مؤسس «ويكيليكس» يواجه الاستخبارات الغربية وانشقاقات مساعديه

يحجز غرف الفنادق بأسماء مستعارة وينام على الأرض أو الأريكة.. وبعض معاونيه يتهمونه بالديكتاتورية

TT

ينتقل جوليان أسانغ بين الدول كشخص مطارد، ففي مطعم إثيوبي مزدحم في منطقة بادينغتون في لندن تحدث الرجل بصوت خفيض، أشبه بالهمس، لينقل مخاوفه من بعض أجهزة الاستخبارات الغربية.

زيادة في الحيطة يطلب أسانغ من الموالين له، الذين تتضاءل أعدادهم، استخدام هواتف جوالة مشفرة غالية، وقام بمبادلة هاتفه، في الوقت الذي قام فيه رجال آخرون بتغيير قمصانهم. ويحجز أسانغ غرف الفنادق بأسماء مستعارة، ويصبغ شعره، وينام على الأريكة أو أرضية الحجرة، ويستخدم النقد السائل بدلا من بطاقات الائتمان، وغالبا ما يقترض من الأصدقاء.

وقال أسانغ أثناء تناول الغداء أمس الأحد، عندما وصل معتمرا قبعة من الصوف، ولحيته قصيرة، ومعه مجموعة من الشباب من بينهم مخرج مكلف بتوثيق أي أحداث سيئة يمكن أن تقع لأسانغ «عندما قررت السير في هذا الدرب، رافضا تقديم أي تنازلات، وجدت نفسي في موقف لا أحسد عليه».

في رحلته المميزة إلى عالم الفضائح يرى أسانغ، مؤسس موقع «ويكيليكس» الشهير الذي يدق جرس الإنذار، أن الأسابيع القليلة القادمة هي الأكثر خطورة في حياته، حيث يقوم الآن بنشر أكثر من 391.832 وثيقة سرية حول حرب العراق. وقد عقد أسانغ مؤتمرا صحافيا في لندن يوم السبت، قال فيه إن الإفراج عن الوثائق يشكل أهم الروايات الشاملة والمفصلة لأي حرب تدخل إلى السجلات العامة.

وكانت المؤسسة التي يديرها أسانغ قد نشرت على موقعها ما يقرب من 77.000 وثيقة سرية من البنتاغون حول الحرب في أفغانستان.

تغير الكثير منذ عام 2006، عندما استخدم أسانغ (39 عاما) سنوات القرصنة على الكومبيوترات وما يسميه الأصدقاء اختبار ذكاء العباقرة لتأسيس موقع «ويكيليكس»، ليعيد صياغة مفهوم دق جرس الإنذار، عبر جمع عدد كبير من الأسرار ثم تخزينها بعيدا عن متناول الحكومات والأفراد الآخرين المصممين على استعادتها، ثم الإفراج عنها دفعة واحدة وعلى مستوى العالم.

والآن لا ترغب الحكومات فقط في القصاص منه، بل إن بعض أصدقائه القدامى تخلوا عنه لما قالوا إنه ينتهج أسلوبا غريبا، واستبداديا غير مسبوق، عبر إدراك أن هذه الأسرار الرقمية التي يكشف عنها سيكون ثمنها أرواحا تزهق.

ويؤكد الكثير من زملاء «ويكيليكس» أن أسانغ وحده هو من قرر الإفراج عن وثائق أفغانستان من دون الكشف عن أسماء المصادر الاستخباراتية لقوات الناتو. فتقول بيريجيتا جونسدوتير، أحد أبرز المتطوعين في «ويكيليكس» وعضو البرلمان الآيسلندي «كنا غاضبين جدا من ذلك، ومن الصورة التي تحدث بها في ما بعد. ولو أنه ركز على الأشياء المهمة التي اعتاد القيام بها لكان ذلك أفضل».

خضع أسانغ للاستجواب بشأن تهمة الاغتصاب والتحرش بسيدتين سويديتين، وقد أنكر هذه التهم قائلا إن هذه العلاقات كانت بموافقة السيدات، لكن المدعين العامين السويديين لم يوافقوا حتى الآن رسميا على توجيه اتهام لأسانغ، وفي الوقت ذاته لم يرفضوا القضية على الرغم من مرور ثمانية أسابيع من الشكاوى المرفوعة ضده، وهو ما نتج عنه رفض طلبه بمقر آمن له ولـ«ويكيليكس». وعلى الرغم من وصفه هذه المزاعم بأنها «حملة لتشويه السمعة»، فإن الفضيحة زادت من حدة الضغوط على حياة الخفاء التي يعيشها.

وقال خلال الغداء «عندما يصل الأمر إلى الحد الذي قد ترى معه السجن في بعض الأحيان المكان الوحيد الذي تستطيع أن تمضي فيه يوما كاملا في قراءة كتاب، يتضاءل هذا الأمل في إمكانية تحقيق ذلك، لتصبح الضغوط أكثر وطأة مما قد ترغب».

> كشف الأسرار قطع أسانغ شوطا طويلا من طفولة غير مستقرة في أستراليا، حيث نجا من السجن بعد اتهامه بـ25 قرصنة على الحاسبات عام 1995. وله تاريخ حافل بالجواسيس والمنشقين وآخرين كشفوا عن أسرار بالغة الدقة والخطورة في حياتهم. وقد تحول أسانغ إلى هذه الشخصية في حقبة الإنترنت، مع العواقب غير المحسوبة له ولحاملي أسرار هذا العالم. وقال دانييل إيلسبيرغ، الذي نشر 1.000 دراسة سرية عن حرب فيتنام عام 1971 والتي اشتهرت فيما بعد باسم وثائق البنتاغون «كنت أنتظر على مدى 40 عاما أن يأتي شخص ليكشف عن وثائق سرية على نطاق ربما يشكل فارقا». وقال إيلسبيرغ إنه يرى تشابها كبيرا بين أسانغ وبرادلي ماننغ، عميل الاستخبارات السابق البالغ من العمر 22 عاما، والموقوف حاليا في كوانتيكو في فيرجينيا، للاشتباه في تورطه في تهريب وثائق حربي أفغانستان والعراق. وأضاف إيلسبيرغ «لقد كانا على استعداد للسجن أو الإعدام نتيجة لنشر هذه المعلومات».

لعل أهم ما يثير قلق أسانغ هو شكوكه العميقة إزاء ما يمكن أن تفعله الولايات المتحدة وحلفاؤها، فيقول مسؤولون بارزون في وزارتي العدل والبنتاغون إنهم بصدد تقييم ما قام به أسانغ وفق قانون التجسس لعام 1971، وإنهم طالبوا أسانغ بإعادة كل الوثائق الحكومية التي بحوزته، والتعهد بعدم نشر أي وثائق جديدة وعدم السعي وراء أي مواد أميركية مجددا.

لكن أسانغ رد على ذلك بالمضي في طريقه، لكنه لم يجد ملجأ، فخلال الجدال الناشئ عن وثائق أفغانستان سافر أسانغ إلى السويد سعيا وراء الحصول على تصريح إقامة وحماية بموجب قانون الصحافة الواسع النطاق. كان شعوره الأول عظيما.

وقال «أطلقوا علي في البداية لقب جيمس بوند الصحافة، وكان لي الكثير من المشجعين، وانتهى بعضهم إلى أن سببوا لي بعض المشكلات».

وخلال أيام أدت علاقته بسيدتين سويديتين إلى اعتقاله بتهم الاغتصاب والتحرش، وقد صرحت كارين روساندر، المدعية العامة، الأسبوع الماضي، بأن الشرطة لا تزال تواصل التحقيق في القضية.

وفي أواخر سبتمبر (أيلول) غادر أسانغ ستوكهولم، وقد اختفت الحقيبة التي تحقق منها قبل صعوده على الطائرة شبه الخاوية، مع ثلاث حاسبات محمولة مشفرة. ولم تظهر هذه الحاسبات حتى الآن. ويشك أسانغ في أن الحقيبة والحاسبات تم اعتراضها. ومن ألمانيا سافر أسانغ إلى لندن خشية اعتقاله لدى وصوله. وبموجب القانون البريطاني فإن جواز سفره الأسترالي يخوله بالإقامة في المملكة المتحدة لمدة ستة شهور. وقد فقدت آيسلندا، التي تتمتع بقانون صحافة جيد، جاذبيتها أيضا عندما خلص أسانغ إلى أن حكومتها مثل حكومة بريطانيا تنصاع بسهولة لواشنطن. أما في بلده أستراليا، فقد أبدى الوزراء رغبتهم في التعاون مع الولايات المتحدة إذا ما أقامت دعوى ضده. وقال أسانغ إن مسؤولا أستراليا بارزا قال له «لقد تجاوزت الحدود المسموح بها، وستنال جزاء تجاوزك».

في الوقت ذاته يواجه أسانغ هجوما من داخل مساعديه في «ويكيليكس»، فبعد المضايقات بشأن فضيحة السويد، تزايدت الضغوط داخل «ويكيليكس» إلى نقطة اللارجعة، مع انشقاق الكثير من أقرب مساعدي أسانغ. وقد تحدثت «نيويورك تايمز» مع عشرات من الأفراد الذين عملوا معه ودعموه في كل من آيسلندا والسويد وألمانيا وبريطانيا والولايات المتحدة.

ما تمخض عن ذلك لم يكن صورة لمؤسس «ويكيليكس» كمبتكر رئيس وقوة كاريزمية، بل كشخص واكبت شهرته المتنامية، تنامي نهجه الديكتاتوري والغريب والمزاجي. بيد أنه على الرغم من الحياة غير المستقرة والتنقل الدائم الذي يعيشه أسانغ، فإنه فرض قيادته عبر الإنترنت، فعلى الرغم من تعامله عن بعد فإن نهجه في العمل كان ضروريا. ففي رسالة إلكترونية تبادلها مع أحد المتطوعين وحصلت «التايمز» على نسخة منها، حذره من أن الموقع سينهار من دونه.. وقال «إننا نعاني من حالة من الاحتضار الآن».

وعندما سئل هيربرت سوراسون (25 عاما)، الناشط السياسي في آيسلندا، حول رأي أسانغ في عدد من القضايا في رسالة بريد إلكتروني الشهر الماضي، قال «إن أسانغ لا يقبل التفاوض، فهو عنيد ومتصلب الرأي، وكان يقول: أنا لا أحب النبرة التي تتحدث بها، فإن لم تواصل فلترحل».

وصف أسانغ نفسه بأنه لا يمكن الاستغناء عنه، فقال لسوراسون في رسالة «أنا قلب وروح هذه المنظمة ومؤسسها وفيلسوفها والمتحدث باسمها والمشفر الرئيسي لها ومنظمها وممولها وكل ما يستتبع، فإن كانت لديك مشكلة معي فالأفضل أن ترحل».

وقال في مقابلة بشأن الرسالة (استنتاج سوراسون كان صريحا) «إنه يهذي». لكن أسانغ كان صارما حيال منتقديه في لندن، حيث وصفهم بأنهم «أشخاص غير مهمين».

وقال سامري مكارثي، المتطوع الآيسلندي، الذي ترك المنظمة مؤخرا في أعقاب الاضطرابات الأخيرة داخلها «إن ما يزيد على عشرة أشخاص ممن شعروا بالإحباط تركوا المنظمة في الآونة الأخيرة». وفي أواخر الصيف الماضي قام أسانغ بتعليق عضوية دانييل دومشيت بيرغ، الألماني الذي كان يشغل منصب المتحدث باسم «ويكيليكس» تحت اسم مستعار هو «دانييل شميت»، متهما إياه بارتكاب ما سماه «سلوكا سيئا». وقال مكارثي إن الكثير من الناشطين يُتوقع أن يتركوا المنظمة. وقد نفى أسانغ ترك أي من الأعضاء البارزين للمنظمة، بخلاف دومشيت بيرغ، لكن المزيد من الانشقاقات يمكن أن تؤدي إلى إصابة المنظمة بالشلل، والتي يقول عنها أسانغ إنها تضم 40 متطوعا أساسيا ونحو 800 متطوع، غالبيتهم لا يتقاضون راتبا، لتشغيل شبكة من خادمات الحاسبات وتأمين النظام من الهجمات - لحمايته من الاختراقات التي استخدمتها «ويكيليكس» ذاتها للحصول على المعلومات.

ويتهم المنتقدون أسانغ بأنه يحاول النيل من الولايات المتحدة. وقال أسانغ في لندن «إن الولايات المتحدة مجتمع معسكر على نحو متزايد، ويشكل تهديدا للديمقراطية. علاوة على ذلك، نحن نتعرض للهجوم من قبل الولايات المتحدة، ولذا فنحن في حالة توجب علينا الدفاع عن أنفسنا».

حتى بين أولئك المعارضين لأسلوب أسانغ في قيادة المنظمة هناك اعتراف بأن النظام المالي والحاسوبي المعقد الذي تستخدمه مؤسسة «ويكيليكس» ضد أعدائها يعتمد على مؤسسها.

* خدمة «نيويورك تايمز»