مع تنامي الحركات الإسلامية.. كلمة «عربي» أصبحت غير شعبية بالمنطقة

بالنسبة لها الرعاية الاجتماعية مجرد صدقات.. وتتبع براغماتية ماكرة

مسلحون فلسطينيون خلال مؤتمر صحافي في السادس من الشهر الحالي في غزة اتهموا خلاله أجهزة الأمن الفلسطينية بتوقيف زملاء لهم في الضفة الغربية (رويترز)
TT

لم يلتفت سوى قليلين إلى عبارة قالها زعيم حزب الله اللبناني، حسن نصر الله، خلال كلمة ألقاها هذا الشهر، لكنها تنبئ عن الكثير عن السياسة اليوم بالنسبة للإسرائيليين والفلسطينيين والعالم العربي.

مخاطبا عشرات الآلاف من أنصار حزبه الذين تجمعوا في بيروت للترحيب بالرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد، أعلن حسن نصر الله أن الجمهورية الإسلامية الإيرانية تدعم «(اللاءات) التي أعلنها العرب خلال فترة حكم الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر في الخرطوم قبل أن يتراجع عنها الكثير منهم بعد ذلك. وتجدد إيران دعمها لهذه (اللاءات) جنبا إلى جنب مع الأمة العربية».

وهذه هي «اللاءات» التي أعلنتها الدول العربية في القمة العربية المهمة التي عُقدت في الخرطوم، بعد هزيمة إسرائيل لجيرانها العرب عام 1967. وتشير إلى عبارات «لا» للسلام مع إسرائيل و«لا» للمفاوضات معها و«لا» للاعتراف بها.

لقد كان الرئيس المصري جمال عبد الناصر حامل لواء القومية العربية العلمانية في هذه الفترة، لكن حرب 1967 كانت لحظة النهاية بالنسبة له، أما اليوم، فإن إيران، بالاختيار أو الإجبار، أضحت راعية جيل من المعارضة السياسية التي تحمل طابعا دينيا في المنطقة.

في هذه المنطقة المضطربة التي كانت تعج بالآيديولوجيات - من الماويين إلى السلفيين - لم يتبق سوى الحركات الإسلامية، من الإخوان المسلمين في مصر إلى حماس في الأراضي الفلسطينية إلى حزب الله في لبنان، وربما يكون حزب الله هو النموذج الأكثر شراسة. وسواء أكانت مواقفهم المعارضة لإسرائيل والأنظمة العربية أم الظلم الكبير الواقع على العرب، فإن الإسلاميين هم وحدهم من يحمل رسالة تتمتع بشعبية كبيرة ولها مؤيدون متحمسون في المنطقة، وذلك باستثناءات قليلة.

وهيمنة هذه الحركات الإسلامية ليست جديدة؛ فعلى مدى جيل استطاعت هذه الحركات أن تحل محل الحركات العلمانية واليسارية التي كانت موجودة في المنطقة، والتي قد تتصرف في كثير من الأحيان (وحتى تتحدث في بعض الأحيان) مثل الإسلاميين، لكن احتكار الحركات الإسلامية للمعارضة أصبح واضحا أكثر وأكثر. وأعادت هذه الحركات تفسير الصراعات - بين العرب والإسرائيليين والشرق والغرب - وسلطت الضوء على درجة التحول في فكرة الهوية في العالم العربي، لدرجة أن كلمة «العربي» لم تعد ذات شعبية في وصف هذا العالم. وفي ظل سياسة مجردة من أي فكر سوى الفكر الديني، فقد ضيقت تلك الحركات طرق التغيير في المنطقة التي يتوق سكانها إليه.

وتظهر هذه الحركات في كثير من الأحيان براغماتية ماكرة؛ حيث حقق الإسلاميون في تركيا ومصر ولبنان والأراضي الفلسطينية نجاحات انتخابية. وربما تدعم هذه الحركات وجود كيان سياسي ديمقراطي، لكن عند تعاملهم مع قضايا المنطقة، بدءا من مشكلة الفقر إلى القضية الفلسطينية، فإنهم يفرضون نموذجا مبنيا على الأخلاق والقيم المطلقة، وأحيانا يميلون إلى إهمال المشكلات الأكثر إلحاحا في المجتمع أو تحويلها إلى خطب غير مرغوبة.

وهذا هو السبب الرئيسي الذي يجعل المصلحين والمعارضين من خارج هذه الحركات يشعرون بالتشاؤم. يقول فواز طرابلسي، وهو مؤرخ وكاتب وناشط يساري لبناني: «السياسة الدينية، أو الدين المسيس، تسيطر الآن على المنطقة». وعندما سُئل عما إذا كان هناك أي بديل مقاوم لهذه الهيمنة – بعيدا عن الجماعات المتطرفة غير العملية والتي تدعي المثالية المطلقة - هز الطرابلسي رأسه وقال: «لا، لا أعتقد أنه يوجد».

وتستضيف الجامعة الأميركية في بيروت معرضا لتشكيلة تحتوي على مئات الصور والملصقات تعود لفترة كانت تتميز بالعنف والأحداث الكبيرة، ولكن بالنسبة للكثيرين في المنطقة، فإنها كانت فترة بها قدر أكبر من الأمل في إيجاد حلول جذرية لمشكلات المنطقة. فهذه الصور والملصقات مختارة بعناية وانتقائية، من ملصقات الدعاية السياسية الخاصة بالحركات الفلسطينية العلمانية والوعود التي أطلقها الشركاء اللبنانيون منذ جيل لإلغاء النظام الطائفي الغامض في البلاد.

وكان لدى الكثيرين في هذه الفترة مشاعر فياضة تجاه حركات التحرر في العالم الثالث. وتظهر قصات شعر الأشخاص الموجودين في هذه الصور الفترة التي ينتمون إليها. وكذلك الحال بالنسبة للعبارات المستخدمة فعبارة «الكفاح المسلح»، كانت بديلة عن كلمة «الجهاد» التي أصبحت مفضلة اليوم، لكنها تحمل مثالية متوهجة. وبالنسبة للغرب، فإن هذه الفترة قد شهدت مذبحة ميونيخ وعمليات الاختطاف وصعود منظمة التحرير الفلسطينية بقيادة ياسر عرفات، ولكن بالنسبة للكثير من العرب، فقد كان هذا عصرا مليئا بالأمل في حدوث تغيير حقيقي، وذلك عندما أسرت الحركة الفلسطينية مخيلة العرب إلى درجة ليس لها مثيل من قبل أو بعد.

ونجد على أحد هذه الملصقات عبارة تقول: «من خلال الثورة تحرر المرأة»، ويقول ملصق آخر: «فلسطين للفلسطينيين.. أيا كان دينهم». وتروج شعارات أخرى إلى منظمة التحرير باعتبارها «الممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني»، وهي شعارات تاريخية تبعث على الحزن بالنظر للانقسام الحالي بين حركة حماس الدينية المتشددة وما تبقى من السلطة الفلسطينية العلمانية التي تقوم بعقد بمفاوضات متقطعة وغير واعدة مع إسرائيل. وهناك ملصق لبناني عليه وعد أطلقه قائد لبناني راحل: «إن القيادة الجديدة القادرة على بناء لبنان الحقيقي ليست قيادة إسلامية ولا مسيحية، بل قيادة وطنية».

إن هذه الشعارات ليست مجرد حنين للماضي، إنها تتحدث بصورة مؤثرة عن أمور وقضايا لم تعد تناقش الآن، وهي حقوق المرأة والمواطنة العلمانية التي تتجاوز الهويات الأكثر بدائية المستخدمة حاليا (مثل مسلم سني ومسلم شيعي ومسيحي وغيرها من الهويات)، والفجوة المتسعة بين الأغنياء والفقراء. وبالنسبة لكثير من الإسلاميين، فإن قضية الرعاية الاجتماعية هي قضية صدقات وتبرعات خيرية وليست قضية إعادة هيكلة المجتمع.

وكثيرا ما يستخدم الصحافيون كلمات مثل «الراديكالي» أو «المسلحين»، ولكن هذه الكلمات المختزلة غير صالحة لوصف المعارضة الإسلامية الموجودة حاليا.

ويقول كريم مقدسي، الأستاذ بالجامعة الأميركية في بيروت: «إنهم فقط راديكاليون فيما يتعلق برفضهم للهيمنة الإسرائيلية في المنطقة». وفي الواقع، فإن حزب الله قد تخلى منذ فترة طويلة عن فكرة صبغ المجتمع اللبناني بالصبغة المحافظة، وذلك ليتمكن من توحيد جمهوره المتنوع. وبينما كان يطالب قبل 25 عاما بإقامة دولة إسلامية على غرار الجمهورية الإسلامية الإيرانية، فإن حزب الله يشارك الآن في النظام السياسي الطائفي السائد. وشأنه شأن جماعة الإخوان المسلمين في مصر وحزب العدالة والتنمية في تركيا، فإن الحزب يساعد في تمثيل طبقة وسطى صاعدة في المنطقة. ويقول إلياس خوري، الكاتب والناقد اللبناني: «إنهم ليسوا ضد الدولة في كل شيء. الشيء الوحيد هو أنهم يريدون إدارة الدولة بطريقتهم الخاصة».

ولكن الأثر الأكبر لصعود هذه الحركات كان على الصراع العربي - الإسرائيلي، الذي تحول من صراع بين قوميات متنافسة إلى صراع تاريخي بين الأديان، مليء بالمشاعر وأكثر تجذرا في الهويات وصراع أضحى بين مسلمين ويهود، وبذلك أصبح أكثر خطورة؛ لأن إدخال المقدس في النقاش يجعل الوصول إلى حلول وسطى أمرا بالغ الصعوبة. ويقول خوري: إن وضع الأصولية اليهودية في مواجهة الأصولية الإسلامية «هو علامة على قرب وقوع كارثة، وهذا هو الوضع الذي نحن فيه الآن».

وفي مخيم شاتيلا للاجئين الفلسطينيين في لبنان، حيث قتلت الميليشيات المسيحية مئات الفلسطينيين وربما أكثر بعد انسحاب المقاتلين الفلسطينيين في 1982، لا تزال هناك رمزية لعصر مضى. ولكن الملصقات الخاصة بياسر عرفات وحركة فتح التي كان يتزعمها تلاشت، حتى الصور تبدو غير صالحة لهذا الزمن، فإطارات النظارات السميكة أضحت غير عصرية. والشعارات الموجودة الآن هي من قبيل «أمة محمد».

وتنتشر هذه الملصقات في الشوارع الضيقة؛ حيث يلعب الأطفال الفلسطينيون في مقالب القمامة من دون أن يكون لديهم أمل في العودة إلى أرض أجدادهم، وتتشابك الأسلاك الكهربائية التي تنافس أسلاك كهرباء بغدد التي لا تحمل كهرباء، وحيث تفوح رائحة مياه الصرف الصحي. ومن بين هذه الملصقات ملصقات تحمل عبارات مثل «الاستشهاد هو الحياة» و«إنه جهاد: نصر أو استشهاد».

في محل البقالة الخاص به، جلس غسان عبد الهادي، وهو أب لأربعة أطفال، مع أقاربه بعد أيام قليلة من زيارة الرئيس الإيراني أحمدي نجاد. وفي الشارع، كان هناك استنكار للسلطة الفلسطينية لكونها «خادمة لأميركا». وأشاد تاجر آخر بحزب الله؛ لأنه تحمل تكاليف العملية الجراحية التي كان والده بحاجة إليها. وعبد الهادي الذي لا ينتمي إلى فكر معين، أعرب عن أمله في الخير، على الرغم من أنه كان في الواقع يخشى وقوع الأسوأ.

وقال التاجر: «عندما لا يقف أحد بجانبك، عليك أن تتوكل على الله. ضع ثقتك فيه وأنت تواجه ما يخبئه لك القدر».

* خدمة «نيويورك تايمز» - خاص بـ«الشرق الأوسط»