مقدم برنامج تلفزيوني عراقي يقوم بمهمة محفوفة بالمخاطر: إعطاء الميكروفون للجمهور

تلقى آلاف التهديدات وتعرض للضرب.. والحكومة تتهمه بالتحريض

عراقيون يتدافعون للبوح بهمومهم ومشكلاتهم أمام ميكروفون الصحافي العراقي ميناس سهيل («واشنطن بوست»)
TT

في صباح أحد الأيام، بينما كان ميناس سهيل وطاقمه يقومون بتركيب كاميرات في منطقة الباب الشرقي التي يقطنها أفراد الطبقة العاملة تدفق المواطنون على مقدم البرنامج العراقي التلفزيوني الشهير على الفور، وقاموا بإلقاء الوثائق في الهواء، ورفعوا أصواتهم بالشكوى من عدم صرف معاشات التقاعد وعدم وجود رعاية، وانتشار العنف، وفساد الحكومة، وتفشي ظاهرة فقدان الأطفال.

وقال سهيل للجمهور الذي التف حوله: «نريد أن ننقل أصواتكم إلى رئيس الوزراء والرئيس. انتظروا بضع دقائق فقط وسوف نكون على الهواء ويمكنكم أن تنقلوا إليهما شكواكم». ويقدم سهيل، 31 عاما، برنامج «البغدادية والناس» منذ أكثر من عام. يبث البرنامج، الذي يستمر لساعة كاملة، على الهواء في جميع أنحاء العراق في صباح 6 أيام من أيام الأسبوع، ويعاد بثه في الساعة 6:00 مساء. وفكرة هذا البرنامج سهلة وبسيطة، حيث يقوم سهيل بحمل ميكروفون أحمر ويتحدث العراقيون إليه وإلى كل العراق عن معاناتهم وانعدام الخدمات واعتقال أفراد أسرهم وقتل الأطفال والانتهاكات التي يتعرضون لها على أيدي قوات الأمن العراقية والحكومة التي لم تشكل بعد ما يقرب من 8 أشهر من إجراء الانتخابات البرلمانية.

ويقول سهيل: «كان الغضب قبل الانتخابات محاطا بالأمل، لكن لم يعد الآن سوى الغضب فقط، وسوف يصل هذا الغضب إلى نقطة لن يكون بإمكان أحد السيطرة عليه، وهذا أمر خطير». وعلى الرغم من أوجه القصور الكبيرة في الديمقراطية العراقية، فقد غدا العراقيون، على مدى السنوات القليلة الماضية، أكثر جرأة على انتقاد قادتهم علنا. ولكن هذا الانتقاد بدا، في كثير من الأحيان، عديم الجدوى. وتأتي حكومة العراق في المرتبة الرابعة من بين أكثر الحكومات فسادا في العالم. وتعرف قوات الأمن العراقية بسوء معاملتها للمواطنين، والكثير من السجون العراقية تفتقد الكثير من المعايير الدولية، وكثيرا ما يتعرض السجناء فيها لانتهاكات وسوء معاملة.

وفي إحدى حلقات البرنامج التي أذيعت هذا الشهر، نظر محمد حسن إلى الكاميرا وأجهش بالبكاء. فقد سرق ابنه المراهق كيسا من رقائق البطاطس وهو محتجز لدى الشرطة الآن، وتهدد الشرطة بسجنه لمدة 15 عاما. ويقول حسن إنه لكي يتمكن من زيارة ابنه يضطر إلى دفع رشوة كبيرة لا يستطيع في كثير من الأحيان تحملها.

وقال حسن، والدموع تنهمر على وجهه: «ليس لدي أموال أدفعها لهم. النظام القضائي العراقي مثل الكلب الذي يلوح بذيله إلى الأغنياء ويهاجم وينهش جسد الفقراء. وابني فقير لذا ينهش جسده».

وبينما كان علي جمعة، وهو رجل عاطل عن العمل، ينتظر دوره في الكلام، أشاد بالبرنامج الذي يقدمه سهيل وقال: «هذا البرنامج هو صوت الشعب للحكومة. إنه يذهب إلى كل مكان ليرصد معاناة المواطنين، وليس مثل الآخرين الذين يحاولون التظاهر بأن كل شيء على ما يرام». وقبل البدء في تصوير البرنامج في هذا اليوم، تدفق الجمهور على سهيل وأخذوا يقبلونه على خديه ويقفون بجواره لالتقاط صور معه يحتفظون بها على هواتفهم النقالة، وأخذوا يدعون له قائلين: «بارك الله فيك. الله يحميكم».

ولكن عمل سهيل له تكلفة كبيرة، فعلى الرغم من أن العراقيين يتمتعون الآن بنوع من حرية التعبير، فإن الصحافيين يعملون تحت تهديدات خطيرة من المتمردين الذين يمارسون العنف، وكذلك من المسؤولين العراقيين الذين يتعرضون للانتقاد. وتصنف لجنة حماية الصحافيين العراق كواحد من بين 12 بلدا لا يعاقب فيها، في معظم الأحيان، المتورطون في جرائم ضد الصحافيين. وفي معظم الأيام، ينام سهيل بمقر محطة البغدادية، فقد تلقى الآلاف من التهديدات. وقد قتل كثير من الصحافيين العاملين في نفس المحطة منذ أن بدأت بثها. ويقول سهيل إنه قد تعرض للضرب على يد قوات الأمن العراقية عدة مرات بسبب تصويره في الشارع أو بسبب انتقاده لضابط محدد. وقال إنه تعرض للضرب على يد ضباط الشرطة مرتين في الشهر الماضي فقط. وقال إن أحد التهديد جاء من مسؤول مقرب من رئيس الوزراء نوري المالكي، الذي قال له إنه سوف يقطع جسده ويلقي به للكلاب.

وقال سهيل: «يقول السياسيون لي (أنت تحرض ضد الحكومة). ولذلك كل يوم نذهب من طريق مختلف إلى المواقع التي نريد التصوير فيها ونحتفظ بوجهتنا سرا حتى اللحظة الأخيرة، وأحيانا تصلنا تحذيرات ونضطر لتغيير وجهتنا». وتعود ملكية فضائية البغدادية المستقلة، المعروفة بانتقادها الشديد لحكومة نوري المالكي، إلى رجل أعمال عراقي. وتبث المحطة من القاهرة ولها مكتب في بغداد.

والمحطة ربما تكون أكثر شهرة بالحادثة التي قام فيها أحد موظفيها السابقين، منتظر الزيدي، بإلقاء حذائه على الرئيس الأميركي جورج بوش خلال مؤتمر صحافي عام 2008 ليعبر عن غضبه عن أوضاع العراق في أعقاب الغزو الذي قادته الولايات المتحدة. وقد حكم على الزيدي بالسجن وأفرج عنه لاحقا. وقال سهيل عن برنامجه: «نحن نحرج السياسيين، إنهم بحاجة إلى أن يشعروا بالحرج، ونحن لا نضع قيودا على الجمهور، لذلك يمكنهم أن يقولوا ما يريدون ضد الحكومة ورئيس الوزراء والفساد».

ويبدأ سهيل برنامجه كل صباح بكلمات مماثلة لجمهوره والنخبة السياسية، التي يعيش أكثر أفردها داخل المنطقة الخضراء شديدة التحصين التي تضم الكثير من السفارات والمباني الحكومية، وهي منطقة لا تستطيع الغالبية العظمى من العراقيين الوصول إليها، بسبب الجدران الشاهقة ونقاط التفتيش التي تحيط بها.

ويقول سهيل: «هذه الكاميرا هي جسر بين المواطن والمسؤول، فالمسؤول لا يستطيع أن يتجول في الشوارع أو الأزقة. إنه موجود فقط داخل المنطقة الخضراء، ولا يغادر حدودها وجدرانها الخرسانية، ونحن من خلال هذه الكاميرا نخترق هذه الجدران لنضع المواطن أمام المسؤول مباشرة».

ويقف خلف سهيل، في ساحة الطيران، رجل يقوم بعمل الشاي للمارة، في هذا الشارع المزدحم في ساعة الذروة. وتظهر القمامة متناثرة على جانبي الطريق، وكابلات الكهرباء ملتوية متدلية فوق الطريق، ويقوم الباعة بالترويج لبضائعهم. وبمجرد أن أمسك سهيل بالميكروفون الأحمر بدأ طوفان من الموطنين يتدفق عليه ليحكي كل منهم مظلمته. وصرخت امرأة كانت تتسول هي وطفلاها في الشارع أمام الكاميرا، طالبة من الحكومة توفير الغذاء والمأوى لها ولأولادها: «لقد تركني زوجي، وليس لدي مكان أذهب إليه». واستمر طوفان الشكاوى، هناك عصابات تقوم باختطاف المواطنين في جنوب شرقي بغداد، قام جنود سكارى بمداهمة المنازل واعتقال العشرات من الرجال في منطقة الفضل التي يقطنها أغلبية من الطائفة السنية، لا توجد فرص عمل ولا كهرباء ولا خدمات حكومية.

وصاح أحد الرجال قائلا: «أدعو الأمم المتحدة وكل البلدان الفعالة ومنظمات حقوق الإنسان التي طلبت منا الذهاب إلى اللجان الانتخابية والإدلاء بأصواتنا وأطلب منهم أن يعطونا نصيبنا من النفط العراقي، نحن مسجونون وراء جدران خرسانية مثل الحيوانات المتوحشة وهذه الأقفاص لا تصلح للبشر».

وتوقف سهيل عن البث في الساعة 8:30 صباحا وعاد إلى الاستوديو. وقال سهيل، وهو يشير إلى مشاهد الحزن والتهديدات التي يتعرض لها: «بإمكاني التعامل معها أكثر من غيرها. إن المسؤولين العراقيين لا يستطيعون الذهاب إلى منازل المواطنين وفتح ثلاجاتهم ليروا أنها خاوية، وهم لا يستطيعون الوصول إلى مواطنيهم».

* خدمة «واشنطن بوست» خاص بـ«الشرق الأوسط»