ساركوزي انتهج استراتيجية بـ3 ركائز لكسب معركة نظام التقاعد

الأزمة انتهت في جانبها التشريعي مؤقتا لكنها قد تعود للتفاعل بأشكال جديدة

لوحة في الجمعية الوطنية تظهر نتيجة التصويت على مشروع إصلاح نظام التقاعد (338 صوتا مقابل 233) في باريس أمس (أ.ب)
TT

أسدل الستار أمس على الجانب التشريعي من مشروع إصلاح قانون التقاعد في فرنسا بعد أن صوتت الجمعية الوطنية، في قراءة ثانية، على المشروع الذي سبق له أن عاد أول من أمس مجددا إلى مجلس الشيوخ. ولم يعد ينقص المشروع حتى يتحول إلى قانون نافذ سوى صدوره عن رئيس الجمهورية، وهو ما يتوقع حصوله في الأسبوع الثاني من الشهر المقبل.

ومع إتمام هذه العملية تكون رئاسة الجمهورية ومعها الحكومة قد حققت «إنجازا» ملحوظا إذ إنها «قاومت» ضغوط النقابات والأحزاب اليسارية والشارع، وتحاشت تعطيل الاقتصاد على نطاق واسع، وفرضت إصلاحا غير شعبي، لكنه «ضروري» لفرنسا من أجل الحفاظ على نظامها الاجتماعي، على الرغم من أن الإصلاح يعد «تراجعا» اجتماعيا لأنه يمد سن العمل إلى 62، بينما المكتسبات الاجتماعية التي حصل عليها الموظفون والعمال منذ أربعينات القرن الماضي كانت كلها في إطار توفير مزيد من الضمانات الاجتماعية، وخفض ساعات العمل الأسبوعي، وتقديم سن التقاعد. ولكن على الرغم من الإصلاح الجديد، فما زال المواطن الفرنسي «محظوظا» قياسا لما عليه حال البريطاني (66 عاما) أو الألماني (65 عاما) أو الإسباني (67 عاما).

وفي محاولة «يائسة» لعرقلة العمل بالقانون الجديد، أعلنت أمينة عام الحزب الاشتراكي، مارتين أوبري، أنها ستنقل الملف إلى المجلس الدستوري للنظر في مدى ملاءمة القانون الجديد مع أحكام الدستور. لكن ليس ثمة من يراهن على تصدي المجلس الدستوري لرغبة الحكومة في الإسراع في وضعه موضع التنفيذ، وقلب صفحة المظاهرات والإضرابات وتراجع شعبيتها وشعبية الرئيس ساركوزي، الذي رهن إلى حد بعيد مستقبله السياسي بمصير هذا المشروع.

غير أن تكامل الجانب القانوني لا يعني أبدا أن مفاعيله السياسية والنقابية قد انتهت. ذلك أن النقابات دعت الفرنسيين إلى يوم إضراب شامل اليوم. فالفرنسيون سينزلون مجددا إلى الشوارع اليوم للمرة السابعة منذ الأول من سبتمبر (أيلول)، كما أن الإضرابات ستعم القطاع العام وبعض القطاعات الخاصة. والأنظار ستتجه كلها إلى المقارنة بين ما سيحصل اليوم والتعبئة الكبيرة التي عرفتها فرنسا في الأسابيع الماضية حين نزل إلى الشوارع ما يقارب 3.5 مليون شخص، بحسب إحصاءات النقابات.

وأفادت إدارة الطيران المدني بأن نصف الرحلات الجوية من وإلى مطار أورلي الباريسي ستلغى، بينما 30% من الرحلات من وإلى مطار رواسي (شمال باريس) ومطارات المناطق ستلغى. وستنزل مسيرات نقابية وشعبية في باريس والمدن الفرنسية الرئيسية. غير أن المراقبين يتوقعون أن ينخفض مستوى التعبئة لأن الكثيرين، وبينهم نقابات فاعلة مثل نقابة الكادرات أو كونفدرالية العمل القريبة من الحزب الاشتراكي، لا بل سياسيين مثل الأمين العام السابق للحزب المذكور فرنسوا هولند، يعتبرون أن هناك زمنين: زمن التحرك النقابي والتعبئة الشعبية والزمن القانوني، وأن مشروع القانون، عندما يتحول إلى قانون، يفترض على الجميع احترامه. كذلك، فإن الطلاب والتلامذة في عطلة مدرسية تدوم حتى الثاني من الشهر المقبل. وبموازاة ذلك، تراجعت الحدة على الجبهة الاستراتيجية المتمثلة في قطاع الطاقة، إذ إن 5 من أصل 12 مصفاة نفطية عادت إلى العمل، بينما 4 من 5 محطات وقود نجحت في التزود بهذه المادة الحساسة التي كادت تكون الشعرة التي تقصم ظهر البعير لو نجحت النقابات في منع توزيعها على نطاق واسع على المناطق الفرنسية كافة.

وعلى الرغم من هذا النجاح الحكومي، فإن اليسار والنقابات والطلاب لن يلقوا السلاح ويعدون بأشكال تحرك «أخرى» مقبلة. والرأي السائد أنه لا شيء يمنع في المستقبل من العودة عن القانون الجديد وتعديله بالوسائل الدستورية والقانونية. ولذا، فإن اليسار بشكل عام يضرب لمحازبيه موعدا في عام 2012 عقب الانتخابات الرئاسية والتشريعية التي يأمل الفوز بها من أجل العودة عن هذا القانون.

وما يثبت اليسار في موقعه نتائج استطلاعات الرأي العام التي تبين تراجع شعبية ساركوزي بشكل لم يعرفه منذ انتخابه في ربيع عام 2007. وبحسب آخر استطلاع، فإن 29% فقط من الفرنسيين راضون أو يؤيدون سياسة ساركوزي وعمله على رأس الدولة. غير أن هذا المعطى لا يغير في الواقع شيئا، إذ إن الحكومة نجحت في تمرير مشروعها ودافعت عن طروحاتها، ولم تقدم سوى «تنازلات» هامشية للنقابات. ويرى مراقبون أن استراتيجية ساركوزي، التي فرضها على الحكومة والأكثرية البرلمانية، قامت على ثلاثة أعمدة، أولها: الإعلان مسبقا أن المشروع سيمر مهما كانت طبيعة الاحتجاجات وحجمها. وبالطبع، وإزاء التحرك النقابي والشعبي الواسع، سهل اتهام ساركوزي بصم أذنيه عن نداء المواطنين وقلقهم من مشروع لا يريدونه. لكن، من الواضح أن ساركوزي لم يكن أمامه من وسيلة أخرى، إذ إن أي تراجع كان سينسف مصداقيته ويزيد من تراجع شعبيته التي انحدرت كثيرا في الأشهر الماضية، بسبب سياسته الأمنية وطريقة تعاطيه مع موضوع الغجر. وبرز تشدد ساركوزي في استخدامه القوة لفتح مستودعات المحروقات وتموين محطات الوقود. ولم يكن لديه خيار آخر لتلافي شل اقتصاد البلاد.

أما المرتكز الثاني، فتمثل في المراهنة على انقسام النقابات في ما بينها بين معتدلة ومتشددة. ولم ينجح هذا الرهان في بدايته لأن ساركوزي لم يكن لديه ما يعرضه «لإغراء» المعتدلين. لكن بعد إقرار القانون، أخذت الأمور منحى آخر، إذ بدأ الغزل بين هيئة أرباب العمل ونقابة كونفدرالية العمل، مما سينتج عنه «تطرية» الجو الاجتماعي. وعلى الرغم من الأخطاء التكتيكية التي ارتكبتها الحكومة لجهة التقصير في الاستشارات التمهيدية وعدم تداركها لأزمة المحروقات، فإنه راهن على تراخي التعبئة الطلابية بسبب العطلة المدرسية. ولم تكن النقابات تنتظر أن تبلغ تعبئة التلامذة والطلاب المستوى الذي بلغته. ولذا، شكل هذا الرافد عامل ضغط إضافي على السلطة، وأبرز انقطاعها عن «المزاج» العام.

أما المرتكز الأخير لساركوزي، فهو وعد التغيير الحكومي، ليس لأن هذا التغيير سيقلب الأمور رأسا على عقب، بل لأنه سيحرف انتباه الرأي العام عن قانون التقاعد ويركزه على الوضع السياسي وأسماء الوزراء ورئيسهم بالدرجة الأولى. ويدور حديث عن رغبة ساركوزي في تعيين الوزير جان لوي بورلو رئيسا للحكمة لمعرفته الجيدة لعالم النقابات والعمل ولصورته الوسطية ولإعادة ترميم السياسة الاجتماعية لرئيس الدولة. وهذه المرحلة أساسية لساركوزي، إذ إنه ينوي الترشح لولاية ثانية. وإلى جانب حاجته لتجميع اليمين الكلاسيكي وبعض اليمين المتطرف وراءه، فإن ساركوزي يحتاج أيضا إلى ناخبي الوسط للفوز بمواجهة المرشح الاشتراكي غير معروف الهوية في الوقت الحاضر. لكن المرجح أن يكون إما مدير صندوق النقد الدولي دومينيك شتروس خان أو الأمين العام للحزب الاشتراكي مارتين أوبري.