيلها، وما يتعلق بالغيبيات عموما والتشكيك فيها وإدخال العقل البشري في القضايا الغيبية، وبالتالي اختصارها أو نفيها أو تعطيلها أو إلغاؤها باسم العقل، وهي وافدة في الحقيقة، يقول الإمام الأوزاعي - مثلا على سبيل المثال - وهو من أئمة أتباع التابعين في زمن تابع التابعي، يقول: أول من تكلم في القدر رجل نصراني يسمى سيسويه البقال ادعى الإسلام، ثم نشر هذه الفكرة فتقبلها عنه بعض الناس، ثم عاد نصرانيا، وكذلك مذاهب العقلية التي تحمل أو تعتبر مرشحة أو مختبرة للقضايا الغيبية الشرعية هي من مولدات اليهود، كما ذكر شيخ الإسلام وغيره أنها عرفت من رجل اسمه الجعد بن درهم، والجعد بن درهم تلقاه عن بيان بن سمعان اليهودي ونحو ذلك، لكن إذا جئت إلى مذهب الغلو الذي يمثله مثلا الخوارج القدماء، تجده نشأ من داخل الأمة بتوظيف النص الشرعي، ولذلك كانت خطيرة».

ويأخذ الدكتور الحميدي مهمة التبيين ويؤكد أن «المرحلة الثانية، وهو أمر مهم جدا، مع أنه قد ظهرت في الإسلام بدع خطيرة للغاية، مثل التشيع، والمذاهب الباطنية، والمذاهب الفلسفية، ونفي القدر، وقد تصادمت مع أصول الدين، إلا أنه لم يثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه حذر من بدعة بعينها، سواء في مظاهرها أو في أفرادها أو في نتائجها، إلا بدعة الخوارج، ولم يذكر شيئا غيرها، وهذا لا يعني أن البدع الأخرى هينة أو يسيرة، بقدر ما يعني أن هذه البدعة خطيرة ومتعبة؛ لأنها كانت في الناحية الزمنية من أوائل ما ظهر، ولأنها أحدثت جرحا خطيرا جدا في الأمة يخبو وينكأ من جديد، فتحولت جميع جهود الدعوة كرسالة للإسلام، حتى من أيام الخلفاء الراشدين، بدل ما يتوجه لغير المسلمين رجعت إلى تصحيح هذا المرض الداخلي، حتى السيوف المجاهدة والفتوحات ونشر الإسلام توقفت أيام علي بن أبي طالب وما بعده بقليل لما ظهرت قضايا، فقد ثبتت الأحاديث عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم - في التحذير من بدعة الخوارج، كما قال شيخ الإسلام وكما قال الإمام أحمد قبله من عشرة أوجه من عشرة أحاديث، استوعبها الإمام مسلم كلها في الصحيح فأخرجه وأخرج الإمام البخاري منها أربعة أو خمسة أحاديث، فذكر العلماء أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نبه إلى هذه البدعة؛ لأنها تنشأ من داخل الأمة، ليس لها مظهر وافد غربي نصراني أو يهودي أو مجوسي، كمذاهب الباطنية وغيرها».

وعطلت ظاهرة الغلو أيضا من وجهة نظر الأكاديمي السعودي الدكتور الحميدي «من مظاهر البناء والدعوة في الشريعة الإسلامية الشيء الكثير، بالإضافة إلى إساءة الظن سواء عند الكفار كفرا صريحا، أو عند المسلمين، وهم يحتاجون إلى نوع من التوجيه الإسلامي والدعوة الإسلامية لما هم فيه من أخطاء ومظاهر سلبية، أصبحت عائقا دون تقبلهم للدعوة الشرعية، خوفا من أن يكون وراء هذه المظاهر تشدد وتطرف».

وبالعودة إلى الحديث عن الرسالة المنتشرة بين أوساط الشباب وصغار السن، ومن تلعب الحماسة دورا رئيسيا في رسم قراراته الخاصة، يتصور الدكتور، الذي يعمل أستاذا لأصول العقيدة الإسلامية والفقه، أن الرسالة «دلالة على جهل عظيم، وجرأة من أعظم ما يمكن، ليس علي ولا عليك ولا على المجتمع، وإنما على الله - سبحانه وتعالى - على آيات تنقل من المصحف الشريف نقلا محرفا، تحذف منها كلمات، الله أعلم بحسن نية أم بسوء نية أم بجهل، هذا علمه عند الله، لكن قد نعذر شخصا يقرأ القرآن ويخطئ، فهذا قد يرد، لكن تؤلف لتؤسس لمسألة بهذا الحجم الخطير العظيم وتدعو للقتال بكل جرأة وبإلغاء كل ضوابط الجهاد، وتنقل آية أو آيتين أو ثلاثا وفيها تحريف كثير، هذا من أغرب ما يمكن، كنت أتوقع استعراضا للأحاديث الشريفة ودراسات واسعة، لغوية وشرعية، وإذا بها تخلو تماما من أي حديث يسمى حديثا صحيحا، إلا حديث عبادة، وهو ما ينبئ بسوء تأويل وخطر تأويل وقع فيه صاحب هذه الرسالة».

ويسهب أستاذ الفقه السعودي في الشرح والتدليل على عظم الخطأ الذي أقدم عليه من ساق الرسالة وساندها بالقول: «فإذا وضعت أنت الفكرة وتريد أن تبحث لها ستسلك مسلك التأويل، ستسلك مسلك التحريف، ستعمي عينيك عن أي دليل ترى أنه يتصادم مع فكرتك، أو لا يخدمك، هنا يتحقق ما بلغه صاحب هذا الكتاب من تحريف الآيات القرآنية، وهذا من أعظم الجرأة والوقاحة والجهل، والاستدلال بأحاديث ضعيفة وضعيفة جدا، وترك الكم الهائل من النصوص الشرعية؛ لأنه لا يمكن لمسلم أن يظن أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ترك مثل هذه القضايا التي يترتب عليها تكفير وقتال وحرب مائعة هكذا أو ذائبة، أو خاضعة لرأيي ورأيك واجتهادي إلا وقد وضح فيها التوضيح الذي يدرأ كل تأويل فاسد».

وأخذ الدكتور الحميدي «نماذج أول آية في هذه الرسالة، وهي قد تكون من الله حكمة حتى يفضح مثل هذا التأليف وهذا المؤلف، أول آية استدل بها طبعا، بعد أن قدم قبلها مدحا لنفسه، وهذا مسلك الخوارج قديما وحديثا، يأتي أحدهم يضخم نفسه وأنه هو القائم بالحق وأنه هو الفئة الباقية المنصورة، وأنه هو الذي سيجادل ولو وحده من دون دين الله، وملايين المسلمين والعلماء كأنهم خانوا الله ورسوله. ومن ثم استدل بالآية التي حرفها أو نقلها خطأ، أو أنها من حفظه، وهذا يؤكد أنه ربما لم يكلف نفسه ويراجع المصحف الشريف لنقل الآيات القرآنية بشكلها الصحيح كما وردت في القرآن الكريم».

وقرأ الدكتور الحميدي القرآن كما قرأه وحرف آياته كاتب الرسالة في مسألة مهمة مثلا، كما نقلها هو، ثم نبين الآية الصحيحة كما أنزلها الله سبحانه وتعالى وهي قوله تعالى «ولا يطئون موطئا يغيظ الكفار إلا كتب لهم به عمل صالح»، وهنا نجد أنه حذف جملة كاملة، والآية الصحيحة قوله تعالى «ولا يطئون موطئا يغيظ الكفار ولا ينالون من عدو نيلا إلا كتب لهم به عمل صالح»، فجملة «ولا ينالون من عدو نيلا» سقطت من الآية، ثم هو لا يعزو أصلا ولا يقول هذه الآية في سورة براءة «التوبة»، آية رقم كذا، ويذكرها بين قوسين، حتى الذي لا يعرف القرآن، ربما قد لا يفطن إلى أنها من كتاب الله - جل وعلا - وهو ربما يعلم أن كثيرا ممن يقرأ، حتى الشباب، ربما يتأثرون عنده ويعيشون في أريحية، لا يسوغ نقل القرآن باختصار ولا بتحريف إلا إذا كان جاهلا لا يعرف أو ينقل من حفظه ولا يكلف نفسه بمراجعة القرآن الكريم وهو يؤلف ويدعو إلى فكرة خطيرة، هذه الجملة من الآية هي في سياق الآيات التي أمر الله بها عموم المسلمين بأن يكونوا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا استنفرهم نفروا وإذا دعاهم للجهاد استجابوا، وهذه الآية يستدل بها الأئمة على أن الجهاد مرتبط بالقائد وولي الأمر والإمام لا في شخص النبي - صلى الله عليه وسلم - لأنه في زمنه جمع النبي - صلى الله عليه وسلم - مع منصب النبوة ومنصب الرسالة منصب القيادة والإمامة، وترجم الأئمة هذا الأمر من باب إذا استنفر الإمام الناس وجب النفير، فيأتون بمثل هذه الآية وقوله تعالى في أعقاب قصة الثلاثة الذين خلفوا وهي «ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أن يتخلفوا عن رسول الله ولا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ ولا نصب ولا مخمصة في سبيل الله ولا يطئون موطنا يغيظ الكفار ولا ينالون من عدو نيلا إلا كتب لهم به عمل صالح إن الله لا يضيع أجر المحسنين * ولا ينفقون نفقة صغيرة ولا كبيرة ولا يقطعون واديا إلا كتب لهم ليجزيهم الله أحسن ما كانوا يعملون».

ثم بعد مجموعة الآيات هذه والتي دليلها أن القائد والإمام وولي الأمر إذا استنفر الناس في قضية اجتمعوا إليه ونفروا معه، فربط النفير بالإمام، وهذا وجه دليل الآية وهذا موردها، جاءت بعدها مباشرة الآية وهي قوله تعالى «وما كان المؤمنون لينفروا كافة فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون»، فهذا يدل على أن المجتمع في حاجة إلى من يتعلم ومن يدرس ومن يتفقه ومن يقضي ومن يحدد متى ينفر هؤلاء وإلى أية جهة ينفرون، ومن يذهب ويفرغ لطلب العلم ومن يفرغ للقضاء وهو الإمام القائد ولي الأمر، ولذلك تنتظم الأمور ويكتمل نشاط الأمة سواء في دفاعها عن نفسها أو في قتالها لأعدائها أو في حفظها لميراث النبوة - وهو الأهم والأعظم - ووظيفة العلماء والفقهاء في غيرها من جوانب البناء، فهذا مورد الآيات وهذا موضعها، وهذا ألغى ما قبلها ولقط من منتصف الآية جملة، يريدها ليضخمها بمدح نفسه، فليته نقلها سليمة، بل نقلها محرفة، وهذا لا أدري ماذا أسميه، لكن فيه جرأة على الله وعلى كتابه الكريم.

وتلحظ في الرسالة أنه يقرر أولا مشروعية الجهاد، وهو خط عريض عند الأمة الإسلامية، الجهاد أمر شرعي كل يقر به، ثم ينتقل ليقرر قضية الردة، وأن المرتد يجب أن يقاتل وأن يجاهد وهو مقدم على الكافر الأصلي كما يذكر في رسالته، ثم يأتي ليقرر أن المجتمع الإسلامي مجتمع مرتد، وعلى رأسهم ولي الأمر، وهنا أريد أن أورد وأقتطف بعضا مما قاله، فيقول: «وقال النووي: قال القاضي عياض: أجمع العلماء على أن الإمامة لا تنعقد لكافر وعلى لو أنه طرأ عليه الكفر انعزل»، فهو يريد الآن أن يقرر أن ولاة الأمر كفار، وهنا ننقاد للتساؤل: فلماذا نجد هذه الرسائل وغيرها من رسائل الغلو تتوجه لقيادات المجتمع الإسلامي من العلماء وولاة الأمر، فتسقط عنهم الإسلام بالكلية وتجعلهم مرتدين؟ لماذا هذا التوجه؟

فيجيب الحميدي بالقول: «هذا هو المسلك الذي سلكوه عندما يوجهون التكفير في البداية إلى الحاكم أو ولي الأمر، ثم كل من بايعه أو عاش تحت ولايته أو عمل في نظامه، باللازم يكفرونه، والتكفير باللوازم، فإذا أسقطوا ولي الأمر وأسقطوا قبله أو بعده ومعه أهل العلم الذين إليهم مرجع الولاية الشرعية في تعليم الناس وحفظ ميراث النبوة سهل عليه أن يبث فكرا فاسدا كهذا، ولو ضاعت حتى منه الأدلة ولو كانت بنصوص محرفة في فكر خاصة طائفة الشباب كما يساء ظنه بولاة أمره وبمشايخه، فلا يسمع منهم، فإذا حصل هذا الانعزال، سهل تلقينه أية فكرة ولو بهذا المستوى الخطير في الغلو، فقد كان كبار الأئمة على مستوى شيخ الإسلام ابن تيمية إذا احتاج أن يحرر مسألة يجهد نفسه في استعراض الأدلة وبحثها، ولو كانت مسألة فرعية بسيطة».

فيرى الأكاديمي السعودي الموقوف حاليا لدى سلطات بلاده أن « في هذه الرسالة أعظم الخلل، ويجب أن يقال ذلك، لأن فيه تأدية للأمانة ودفاعا عن سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - وعن حديثه، وتوضيحا لما ربما يتأثر به قطاع الشباب خاصة؛ لأن كلمة السنة أو والحديث لها قبول عند الناس، خاصة عند قطاع الشباب، فتأملت في هذه الرسالة بدقة ووجدت أن ما فيها إلا بضعة أحاديث، وأكثرها ما بين ضعيف وضعيف جدا، وهذا من أعظم ما يمكن، هذه جرأة على النبي - صلى الله عليه وسلم - أحاديث الجهاد، كما يقول العلماء تفوق المائتي حديث الصحيحة الثابتة، مائتا حديث في أصوله وقواعده وشروطه وضوابطه وآدابه وأموره كلها؛ لأنه مشروع كامل، ليس مجرد قتل، الجهاد هذا مشروع عظيم له أهدافه وقواعده وأسسه، هذه شعيرة عظيمة». ويعتقد الحميدي أن شعيرة الجهاد في الإسلام تملك أكثر من مائتي دليل من السنة، مع الآيات العظيمة؛ فالإمام البخاري له أضخم الكتب داخل الجامع الصحيح، كتاب الجهاد والسير، وضم كل أو معظم هذه الأحاديث المائتين في هذا الكتاب، التي وردت في الجامع الصحيح في البخاري أو في مسلم، أو في الكتب الستة، أما الرسالة التي عاد للحديث عنها، فقد حوت حديثين على سبيل المثال: حديث ضعيف والآخر معضل، يعني سقط من سنده طبقتان من الرجال وأكثر، وأتى بحديث ابن عمر الذي أخرجه الإمام أحمد في المسند وأخرج جزءا منه أبو داود لغرض معين، وأوله معزوا للنبي - صلى الله عليه وسلم - وأقول معزوا ولا أقول قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لأن الحديث ضعيف كما سأذكر، فيقول: «بعثت بالسيف بين يدي الساعة»، هو يريد كلمة السيف الآن، وهذا الفهم خطأ والدليل ضعيف، نعم النبي - صلى الله عليه وسلم - جاهد وأمر بالجهاد كما قلنا ضمن مشروع متكامل حسب تشريع الله - سبحانه وتعالى - جزء من هذا الحديث من المتفق عليه عند طلبة العلم والمحدثين، فالبخاري إذا قال هذا يذكر صيغة يسمونها صيغة التضعيف وصيغة التمريض وإنما قصد البخاري التنبيه إلى ضعف.

الحديث هنا «يحوي إشارة عظيمة، ولكن أنا أعرف أن كثيرا من الشباب والذين يسمعوننا الآن وسيسمعوننا - إن شاء الله - ما يكلف نفسه وربما تمر عليه ولا يفتح صحيح البخاري، لكن تأتيه مثل هذه الرسالة من الإنترنت أو من صديق، ويهيج بها حماسه ويقع في أعظم المؤاخذات الشرعية وأخطرها وأشدها، وربما يرتكب حماقات أعظم من قتل ونحوه، ولا يكلف نفسه ولا يعرف حتى وربما ما رأى بعينيه الجامع الصحيح، مثل مؤلف الرسالة هذه، أنا أجزم أنه لا يعرف صحيح البخاري، عندما يؤلف رسالة كاملة بهذه النتيجة الخطيرة، ولا يوجد فيها حديث واحد من الكتب الستة كلها، هذا من أغرب ما يمكن وأعجبه، ويؤسس بها قضية خطيرة بهذا المستوى، وأعظم من ذلك وضعه عنوانا في الرسالة، فقال: من نجاهد؟ ومن نقاتل؟ طبعا كل الناس بالنسبة له بمن فيهم المسلمون الذين حكم عليهم بالردة».

ويصل الأستاذ في علوم الفقه في مكة المكرمة إلى وصفه بقوله: «حديث غريب في ألفاظه، منكر في متنه، معضل في سنده، منسوب لعلي بن أبي طالب ولعلمه، أو ربما لجهله ما خرجه ولا ذكر من رواه، وهذه أساليبهم، مثل هذه الرسائل ما يكلف نفسه بتخريج الحديث ولا الإشارة إلى مواضعه ولا ما قيل في علله؛ لأنه سينبه القارئ إلى أنه حديث ضعيف، ويمكن أن يقال له: كيف تأتي بحديث ضعيف؟ فلا يؤخذ كلامه وهو يريد أن يؤخذ كلامه بتهييج العاطفة».

ويضيف أن هناك آيات براءة مثلا التي جعلها صاحب الرسالة في الحديث، أو أدخلها في لفظ هذا الحديث المعضل، فمثلا جهاد المشركين.. نعم جهاد المشركين حاصل وفعله النبي - صلى الله عليه وسلم - لكن آيات براءة لما نزلت نزلت كمرحلة أخيرة من التشريع، نحن نعلم ما بينه الأئمة وهذه القضية شرحت بتفصيل، حتى يراجع من أراد أن يراجع شيخ الإسلام ابن تيمية في كتاب «الإيمان الأوسط» آخر عزوة غزاها النبي - صلى الله عليه وسلم - بنفسه هي غزوة تبوك في السنة التاسعة من الهجرة، وبعدها ما غزا ولا جهز جيشا ولا حتى سرية إلا قبل موته بأيام، عقد الراية لأسامة ثم توفي - عليه الصلاة والسلام - وأنفذ الجيش أبو بكر بعدها، أما ما سوى ذلك فلم ينفذ غزوة ولا سرية بعد تبوك، وما بقي في جزيرة العرب في سنة 9هـ لا يدين بالإسلام إلا قبائل متفرقة وأفراد ضمن قبائل ضمن قريش.

وفي نهاية المطاف، يصل الدكتور عبد العزيز الحميدي إلى أن الرسالة، على الرغم من أنها تعتبر صغيرة من حيث الحجم، فإنها «تمتلئ بالأفكار التي ربما توجه المجتمع نحو الهاوية فعلا، ولن تؤدي إلى حضارة ولا فائدة ولن تبلغ قمة بأي حال من الأحوال، لاعتمادها على أقوال الرأي، بل الرأي المحض الذي من خلاله يأتي بالأحاديث، ثم يحرفها بناء على هواه وتفسيره».